التطوُّر البشري أسفر عن التعطش الشديد للماء

نحن البشر أكثر اعتمادًا على الماء مقارنةً بالعديد من الثدييات الأخرى.. وقد تطوَّرت لدينا مجموعةٌ من الإستراتيجيات الذكية للحصول عليه

كنا نشق طريقنا عبر حوض نهر الأمازون في بوليفيا بصعوبة وأجسادنا تتصبَّب عرقًا، كانت الملابس الطاردة للحشرات التي ارتديناها تغطي أجسادنا من قمة الرأس إلى أخمص القدمين بحيث تحمينا من أسراب البعوض المنتشرة في الهواء، وقد حرصنا على ألا ندوس بأقدامنا على جذور النباتات والكَرْمات المعترشة والنمل العملاق، كنتُ برفقة مساعدي البحثي المحلي دينو نيت، وزوجتي كيلي روزنجر، كنا جميعًا نتبع خطوات خوليو، أحد أصدقائي من أبناء شعب التسيماني ومرشدنا في ذلك اليوم، وشعب التسيماني مجموعة من البشر يجمعون بين زراعة البساتين والبحث عن الطعام ويعيشون في هذه المنطقة الحارة عالية الرطوبة، كان يتبعنا مباشرةً نجل خوليو البالغ من العمر ثلاث سنوات وهو يسير بخفة في سعادة عبر طرقات الغابة، غير آبهٍ بالحرارة والحشرات على الرغم من أنه لم يكن يرتدي أي ملابس واقية؛ وهو ما جعلني أشعر بالخجل بسبب تصبُّبي عرقًا لما أبذله من جهدٍ.

توقفنا أمام شجرة بدت لنا صغيرة الحجم، لكن اتضح أنها كَرْمة ضخمة، أخبرنا خوليو أن أبناء شعب التسيماني يستخدمون تلك الأشجار عندما يحتاجون إلى الماء وهم بداخل إحدى الغابات القديمة، بدأ خوليو يضرب تلك الكرمة من جميع الجهات بمنجله، ما أدى إلى تطاير قطع من اللحاء مع كل ضربة، وفي غضون دقيقتين كان قد قطع غصنًا من الشجرة يبلغ طوله مترًا، وبدأ الماء يتدفق من ذلك الغصن، فقربه من فيه، وشرب منه بضع ثوانٍ حتى روى ظمأه، ثم ناولني إياه، وضعت قنينتي أسفل الكرمة فتجمَّع فيها ما يعادل كوبًا من الماء، كان مذاق الماء جيدًا للغاية، تشعر أنه خفيف، وطباشيري اللون إلى حدٍّ ما، ويكاد يشبه في مذاقه طعم المياه الغازية.

في إطار دراستي الميدانية، كنت أطرح الأسئلة على خوليو وعلى أشخاصٍ آخرين من شعب التسيماني حول كيفية الحصول على مياه الشرب التي يحتاجون إليها في الأماكن المختلفة، بما يشمل منازلهم، وحقولهم، وفي داخل النهر والغابة، أخبرني الرجل بأنهم يستخدمون نوعين فقط من الكرمات للحصول على الماء، أما بقية الأنواع فلا تصلح لذلك أو تصيبك بالغثيان، لكنه عندما أشار بيديه إلى الكرمات الأخرى التي يقصدها، شقَّ عليَّ أن أتبيَّن الفرق، تُعد الكرمات مصدرًا خفيًّا من مصادر الماء، لذا تطرح ملحوظات خوليو سؤالًا جوهريًّا ذا صلةٍ بتكيُّف البشر: كيف تشكَّلت لدينا عبر تاريخنا التطوري الطويل تلك الإستراتيجيات التي نستخدمها لتلبية احتياجاتنا من الماء، لا سيما في البيئات التي لا يكون فيها الوصول إلى الماء أمرًا يسيرًا؟

في تلك الغابة، كنا في بيئة غنية نسبيًّا بالماء، غير أنه مع ابتعادنا عن الجداول المائية، كان خوليو لا يزال يعرف بالضبط أين وكيف يحصل على الماء، واقتفاء أثر المصادر الطبيعية للماء ليس قاصرًا على البشر؛ فالكثير من الحيوانات يرسم خرائط في ذهنه للأشياء المحيطة به حتى يتذكر أماكن وجود الموارد المهمة، بل إن بعضها يغيِّر بيئته من أجل الماء، لكننا نحن البشر نتميز بالتفرد في اتخاذ تدابير أكثر تطرفًا بكثير.

فعلى مرِّ التاريخ، حرص الناس على تهيئة بيئاتهم على النحو الذي يضمن لهم الوصول إلى الماء، لنأخذ على سبيل المثال مدينة قيسارية الرومانية التاريخية الموجودة فيما يُعرف حاليًّا بدولة إسرائيل، إذا عدنا بالتاريخ إلى ماضٍ يزيد على 2000 عام وقت بناء تلك المدينة، لم يكن في المنطقة ما يكفي من الماء العذب لضمان استمرارية الحياة هناك، ونظرًا إلى الأهمية الجغرافية للمدينة في توطيد أركان الحكم الاستعماري للرومان، فقد شرعوا -من خلال تسخير العبيد- في تشييد سلسلة من القنوات المائية لنقل المياه من الينابيع على امتداد مسافة تبلغ 16 كيلومترًا، وبفضل هذا الإجراء، حصل ما يصل إلى 50 ألف شخص على الماء بمعدل 145 لترًا تقريبًا لكل نسمة في اليوم الواحد.

وتستخدم المدن في وقتنا الحاضر شبكات توزيع واسعة لتوفير المياه الصالحة للشرب، وهو ما أدى إلى حدوث تحسيناتٍ ملحوظة في الصحة العامة؛ فعندما يتوافر لدينا الماء بكثرة، نغفل بالفعل عن مدى أهميته، ولكن عندما يصبح عزيزًا أو نادرًا، يصير شغلنا الشاغل، فبمجرد أن نسمع بخبرٍ عن انقطاع الماء أو حدوث تلوث في مصادره، تعترينا حالةٌ من القلق بشأن انعدام الأمن المائي.

فمن دون كميةٍ كافيةٍ من الماء، تتدهور وظائفنا الجسدية والإدراكية، ونموت في غضون أيام عند انعدام الماء تمامًا، من ثمَّ، يعتمد البشر على الماء اعتمادًا يفوق الكثير من الثدييات الأخرى، وقد سلطت الأبحاث الحديثة الضوء على جذور احتياجاتنا المائية، وكيف استطعنا التكيُّف لإرواء ذلك العطش، واتضح أنه على قدر ما شكَّل الغذاء تاريخ التطوُّر البشري، لم يكن دور الماء أقلَّ أهمية.

التصبُّب عرقًا

لكي نستوعب كيف أثَّر الماء على مسار التطوُّر البشري، نحتاج إلى العودة إلى فصل محوري من عصور ما قبل التاريخ؛ فمنذ فترة تتراوح بين نحو ثلاثة ملايين ومليوني سنة، اشتد جفاف المناخ في أفريقيا، التي نشأ فيها أشباه البشر Hominins (أعضاء الأسرة البشرية)، للمرة الأولى، خلال تلك الفترة، أفسح جنس شبيه البشر المبكر المعروف باسم “أسترالوبيثكس” Australopithecus الطريق أمام جنسنا البشري المعروف باسم “الهومو” Homo، وخلال ذلك التحول، تغيَّرت نسب الجسم؛ فبينما كان إنسان “أسترالوبيثكس” قصير القامة وممتلئ الجسم، كان بنيان إنسان “الهومو” أطول وأكثر نحافة، وكانت مساحة سطح الجسم لديه أكبر، وقد قلَّلت هذه التغيُّرات من تعرُّض أسلافنا للإشعاع الشمسي في الوقت ذاته الذي أتاحت فيه التعرُّض للرياح بدرجةٍ أكبر، وهو ما زاد من قدرتهم على تبديد الحرارة وجعلهم أكثر كفاءةً في استهلاك المياه.

هذا التحول في بنيان الجسم كان مصحوبًا بتكيُّفاتٍ أساسيةٍ أخرى؛ فعندما أدى التغيُّر المناخي إلى حلول الأراضي العشبية محل الغابات، وأصبح أشباه البشر الأوائل أكثر كفاءةً في السير على قدمين في البيئات المفتوحة، فقدوا شعر أجسامهم ونما لديهم المزيدُ من الغدد العرقية، وقد أشار العمل البحثي الذي أجرته نينا جابلونسكي بجامعة ولاية بنسلفانيا وبيتر ويلر من جامعة ليفربول جون مورس في إنجلترا، عزَّزت هذه التكيُّفات من قدرة أسلافنا على التخلص من الحرارة الزائدة، وبالتالي الحفاظ على درجة حرارة آمنةً للجسم في أثناء الحركة.

تمثل الغدد العرقية أيضًا جزءًا مهمًّا من القصة التي نرويها، لدى الثدييات ثلاثة أنواع من الغدد العرقية، هي الغدد المفترزة والغدد الدهنية والغدد الفارزة، ودور الغدد الفارزة تعبئة الماء والإلكتروليتات داخل الخلايا لإنتاج العرق، ويُشار هنا إلى أن البشر لديهم غددٌ عرقية فارزة أكثر من أي كائن آخر في طائفة الرئيسيات، وقد توصَّلت دراسةٌ حديثةٌ أجراها دانييل ألديا من جامعة بنسلفانيا وزملاؤه إلى أن الطفرات المتكررة في جين يسمى Engrailed 1 ربما تكون قد أدت إلى هذا العدد الوفير من الغدد العرقية الفارزة، وفي البيئات الجافة نسبيًّا الشبيهة بتلك التي نشأ فيها أشباه البشر الأوائل، يعمل تبخر العرق على تبريد الجلد والأوعية الدموية، وهو ما يؤدي بدوره إلى تبريد الجسم من الداخل.

صار بمقدور البشر الأوائل، وقد تسلَّحوا بنظام التبريد القوي الذي أشرنا إليه، أن يكونوا أكثر نشاطًا من الرئيسيات الأخرى، في الواقع، يعتقد بعض الباحثين أن صيد المثابرة -بمعنى ملاحقة الحيوان إلى أن ترتفع درجة حرارته بشدة- ربما كان من ضمن الإستراتيجيات المهمة للبحث عن الطعام لدى أسلافنا، وهي إستراتيجية لم يكن بوسعهم استخدامها لولا أنه كانت لديهم وسيلة لتجنُّب ارتفاع درجة حرارة الجسم.

غير أن هذه القدرة المُعزَّزة على التعرُّق لها أيضًا سلبياتها، إذ ترفع من مخاطر التعرُّض للجفاف، فقد أوضح مارتن هورا من جامعة تشارلز في براج ومعاونوه مؤخرًا أن الإنسان منتصب القامة homo erectus كان بمقدوره ممارسة صيد المثابرة مدةً تقترب من خمس ساعات في مناطق السافانا الحارة قبل أن يفقد 10% من كتلة جسمه، وفقدان الإنسان 10% من كتلة الجسم نتيجةً للجفاف هو الحد الأقصى بشكل عام الذي تبدأ بعده في الظهور مخاطر جسيمة، تتمثل في مشكلات فسيولوجية وإدراكية أو حتى التعرُّض للوفاة، وعندما يتجاوز هذه النسبة، يصبح الشرب أمرًا صعبًا، وتنشأ الحاجة إلى تعاطي السوائل الوريدية لمعالجة الجفاف.

قابلية تعرُّض الجسم البشري للجفاف يُستدل منها على أن البشر أكثر اعتمادًا على المصادر الخارجية للماء مقارنةً بأبناء عمومتهم من طائفة الرئيسيات، وأكثر بكثير من الحيوانات المتأقلمة مع الصحراء مثل الأغنام والإبل والماعز؛ إذ يمكن لهذه الحيوانات أن تفقد كميةً تتراوح بين 20% و40% من الماء في أجسامها دون التعرُّض لخطر الموت، فهذه الحيوانات لديها حيزٌ إضافي في أحشائها يُدعى المعدة الأمامية، يمكن أن يُختَزن الماء فيها ليستفيد منه الجسم في اتقاء الجفاف.

في واقع الأمر، تتكيف الثدييات التي تعيش في الصحراء مع ندرة الماء بصورٍ كثيرة شتى، يتعلق بعض تلك السمات بوظائف الكلى، التي تحافظ على التوازن بين الماء والأملاح في الجسم، وتتباين الثدييات من حيث حجم الكليتين وشكلهما، وبالتالي من حيث مدى قدرتها على زيادة تركيز البول ومن ثم الحفاظ على الماء في الجسم، على سبيل المثال يمكن لفأر الجيب الصحراوي أن يعيش شهورًا من دون ماء، ويرجع ذلك في جانبٍ منه إلى القدرة الشديدة لكليتيه على زيادة تركيز البول، ويمكن للبشر فعل الشيء نفسه إلى حدٍّ ما؛ فعندما نفقد كمياتٍ كبيرةً من الماء بسبب التعرق، تعمل شبكةٌ معقدة من الهرمونات والدوائر العصبية على توجيه الكليتين للحفاظ على الماء عن طريق زيادة تركيز البول، غير أن قدرتنا المحدودة على فعل ذلك تعني أنه لا يمكننا الاستغناء عن الماء العذب فترةً طويلة تقارب تلك الفترة التي يمكن لفأر الجيب أن يمضيها بدون ماء.

كذلك لا يمكننا تعبئة أجسامنا بالماء مسبقًا، تستطيع إبل الصحراء أن تشرب وتخزن ما يكفي من الماء للاعتماد عليه طيلة أسابيع، لكن إذا شرب الإنسان الكثير من السوائل، سرعان ما يزداد إنتاجه من البول، كما أن حجم أمعائنا ومعدل إفراغ معداتنا يحدان من السرعة التي يمكننا بها تعويض السوائل وإعادة ترطيب الجسم، والأسوأ من ذلك أننا إذا شربنا الماء أكثر من اللازم وبسرعة أكبر من اللازم، فإننا بذلك من الممكن أن نخل بالتوازن الإلكتروليتي لدينا ونصاب بنقص صوديوم الدم، ويُقصد به انخفاض مستويات الصوديوم في الدم انخفاضًا غير طبيعي، وهي حالات لها خطورتها المميتة التي تعدل خطورة الجفاف إن لم تكن تتجاوزها.

وحتى في ظل الظروف المواتية، ومع توافُر الطعام والماء بسهولة، لا يستعيد الناس عمومًا جميع الكميات التي فقدوها من الماء نتيجة التمرينات الشاقة على مدار 24 ساعة على الأقل، ولذا يجب علينا توخِّي الحرص على تحقيق التوازن فيما يتعلق بكيفية فقدنا للماء وتعويضنا لما فقدته أجسامنا منه.

كيف نروي عطشنا

لم يأتِ سؤالي لخوليو عن المصادر الخفية للماء -مثل الكرمات التي يستخدمها أبناء شعب التسيماني- من فراغ؛ ففي إحدى الأمسيات بعد مرور بضعة أسابيع من أول جولة عملٍ ميداني أجريتُها في بوليفيا في عام 2009، دفعني شعور بالجوع والعطش معًا، بعد تناول وجبة العشاء، إلى تناول ثمرة كبيرة من البابايا، تدفق عصير الفاكهة وتقاطر على ذقني وأنا أتناول الثمرة الناضجة، لم أفكر كثيرًا في ذلك الأمر في تلك اللحظة، ولكن بعد فترة وجيزة من دخولي تحت الشبكة الواقية من البعوض للنوم، تبيَّن لي عِظم الخطأ الذي ارتكبته.

تصل درجة الرطوبة في منطقة حوض الأمازون في بوليفيا ليلًا إلى 100%، كنت كل مساء قبل أن أخلد إلى النوم أخلع ثيابي وأكتفي فقط بسروالي الداخلي، ثم أطوي تلك الملابس بإحكام وأضعها في أكياس بلاستيكية كبيرة قابلة للغلق مرات عديدة حتى لا تتبلل في صبيحة اليوم التالي، بعد نحو ساعة من دخولي تحت الشبكة الواقية من البعوض واستلقائي على الفراش وأنا أدعو أن تأتي نسمة رياح تُلطف من حرارة جسدي، انتابني شعور مخيف: كنت بحاجة إلى التبول، وبما أنني أعرف مقدار الجهد المطلوب لارتداء ملابسي، وقضاء حاجتي، ثم طيّ ملابسي من جديد وترتيبها وإعادتها إلى الأكياس، ندمت بحنقٍ على قراري بتناول ثمرة البابايا، والأسوأ أنني اضطررت إلى تكرار العملية نفسها مرةً أخرى في وقت لاحق من تلك الليلة، بدأت أفكر في كمية الماء التي تحويها تلك الفاكهة والتي تبلغ ما يعدل ثلاثة أكواب، كما اتضح لي، لا عجب إذًا أنني اضطررت إلى التبول.

ربما تكون مرونة أنظمتنا الغذائية هي الآلية الدفاعية المُثلى لدينا في مواجهة الجفاف، فكما عرفت من التجربة الصعبة التي مررت بها في تلك الليلة شديدة الحرارة، تُسهم كمية الماء الموجودة في الطعام بنصيب في الكمية الإجمالية للماء التي نشربها، ففي الولايات المتحدة، يُسهم الطعام بنحو 20% من كمية الماء التي يشربها الناس، لكن من خلال عملي البحثي في وسط شعب التسيماني وجدت أن الأغذية -متضمنةً الفواكه- تُسهم بنسبة تصل إلى 50% من إجمالي استهلاك هؤلاء البشر من الماء، كذلك فإن الأشخاص البالغين في اليابان، الذين يشربون في المعتاد كمياتٍ أقل من الماء مقارنةً بنظرائهم في الولايات المتحدة، يحصلون أيضًا على ما يقرب من نصف كمية الماء من الأغذية التي يتناولونها، وتستخدم شعوبٌ أخرى إستراتيجياتٍ غذائيةً مختلفة لتلبية احتياجات أفرادها من الماء؛ فرعاة “الداسانك” في شمال كينيا يستهلكون كميةً كبيرةً من الحليب، الذي يُشكِّل الماء 87% من محتواه، كما أنهم يمضغون الجذور المُشبَّعة بالمياه.

وإضافةً إلى ذلك، تُظهر قردة الشمبانزي -وهي أقرب أقربائنا بين الرئيسيات الحية- تكيُّفاتٍ غذائيةً وسلوكية للحصول على الماء؛ فتلك الحيوانات تلعق الصخور الرطبة ويستخدم أفرادها الأوراق كنوعٍ من الإسفنج لتجميع الماء، وقد وجدت اختصاصية علم الرئيسيات جيل بروتز من جامعة ولاية تكساس أنه في البيئات شديدة الحرارة، مثل مناطق السافانا في فونجولي الواقعة في السنغال، تلتمس حيوانات الشمبانزي المأوى في الكهوف الباردة وتبحث عن طعامها في الليل بدلًا من النهار؛ بهدف تقليل الإجهاد الحراري والحفاظ على الماء الموجود في أجسامها، لكن الرئيسيات من غير البشر بشكل عام تحصل على معظم احتياجاتها من الماء من الفواكه والأوراق وغيرها من الأغذية.

أوضح بحث جديد أجراه هيرمان بونتزر من جامعة ديوك وزملاؤه أننا نحن البشر قد تطورنا فصرنا نستخدم كمياتٍ أقل من الماء مقارنةً بالشمبانزي وأنواع القردة الأخرى، على الرغم من أن قدرتنا على التعرق أكبر بكثير، ومع ذلك، فإن اعتمادنا الأكبر على الماء العادي عوضًا عن الماء المُستمد من الطعام يعني أننا يجب أن نعمل جاهدين حتى نحتفظ بأجسامنا رطبة، إلا أن ثمة تبايُنًا بين المجموعات السكانية، بل بين كل شخصٍ وآخر في المقدار المحدد من الماء الذي يمكن اعتباره صحيًّا، وتوجد حاليًّا توصيتان مختلفتان بشأن كمية الماء التي تحتاج إليها أجسامنا، متضمنةً الماء المُستمد من الطعام، أما التوصية الأولى فمصدرها الأكاديمية الوطنية الأمريكية للطب، وينصح أصحابها بشرب كمية تصل إلى 3.7 لترات من الماء يوميًّا بالنسبة للرجال و2.7 لتر بالنسبة للنساء، بينما ينصحون السيدات الحوامل والمرضِعات بزيادة الكمية التي يشربنها بمقدار يتراوح بين 300 و700 مليلتر على التوالي، وأما التوصية الثانية فتأتينا من هيئة سلامة الغذاء الأوروبية، التي تنصح بشرب لترين ونصف يوميًّا بالنسبة للرجال ولترين بالنسبة للنساء، مع تطبيق الزيادات نفسها فيما يخص السيدات الحوامل والمرضِعات، فالرجال يحتاجون إلى كمية أكبر من الماء مقارنةً بالنساء؛ لأن أجسامهم أضخم ولديهم أنسجة عضلية أكثر في المتوسط.

هذه ليست توصياتٍ صارمةً وملزمة، وإنما جرى حسابها بناءً على المتوسطات السكانية المستقاة من مسوح ودراسات أُجريت على أشخاصٍ في مناطق محددة، والغرض من تلك التوصيات تلبية معظم الاحتياجات من الماء لدى الأشخاص الأصحاء من أصحاب النشاط المعتدل الذين يعيشون في بيئات معتدلة وغالبًا ما يكون مناخها خاضعًا للتحكم، ربما يحتاج بعض الناس إلى كمية أكبر أو أقل من الماء، وهذا يتوقف على عوامل عدة تشمل عادات المعيشة والمناخ ومستوى النشاط والعمر.

في حقيقة الأمر، تتباين كمية الماء التي يستهلكها الجسم تباينًا كبيرًا حتى في المناطق التي تنعم نسبيًّا بالأمن المائي مثل الولايات المتحدة؛ فمعظم الرجال يستهلكون ما بين 1.2 و6.3 لترات، والنساء ما بين 1 و5.1 لترات في اليوم، وعلى امتداد تاريخ التطوُّر البشري، تباينت على الأرجح أيضًا كمية الماء التي اعتاد أسلافنا أن يشربوها تباينًا كبيرًا بناءً على مستوى النشاط ودرجة الحرارة ومدى التعرُّض للرياح والإشعاع الشمسي، إلى جانب حجم الجسم ومدى توافر الماء.

ومع ذلك ، ثمة حالةٌ أخرى تتمثل في أن يستهلك شخصان متشابهان في العمر والحالة البدنية ويعيشان في البيئة نفسها كمياتٍ من الماء تتباين تباينًا كبيرًا ويتمتع كلاهما بصحة جيدة، على الأقل على المدى القصير، فقد يتعلق هذا التبايُن بتجارب الحياة المبكرة؛ إذ يمر البشر بفترة حساسة في أثناء نمو الجنين تؤثر على العديد من الوظائف الفسيولوجية، من بينها الكيفية التي يوازن بها الجسم احتياجه من الماء، لا شك أننا نتلقى إشارات ودلائل حول بيئتنا الغذائية في أثناء وجودنا في الرحم وفي أثناء فترة الرضاعة، ربما تحدد هذه المعلومات الشكل الذي ستتخذه احتياجات ذريتنا إلى الماء.

أظهرت دراساتٌ تجريبية أن تقليل كميات الماء التي تشربها الجرذان والأغنام في مرحلة الحمل يؤدي إلى حدوث تغيُّراتٍ حاسمة في كيفية اكتشاف نسل تلك الحيوانات للجفاف الجسدي، فسيكون النسل الذي يولد لتلك الأمهات المحرومات من الماء أكثر جفافًا (بمعنى أن أبوالهم ودماءهم ستكون أكثر تركيزًا) مقارنةً بالنسل المولود لأمهاتٍ غير محروماتٍ من الماء قبل أن يشعروا بالعطش ويبحثوا عن الماء، تشير هذه النتائج إلى أن نقطة تحديد مدى الحساسية للجفاف موجودة وراسخة في الرحم.

من ثم، فإن إشارات ترطيب الجسم التي نتلقاها في أثناء التطوُّر ربما تحدد متى يشعر الناس بالعطش، وكذلك كمية الماء التي يشربونها في مراحل لاحقة من حياتهم، بعبارة أخرى، تعمل هذه التجارب المبكرة على إعداد النسل وتجهيزه من أجل التكيُّف مع كمية الماء الموجودة في بيئته، فإذا كانت المرأة الحامل تعيش في بيئة تعاني ندرةً في الماء وجفافًا مزمنًا، فقد يؤدي ذلك إلى أن يشرب طفلها كمياتٍ أقل من الماء بصفة دائمة في وقت لاحق من الحياة، وتلك سمة من سمات التكيُّف في الأماكن التي يصعب فيها العثور على الماء، ومع ذلك، فإن هناك حاجةً إلى إجراء المزيد من الأبحاث لاختبار مدى صحة هذه النظرية.

الحفاظ على نظافة الماء

ربما تُحدِّد تجارب الحياة المبكرة كمية الماء التي نشربها دون أن ندرك ذلك، ومع ذلك، فإن تحديد أماكن المصادر الآمنة للماء هو شيءٌ نتعلم فعله بوعيٍ ونشاط؛ فعلى النقيض من اكتشافي بالصدفة التأثيرات المرطبة لفاكهة البابايا، يبحث شعب التسيماني عن الأغذية الغنية بالماء عن قصدٍ، ففي بيئة تخلو من الماء النظيف، ربما يحمي تناوُلُ المزيد من الماء عبر الطعام بدلًا من شربه بشكلٍ مباشر هؤلاء الأشخاص من التعرض للعوامل المُمرِضة، في واقع الأمر، وجدت في دراستي أن أبناء التسيماني الذين كانوا يحصلون على الجزء الأكبر من الماء اللازم لأجسامهم من الأطعمة والفواكه، مثل فاكهة البابايا، كانوا أقل تعرضًا للإصابة بالإسهال.

ظهرت لدى العديد من المجتمعات تقاليد غذائية تتضمن مشروباتٍ مخمَّرة تحتوي على نسبةٍ منخفضة من الكحول؛ إذ يمكن أن تكون تلك المشروبات بمنزلة مصادر أساسية لترطيب الجسم نظرًا إلى أن التخمُّر يقتل البكتيريا، (على الجانب الآخر، فإن المشروبات التي تحتوي على نسبٍ عالية من الكحول تزيد من إدرار البول، وبالتالي تستنزف مخزون الماء في الجسم)، وعلى غرار شعوب أخرى تقطن منطقة حوض نهر الأمازون، يشرب أفراد شعب التسيماني مشروبًا مُخمَّرًا يسمى “تشيتشا”، ويصنعونه من اليوكا أو الكاسافا، وقد ارتبط تناول مشروب “التشيتشا” المخمَّرة لدى رجال شعب التسيماني بانخفاض احتمالات تعرُّضهم للجفاف.

يُعد الحصول على كمية كافية من الماء أحد أقدم التحديات وأكثرها إلحاحًا في تاريخ تطوُّر البشرية، ولذا فمن غير المستغرب أن نرسم في عقولنا خريطةً ذهنيةً لمواقع مصادر الماء، سواءٌ أكانت استراحةً على الطريق السريع، أو نبعًا في قلب الصحراء، أو نباتًا في الغابة، فبينما كنت أرقب خوليو وهو يقطع غصن الكرمة، كان ابنه يراقبه أيضًا، ويتعلم أين يكمن ذلك المصدر المهم للماء، هذا المشهد أعطاني لمحةً عن كيفية حدوث هذه العملية عبر الأجيال، وبفضل هذا، أدركت أن التصبُّب عرقًا وإيجاد طرقٍ لتعويض ذلك الماء المفقود يُعد جزءًا جوهريًّا من ماهيتنا كبشر.

تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.

اقرأ أيضًا: الشعبان الإفريقي والأوروبي يتشاركان في جينات الوجه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *