يستمر الجدل حول أصول الخلايا المعقدة

لمليارات السنين بعد نشأة الحياة، كانت الكائنات الحية الوحيدة على الأرض هي خلايا بدائية صغيرة تشبه بكتيريا اليوم. ولكن بعد ذلك، منذ أكثر من 1.5 مليار سنة، حدث شيء رائع: إحدى تلك الخلايا البدائية، التي تنتمي إلى مجموعة تعرف باسم العتائق، ابتلعت خلية أخرى مختلفة (جرثومة).

بدلاً من هضمها، اتخذت البكتيريا مكانًا دائمًا داخل الكائن الحي الآخر، من خلال ما يسميه علماء الأحياء بالتعايش الداخلي. في النهاية، اندمجت بالكامل في الخلية المضيفة البدائية، لتصبح ما نعرفه اليوم باسم الميتوكوندريا، المكون الأساسي لإنتاج الطاقة في الخلية.

يُنظر إلى هذا الاندماج منذ فترة طويلة على أنه الخطوة الرئيسية فيما يمكن القول إنه أهم قفزة تطورية منذ نشأة الحياة نفسها: الانتقال من الخلايا البدائية المبكرة، أو بدائيات النوى، إلى الخلايا الأكثر تعقيدًا للكائنات الحية الأعلى، أو حقيقيات النوى، بما في ذلك نحن.

إنها قصة رائعة ستجدها في معظم كتب الأحياء المدرسية، لكن هل الأمر بهذه البساطة؟ في السنوات القليلة الماضية، تحدت أدلة جديدة فكرة أن الميتوكوندريا لعبت دورًا أساسيًا في هذا التحول. وجد الباحثون الذين قاموا بتسلسل الجينوم لأقارب العصر الحديث لحقيقيات النوى الأولى العديد من الجينات غير المتوقعة التي لا يبدو أنها تأتي من المضيف أو التعايش الداخلي. وقد يعني ذلك بحسب بعض العلماء أن تطور حقيقيات النوى الأولى شمل أكثر من شريكين، وحدث بشكل تدريجي أكثر مما كان متوقعًا.

لا يرى آخرون وجود سبب للتخلي عن النظرية القائلة بأن اكتساب الميتوكوندريا كان الشرارة التي أشعلت التطور السريع لحقيقيات النوى حتى الآن، مما أدى بعد دهور إلى ظهور النباتات والحيوانات والفقاريات وأنفسنا. قد تساعد الأدلة الجديدة من علم الجينوم وبيولوجيا الخلية في حل الجدل، مع الإشارة أيضًا إلى الفجوات المعرفية التي لا تزال بحاجة إلى سد لفهم أحد الأحداث التأسيسية عند أسلافنا، وهو أصل الخلايا المعقدة.

 لغز وراثي

نشأت الشكوك عندما ظهرت جينات غامضة في العقد الماضي عندما استغل باحثون من بينهم توني جابالدون، عالِم الجينوم التطوري في مركز الحوسبة الفائقة في برشلونة، وزملاؤه تقنية التسلسل الجيني الرخيصة اليوم لاستكشاف جينومات مجموعة واسعة من حقيقيات النوى، بما في ذلك العديد من الأقارب الغامضة والبدائية والحديثة لحقيقيات النوى المبكرة.

لقد توقعوا العثور على الجينات التي ترجع نسبها إلى المضيف البدائي أو سلف الميتوكوندريا، وهو عضو في مجموعة تسمى بكتيريا ألفابروتيوبكتيريا «alphaproteobacteria». لكن وجد العلماء أيضًا جينات يبدو أنها تأتي من مجموعة واسعة من البكتيريا الأخرى. افترض جابالدون وزملاؤه أن السلف الخلوي لحقيقيات النوى اكتسب الجينات من مجموعة متنوعة من الشركاء. قد يكون هؤلاء الشركاء متعايشين داخليين إضافيين فُقدوا لاحقًا، أو بكتيريا تعيش بحرية نقلت واحدًا أو عددًا من جيناتها إلى مضيف الأجداد في عملية شائعة تسمى النقل الجيني الأفقي. في كلتا الحالتين، اقترحوا أن رقصة التانغو التي أدت إلى حقيقيات النوى تضم أكثر من راقصَين.

يقول جابالدون، الذي كتب عن التطور المبكر لحقيقيات النوى في المراجعة السنوية لعلم الأحياء الدقيقة «Annual Review of Microbiology» لعام 2021: «من الواضح الآن أن هناك مساهمات إضافية من شركاء إضافيين».

بحسب جون ماكوتشون، عالم بيولوجيا الخلية التطورية في جامعة ولاية أريزونا في تيمبي، والذي كتب عن تطور التعايش الداخلي في المراجعة السنوية للخلية والنمو في عام 2021، من الصعب معرفة بالضبط من أين أتت تلك الجينات الغريبة القديمة؛ بسبب مرور الكثير من الوقت منذ ذلك الحين. ولكن هناك العديد من حالات التعايش الداخلي الأحدث والأكثر مرونة، والتي يسهل فيها التعرف على أصل الجينات الغريبة. قد يمنحنا دراسة ذلك عن طريق القياس فرصة لفهم كيفية تطور الميتوكوندريا وأول حقيقيات النوى.

وخير مثال على ذلك هو شراكة عمرها حوالي 100 مليون عام بين حشرات تسمى البق الدقيقي ونوعين من البكتيريا، أحدهما متداخل داخل الآخر في خلايا البق الدقيقي. (يصنع المتعايشون الداخليون الأحماض الأمينية الأساسية التي لا يستطيع البق الدقيقي الحصول عليها من نظامها الغذائي.) بناءً على التحليل الجيني، وجد ماكوتشين وزملاؤه أن المسارات الأيضية للبق الدقيقي عبارة عن فسيفساء مكونة من الجينات التي نشأت مع الحشرات نفسها، جاؤوا مع المتعايشين الداخليين أو اكتسبتهم هذه الحشرات عن طريق النقل الأفقي من الميكروبات الأخرى في البيئة. لإنجاز هذا العمل، أظهر فريق ماكوتشيون، أن خلايا البق الدقيقي كان عليها أن تطور جهازًا ينقل البروتينات إلى ذهابًا وإيابًا بين الكائنات التي كانت ذات يوم كائنات مستقلة.

يحدث شيء مشابه في أحد أنواع حقيقيات النوى أحادية الخلية التي تشبه الأميبا والتي تسمى باولينيلا. لدى الباولينيلا تعايش داخلي، بدأ منذ عشرات الملايين من السنين، وسمح لها بالحصول على الطاقة من ضوء الشمس بدون عضيات البلاستيدات الخضراء التي عادة ما تعمل على التمثيل الضوئي. اكتشفت إيفا نوفاك، التي تقود مختبرًا في جامعة دوسلدورف في ألمانيا، أن جينوم بولينيلا يحتوي الآن على جينات من التعايش الداخلي جنبًا إلى جنب مع الجينات الأخرى الموجودة نتيجة نقل الجينات الأفقي.

ومن اللافت للنظر أن التعايش الداخلي عندها يُدخل أكثر من 400 بروتين من نواة المضيف، لذلك لابد أنه طور أيضًا نظامًا معقدًا لنقل البروتين مثل البق الدقيقي. يقول أندرو روجر، عالم التطور الجزيئي، الذي يدرس تطور العضيات في جامعة دالهوزي في هاليفاكس، كندا، «هذا مثير للغاية، إذ يشير ذلك إلى أن تطوير أنظمة النقل هذه من جديد ليس بالأمر الصعب مثلما كان يُعتقد سابقًا».

توضح هذه الأمثلة كيفية اندماج الكائنات الحية المتعايشة مع مضيفيها وتشير إلى أن عمليات نقل الجينات الأفقية من مصادر مختلفة قد تكون متكررة جدًا في وقت مبكر من تطور حقيقيات النوى أيضًا.

يتفق الآخرون مع ذلك، ويقول روجر: «هناك الكثير من الأدلة القوية على النقل الأفقي للجينات في حقيقيات النوى، لذلك لا يوجد سبب حقيقي للقول إنه لم يكن من الممكن حدوث ذلك خلال تلك الفترة من انتقال بدائيات النوى إلى حقيقيات النوى. في الواقع، من شبه المؤكد أن هذا حدث بالفعل».

تسوق الجينات

بحسب جون أرشيبالد، عالم الجينوم المقارن في جامعة دالهاوسي، المعنى الضمني هو أن المضيف القديم استطاع أن يكتسب تدريجيًا سمات حقيقيات النوى واحدة تلو الأخرى، مثل المتسوق الذي يلتقط العناصر ويضعها في حقيبة التسوق عبر عمليات نقل الجينات الأفقية أو عن طريق التهام سلسلة من المتعايشين الداخليين. قد تكون بعض تلك الجينات المكتسبة حديثًا مفيدة للمضيف لأنها طورت بقية الآلية الموجودة الآن في الخلايا حقيقية النواة الحديثة.

إذا كان الأمر كذلك، بحلول الوقت الذي اجتاح فيه المضيف القديم سلائف الميتوكوندريا، كان من الممكن أن يمتلك بالفعل العديد من ميزات حقيقيات النوى، بما في ذلك بعض العضيات، والمكونات الداخلية التي تحيط بها الأغشية، مما يعني أن الميتوكوندريا لم تكن هي المحرك الرئيسي لتطور حقيقيات النوى، بل كانت إضافة متأخرة.

ولكن على الرغم من كل الأدلة التي تدعم الفرضية التدريجية لتطور حقيقيات النوى، هناك بعض الأسباب للشك. الأول هو أن التعايش الداخلي الموجود حاليًا قد لا يخبرنا كثيرًا عما حدث أثناء نشأة حقيقيات النوى، ففي هذه الحالات كانت الخلايا المضيفة الحديثة بالفعل حقيقيات نوى. يقول بيل مارتن، عالم الأحياء التطوري الذي يدرس أصول حقيقيات النوى في جامعة دوسلدورف: «تخبرنا هذه الأمثلة عن مدى سهولة تكوين التعايش الداخلي داخل الخلايا بمجرد امتلاكك لخلية حقيقية النواة». لكن حقيقيات النوى تمتلك بالفعل كل الآليات داخل الخلايا اللازمة لابتلاع خلية أخرى. يقول مارتن إنه ليس من الواضح على الإطلاق ما إذا كان أسلاف حقيقيات النوى يمتلكون تلك القدرة، وهو ما سيجعل الحاجز أمام التعايش الداخلي الأول أعلى من ذلك بكثير. وهذا، بالنسبة له، يقف ضد فكرة التطور التدريجي لخلية حقيقيات النوى.

في الواقع، تشير بعض الأدلة إلى أن السمات الأساسية لحقيقيات النوى مُكتسبة دفعة واحدة، وليس بشكل تدريجي. تحتوي جميع حقيقيات النوى على نفس مجموعة العضيات المألوفة لأي شخص درس بيولوجيا الخلية: النواة، والنوية، والريبوزومات، والشبكة الإندوبلازمية الخشنة والملساء، وجهاز غولجي، والهيكل الخلوي، والليزوزومات، والمريكز. تمتلك النباتات وعدد قليل من حقيقيات النوى الضوئية الأخرى عضية إضافية، وهي البلاستيدات الخضراء التي يتفق الجميع على أنها نشأت من خلال تعايش داخلي منفصل، وهذا يشير بقوة إلى أن المكونات الخلوية الأخرى نشأت جميعها في نفس الوقت تقريبًا، وإذا لم تكن كذلك، كانت ستمتلك سلالات حقيقيات النوى المختلفة مزيجًا مختلفًا من العضيات، وذلك بحسب جينيفر ليبينكوت شوارتز، عالمة الأحياء الخلوية في معهد هوارد هيوز الطبي في فرجينيا.

تشير بعض الأدلة البيوكيميائية إلى هذه الطريقة أيضًا. ينتمي مضيف السلائف وأحياء التعايش الداخلي إلى فروع مختلفة من شجرة الحياة، هي العتائق والبكتيريا على التوالي، والتي تستخدم جزيئات مختلفة لبناء أغشيتها. لا يعتبر أي من أغشية عضيات حقيقيات النوى قديمًا بشكل حصري، لذا فمن غير المحتمل أن يكون مصدرها من الخلية المضيفة السلفية. يشير هذا إلى أن المضيف البدائي كان خلية بسيطة نسبيًا طورت عضياتها الأخرى فقط بعد وصول سلف الميتوكوندريا.

يقول مارتن «ولكن ماذا عن كل تلك الجينات الأجنبية الغامضة التي عثر عليها العلماء مؤخرًا في شجرة عائلة حقيقيات النوى؟ هناك تفسير آخر محتمل». قد يكون التفسير هو وصول كل تلك الجينات الأجنبية في حزمة واحدة مع التعايش الداخلي الذي تطور إلى الميتوكوندريا. في وقت لاحق (حوالي 1.5 مليار سنة بعد ذلك الحدث) ستكون هذه الجينات مبعثرة بين العديد من المجموعات البكتيرية نتيجة سهولة تبادل البكتيريا للجينات جيئة وذهابًا. قد يعطي ذلك انطباعًا خاطئًا بمساهمة شركاء متعددين في الجينات في بدايات حقيقيات النوى.

علاوة على ذلك، يضيف مارتن، إذا كانت الفكرة التدريجية صحيحة، فيجب أن تحتوي السلالات المختلفة من حقيقيات النوى على مجموعات مختلفة من الجينات بشكل أساسي وقابل للقياس، لكنه أظهر أنها ليست كذلك. يقول مارتن: «لا يوجد دليل يشير إلى وجود عمليات استحواذ متسلسلة، إذ يكفي وجود اكتساب واحد للميتوكوندريا في أصل حقيقيات النوى».

من غير المرجح أن يتم تسوية النقاش قريبًا. يقول روجر: «من الصعب جدًا العثور على البيانات التي ستجعلنا نميز بوضوح بين هذه البدائل». ولكن إذا كشفت دراسات أخرى عن حقيقيات النوى البدائية الغامضة أن بعضها يحتوي فقط على مجموعة فرعية من العضيات حقيقية النواة، فقد يؤدي ذلك إلى إضفاء وزن على الفرضية التدريجية. من ناحية أخرى، إذا عثرنا على دليل على طريقة تمكن خلية بدائية بسيطة من اكتساب التعايش الداخلي، سيجعل ذلك فرضية «الميتوكوندريا المبكرة» أكثر منطقية.

يقول أرشيبالد: «ينجذب الناس إلى الأسئلة الكبيرة، وكلما زادت صعوبة الإجابة، زاد انجذاب الناس إليها ومناقشتها، وهذا ما يجعل الأمر ممتعًا».

 

ترجمة ولاء سليمان

المصدر: scientificamerican

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *