متحور أوميكرون – قصة تطورية نعيشها اليوم

خلال الشهر الماضي، اجتاحت العالم أخبار السلالة الجديدة لفيروس الكورونا “أوميكرون”. هذا المتحوّر سريع الانتشار لفيروس الكورونا أدّى إلى فرض القيود مجدّدًا على السفر، إلغاء معظم الإجازات والرحلات الترفيهيّة وإعادة الحظر وإغلاق المدن، وبالطبع إصابة أعداد مهولة بكوفيد-19. سارع العلماء بدراسة هذا المتحوّر الجديد “أوميكرون” لتحديد كيف يستطيع أن ينتشر بهذه السرعة، وما مدى خطورة الإصابة به، وهل لديه القدرة على مقاومة اللقاحات والأجسام المضادّة الموجودة في الجسم أم لا.
نحن في حاجة للإجابة على هذه الأسئلة لأنّ سلالة “اوميكرون” ليست كأيّ سلالة سابقة، بل هي مختلفة للغاية، حيث يمتلك “أوميكرون” أكثر من 50 طفرة جديدة مقارنة بالسلالة الّتي بدأت بسببها الجائحة. علاوة على ذلك، فإنّ سلالة “أوميكرون” ليست منحدرة من سلالة “دلتا” الّتي تسبّبت في موجة الإصابات السابقة. في الواقع، متحوّر “أوميكرون” مختلف تمامًا عن باقي السلالات والّذي يبدو وكأنّه ظلّ يتطوّر لشهور في صمت. واللغز الّذي حيّر العلماء: أين كان يختبئ متحوّر “أوميكرون” أثناء تعرّضه لكلّ هذا التطوّر؟
تظهر “شجرة تطوّر السلالات” الخاصّة بفيروس كورونا كيف أنّ متحوّر “أوميكرون” ليس منحدر من سلالة دلتا، وتشير أيضًا البيانات أنّ “أوميكرون” ظلّ يراكم الطفرات الّتي تجعله متميّزًا لمدّة سنة كاملة. مع محاولات العالم كلّه لمحاصرة كوفيد-19، لماذا لم نلاحظ بعض من أسلاف أوميكرون خلال السنة الماضية، خاصّة لو أنّ بعضًا من طفراته سمحت له بهذا الانتشار السريع بشكل سهل؟
الشجرة التطورية لفيروس كورونا
أحد الاحتمالات هو أنّ “أوميكرون” تطوّر أسرع من السلالات الأخرى – أي أنّه ظهر فجأة على الساحة من العدم لأنّه في الواقع تطوّر فجأة. في هذا السيناريو، قد يكون الجاني عقارًا تجريبيًّا (molnupiravir) يحارب كوفيد-19 عن طريق التسبّب في تحوّر الفيروس بشكل كبير بحيث لا يمكنه العمل. تمّ اختبار هذا الدواء في جنوب إفريقيا قبل ظهور “اوميكرون”. ربّما، وهذا يبدو منطقيًّا، نشأ فيروس “أوميكرون” شديد التحوّر بسرعة من تجارب هذه الأدوية؛ ومع ذلك، ليس لدينا دليل مباشر على حدوث ذلك.
افترض علماء آخرون أنّ سلف أوميكرون أصاب حيوانًا غير بشريّ، مثل القوارض، وتطوّر إلى “أوميكرون” حيث انتشر من خلال تلك المجموعة غير البشريّة، ثمّ عاد إلى البشر مجدّدًا، لتبدأ الموجة العارمة من العدوى الّتي نواجهها الآن. هذه الفرضيّة جذّابة لأنّنا نعلم بالفعل أنّ SARS-CoV-2 يمكنه بسهولة تبديل الأنواع المضيفة. قفز الفيروس لأوّل مرّة إلى البشر من حيوان آخر، على الرغم من أنّ تفاصيل هذا التبديل لم يتمّ تحديدها بعد بشكل دقيق. نحن نعلم أنّ القطط والكلاب وحيوان المنك والقوارض والغزلان والعديد من الأنواع الأخرى قد أصيبت بالفيروس من البشر. في بعض هذه الحالات على الأقلّ، وجد العلماء أنّ الفيروس يمكن أن ينتشر بسرعة عبر هذه الحيوانات غير البشريّة، تمامًا كما ينتشر من خلال البشر.
نمتلك فرضيّة أخرى واعدة، وهي أن تطوّر “أوميكرون” لم يحدث نتيجة الانتقال من حيوان إلى حيوان أو من إنسان إلى آخر (لو أنّ هذا كان سبب تطوّر أوميكرون لكنّا اكتشفناه في وقت أقرب ممّا فعلنا) ولكنّه تطوّر داخل إنسان واحد فقط. يستطيع الفيروس أن يتطوّر فقط عندما يستطيع أن ينسخ نفسه، أي عندما أن يتمّ نسخ المادّة الوراثيّة الخاصّة به والّتي تتعرّض إلى حدوث الكثير من الأخطاء أثناء عمليّة النسخ (طفرات)، هنا يحدث التحوّر والتطوّر. ولكن في معظم البشر المصابين بكوفيد-19، يتدخّل جهازهم المناعيّ ويمنع النسخ السريع للفيروس، هذا يعني أنّنا لن نرى تطوّر ملحوظ للفيروس إلّا في حالة انتشاره من مضيف لمضيف آخر وتعرّضه للعديد من عمليّات النسخ. ولكن، عندما يصيب فيروس كورونا شخص ذو مناعة سيّئة ولا تعمل بشكل صحيح (بسبب أمراض مثل السرطان أو فيروس نقص المناعة)، من الممكن أن يصاب الشخص بعدوى طويلة الأمد بفيروس كورونا، والّتي يستطيع فيها الفيروس أن ينسخ نفسه لمدّة تصل إلى شهور. في غضون هذه المدّة، تتعرّض نسخ الفيروس الموجودة في جسم المريض لانتخاب طبيعيّ يؤدّي إلى تأقلم يجعل الفيروس قادرًا على مواجهة الجهاز المناعيّ ومقاومة أيّ علاج من الممكن أن يتناولوه. رصد العلماء هذه العمليّة بالفعل في العديد من الحالات من أصحاب المناعة الضعيفة المصابين بفيروس كورونا، حيث استطاع الفيروس أن يراكم العديد من الطفرات بهذه الطريقة. تقول الحجّة، ربّما لم نلاحظ أوميكرون أثناء تطوّره لأنّ معظم هذا التطوّر حدث داخل شخص واحد فقط وليس عن طريق الانتشار بين مجموعة كبيرة من البشر.
لا يزال هذا اللغز قائم والحلّ لم نتأكّد منه بعد. يبحث العلماء الآن دون توقّف عن المزيد من الأدلّة للتأكّد من مكان وكيفيّة تطوّر “أوميكرون”. الإجابة عن هذه الأسئلة شيء مهمّ للغاية لأنّها ستجعلنا قادرين على مواجهة المرحلة التطوّريّة القادمة للفيروس، لأنّ الطرق الّتي نتبعها لمنع تطوّر الفيروس لسلالات أخرى عن طريق تجمّعات الحيوانات البرّيّة، مختلفة تمامًا عن الطرق الّتي من الممكن أن نتبعها لمنع انتشار السلالات الجديدة بسبب الأفراد أصحاب المناعة الضعيفة.
ترجمة: يوسف مجدي
المصدر: evolution.berkeley

اقرأ أيضًا: علم الأحافير الدقيقة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *