تسعى الحيوانات الاجتماعية إلى السلطة بطرق معقدة ومدهشة

ليست محض مبارزة جسدية – تمتلك الحيوانات مجموعة من الاستراتيجيات لإرساء النفوذ

اعتادت السلطة بين الحيوانات أن تتخذ سيرًا مرتبًا وبسيطًا. إذ تتغلب الحيوانات الأكبر والأقوى على الحيوانات الأصغر والأضعف. ينسلّ الحيوان المهزوم بعيدًا، ويظفر المنتصر بالجائزة، أو هذا ما اعتقدناه.

من المؤكد أن هناك ما يكفي من هذه المعارك الوحشية التي تدور في الطبيعة لتعتلي ابتسامةُ غرورٍ وجهَ المنظر توماس هوبز تأكيدًا على نظريته «حرب الكل ضد الكل». لكننا نعلم الآن أن السعي وراء السلطة في المملكة الحيوانية هو أمر أكثر دقة وإثارة للاهتمام -وأجرؤ على القول- أكثر جمالًا مما كنا نعتقد سابقًا.

إن السعي وراء السلطة -الذي أعرِّفه هنا على أنه القدرة على توجيه سلوك الآخرين أو التحكم فيه أو التأثير عليه و/أو القدرة على التحكم في الوصول إلى الموارد- يؤثر تقريبًا على كل جانب من جوانب حياة الحيوانات الجماعية. تحظى الحيوانات المنتصرة في الصراع على السلطة بطعام أكثر، أو أقران أكثر للتزاوج، أو أماكن عيش أفضل وأكثر أمانًا، وأحيانًا تظفر بمزيج من هذه الغنائم.

إن جوانب السلطة الاستراتيجية لدى الحيوانات محيرة للعقل. اعتدنا نحن علماء الأحياء على الاعتقاد بأن الحيوانات كالروبوتات البسيطة تستجيب للخوارزميات الثابتة التي تحددها جيناتها فقط. خلال موسم التزاوج، يصبح ذكر أسماك أبو شوكة مناطقيًا بصورة مكثفة، ويتخذ لونًا أحمر ساطعًا على جانبه السفلي، الأمر الذي يجذب الإناث. اكتشف عالم الأحياء الهولندي نيكو تينبيرغن، الذي حاز مشاركةً على جائزة نوبل لتأسيسه مجال علم السلوك الحيواني، أنه إذا أظهرت لذكر أبو شوكة محدِّد لمنطقة ما أي شيء أحمر تقريبًا، فإنه يهاجم، «حتى شاحنة بريد حمراء تمر مطلة عبر نوافذنا على مسافة 100 ياردة، وفقًا لتينبيرغن، يمكن أن تدفع ذكور الأسماك في الخزان لتوجيه جانبها الزجاجي نحو ذلك الاتجاه». ومع مرور الوقت، وبتحفيز من الورقة البحثية لعالمي الأحياء التطوريين جون ماينارد سميث وجورج برايس التي استخدما فيها نظرية الألعاب لتحليل السلوك غير البشري، أدرك علماء السلوك الحيواني أن سلوك الحيوان يتأثر بشدة بما يفعله خصمه. تقوم الحيوانات بتقييم الخصوم المفترضين، والتجسس على الآخرين، وتعديل سلوكياتها عند مراقبة الحيوانات الأخرى، وتشكيل تحالفات لإخضاع المنافسين، وأكثر من ذلك. تُظهِر دراسات ديناميكيات السلطة مدى التعقيد الذي يمكن أن تبلغه استراتيجياتهم.

 

لمدة ثلاثة أسابيع في شهر مارس عام 1990، جمع اثنان من علماء السلوك الحيواني بجامعة هامبورغ، ديرك فرانك وألكسندر ريبوسكي، المقيمين بجانب ضفاف الجداول والتيارات المائية المختلفة في فيراكروز بالمكسيك، جمعا بيانات عن العدوانية لدى مجموعة أسماك قوامها زهاء مئة سمكة تُعرف باسم سيفية الذيل الخضراء. من الهجمات والتراجعات، والقضم والوميض، والاستعراض الجانبي وخبطات الجسم التي لاحظاها، اكتشف فرانك وريبوفسكي أن هذه الأسماك تشكل تسلسلات هرمية منظمة للهيمنة، لكنهما لم يكونا متأكدين من كيفية فعل ذلك.

 

بعد بضع سنوات، عندما انضم رايان إيرلي إلى مختبري كطالب دكتوراه، وضع البحث نصب عينيه للتحقيق بشكل أعمق في طبيعة السلطة لدى الأسماك سيفية الذيل. بعد مئات الساعات من مراقبة الذكور في المختبر، بات متيقنًا أن سيفيات الذيل كانت تقوم بالاستطلاع أو ما يسمى في أدبيات سلوك الحيوان بالتنصت. تستخدم الأسماك المتصنتة المعلومات التي جمعتها من مشاهدة المعارك الأخرى وتغير تقييمها للقدرات القتالية للأفراد الذين جمعت معلومات عنهم.

 

في تجربة بارعة تتضمن مرايا ذات اتجاه واحد، اكتشف إيرلي أن جواسيس الأسماك سيفية الذيل تتجنب التفاعل مع المنتصر في منافسة قد شهدتها. عندما يتعلق الأمر بالتفاعل مع الذكور الذين شاهدتهم يخسرون، تتبع الأسماك قاعدة مثيرة للاهتمام: إذا أبدى الخاسر مقاومة قليلة نسبيًا، فلنطارده؛ ولكن في حال تحليه بالشجاعة وخوضه قتالًا جيدًا قبل الاستسلام في النهاية، فلنبق بعيدين عنه. يُظهر جمع ذكاء سيفيات الذيل وتوظيفها لهذه المعلومات بشكل جيد أن الانتقاء الطبيعي ينحت استراتيجيات دقيقة ومعقدة تُستخدم أثناء الصراعات على السلطة، حتى لدى حيوان بدماغ بحجم رأس الدبوس.

 

تقوم الحيوانات الأخرى بتغيير سلوكها بشكل استراتيجي اعتمادًا على من يشاهدها، في محاولة لتغيير ميزان القوى بطريقتها. يأتي أحد الأمثلة المثيرة للاهتمام على هذه الاستراتيجية من الغربان التي درسها توماس بوغنيار وجورجين زيبل وزملاؤهما في محطة كونراد لورينز الميدانية بالقرب من قرية غروناو في جبال الألب النمساوية.

 

من منظور الغربان في المحطة، لا جدوى من عير الاهتمام للجمهور البشري من أجل صراعات السلطة، إنما جمهور الغربان الأخرى يستحق ذلك بالتأكيد. غالبًا ما تطلق الضحايا نداءات دفاعية تجذب أفراد جمهور الغربان لتهب لمساعدتها. لكن بوغنيار وزيبل استشعرا بوجود طبقة إضافية من التعقيد في العملية. صوروا الطيور الضحايا وهي تطلق نداءًا دفاعيًا، وبعد ذلك عند مشاهدة الأشرطة، لم يلاحظا مدة النداءات وعددها فحسب، إنما أيضًا هوية الغربان الأخرى على بعد 25 مترًا من الضحية. اتضح أن الغربان الموجودة على الجانب الخاسر من القتال تخفف من نداءات دفاعها اعتمادًا على من يراقب ويستمع. كانت معدلات نداء الطيور الضحايا أعلى عندما كان الحلفاء المحتملون -سواء كانوا أقارب أو شركاء على المدى الطويل (أصدقاء)- بين صفوف الجمهور. والأهم من ذلك، خفضت الضحايا معدل نداءاتها عند وجود حلفاء محتملين لخصمها في الجمهور: من غير المنطقي جذب المزيد من الانتباه إلى مأزق بائس، إذ يمكن أن يزيد ذلك الأمر سوءًا.

 

بالنسبة للنمس القزم في حديقة الملكة إليزابيث الوطنية في أوغندا، تحدث أضرى الصراعات على السلطة بين المجموعات. أراد مايكل كانت وزملاؤه معرفة السبب، ووجدوا أن كل شيء يبدأ لأن القرابة الجينية في مجموعات النمس تتراكم عبر الأجيال. يمكن أن يؤدي هذا الترتيب إلى توالد داخلي، لكن إناث النمس القزم قد وجدت طريقة بسيطة -إنما ذكية- لحل هذه المشكلة: البحث عن أقران في مجموعات قريبة. عندما تغادر أنثى بحثًا عن قرين، يتبعها الذكور من مجموعتها، ما يؤدي غالبًا إلى معركة شاملة بين الذكور من المجموعتين. هذه ليس بالأمر الجيد، وغالبًا ما يتسبب بوقوع العديد من الضحايا والوفيات بين صفوف الذكور. لكن الأنثى التي جاءت باحثةً عن قرين ستعثر عليه غالبًا بينما ينخرط الذكور من مجموعتها بالقتال.

 

إن جواسيس سيفيات الذيل، والغربان الماكرة، والنموس المتآمرة ليست سوى ثلاثة أمثلة على الوسائل التي تمارس فيها الحيوانات سلطتها. تدور صراعات السلطة في كل قارة على اليابسة، وتحت الأرض، وفي الهواء والماء، وقد دُرست بالتفصيل في مئات الأنواع، بما في ذلك الضباع، والوعل، والشمبانزي، والبونوبو، والدلافين، والغزلان، والخيول، وفئران الحقل، والغربان، والقُبَّرات، والوراوير بيضاء الجبهة، والأفاعي نحاسية الرأس، الدبابير، والنمل والحبار.

 

المقال الأصلي: scientific american

ترجمة: حاتم زيداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *