صحراء شبه الجزيرة العربية قادت هجرة الثدييات إلى أفريقيا

دراسة حديثة توضِّح أن انتشار صحاري شبه الجزيرة العربية وتقلصها على مدى ملايين السنين كان له الدور الأكبر في هجرة الثدييات الكبيرة وأسلاف الرئيسيات وتطورها.

في حدث لافت، انخفض مؤخرًا منسوب نهر الفرات بمعدل خمسة أمتار كاملة، وانتشرت مشاهد لهذا الجفاف ولَّدت قلقًا محليًّا وعالميًّا مما يمكن أن يسببه هذا الانحسار من تغييرات بيئية في بلاد الرافدين، تغييرات ربما تتسبب في عواقب كارثية تصل إلى حد التصحر وتغير المحتوى الحيوي في المنطقة.

بيد أن هذه ليست المرة الأولى التي ينتاب هذه المنطقة ظروف مناخية وبيئية مثل ذلك، إذ انتهت نتائج دراسة حديثة أجراها فريق مشترك من الباحثين بعدد من الجامعات الأوروبية والمصرية والآسيوية، ونشرتها دورية “نيتشر كومينكشنز إيرث آند إينفرومنت”، إلى أن تعاقُب فترات التصحر في منطقة شبه الجزيرة العربية على مدى ملايين السنين، كان بمنزلة المحرك الرئيسي الذي قاد تطور الثدييات الكبيرة وأسلاف الرئيسيات (بما في ذلك أسلاف البشر الأوائل) وهجرتها من قارة أوراسيا- من قارات العالم القديم، وكانت تتألف من كلٍّ من قارتي آسيا وأوروبا- إلى قارة أفريقيا.

يقول هيثم العطفي -أستاذ الحفريات بمركز سينكينبرغ في جامعة توبنجن الألمانية وجامعة المنصورة المصرية، وأحد المشاركين في الدراسة- في تصريحات لـ”للعلم”: “حيوانات السافانا الأفريقية في عزلة نسبية منذ قرابة خمسة ملايين سنة مضت، إلا أنه من الثابت علميًّا أن أسلاف العديد من تلك الحيوانات مثل وحيد القرن والزرافات والضباع والقطط الكبيرة جاءت إلى قارة أفريقيا مهاجرةً من قارة أوراسيا، لكن سبب هذا التغيير واسع النطاق في التنقل بين القارات لم يكن واضحًا للعلماء، وظل لغزًا عصيًّا على الفهم منذ وقت طويل”.

تقول مادلين بوما -أستاذة الحفريات بمركز سينكينبرغ في جامعة توبنجن الألمانية، ورئيس الفريق البحثي- في تصريحات لـ”للعلم”: “قمنا في ورقتنا العلمية بحل هذا اللغز، وإثبات أن التصحر الذي ساد منطقة شبه الجزيرة العربية كان له الدور الحاسم في توجيه دفة هجرة تلك الحيوانات”.

بلاد ما بين النهرين والكبسولة المناخية

وكان الفريق البحثي قد أعاد بناء التاريخ المناخي القديم لمنطقة شمال شبه الجزيرة العربية، في الفترة من 12.5 إلى 2.5 مليون سنة مضت، باستخدام بيانات دقيقة عن مواسم الجفاف جرى الحصول عليها من صخور منطقة بلاد ما بين النهرين.

فحص الباحثون تأثير 12 مليون سنة من التاريخ المناخي لشمال شبه الجزيرة العربية على طبقات صخرية بسمك 2.6 كيلومتر.Credit: Madelaine Böhme

يدرس الباحثون التاريخ المناخي بشكل رئيسي من خلال الرواسب، لكونها بمنزلة كبسولات مناخية تمثل سجلاتٍ دقيقةً للمناخ القديم، تتشكل تلك الرواسب -على سبيل المثال- من الغبار الذي جلبته الرياح طبقةً بعد طبقة على مدى ملايين السنين، تسجل تلك الرواسب معلومات حول الأحداث المناخية، وجد الباحثون تركيزات عالية من أملاح النترات والكلوريد في الرواسب المدروسة، تشير تلك التركيزات إلى مناخ صحراوي قاحل شديد الجفاف.

وتُعد بلاد الرافدين أو بلاد ما بين النهرين هي تلك المنطقة التي تقع بين حوضي نهري دجلة والفرات، وتشمل أجزاء من الدول الحالية: إيران والعراق وتركيا وسوريا والكويت، وتمثل بلاد ما بين النهرين دهليزًا ممتدًّا من شبه الجزيرة العربية إلى القارة اليوراسية، وتمثل شبه الجزيرة العربية بدورها جسرًا بريًّا يُعد المدخل الوحيد لأفريقيا، وتشمل شمال شبه الجزيرة العربية -بوابة أفريقيا من جهة الشرق- اليوم، المناطق الصحراوية مثل الصحراء السورية وصحراء النقب في فلسطين وصحراء النفود السعودية، فضلًا عن السهول وشبه الصحاري الأقل جفافًا في بلاد ما بين النهرين، والتي يقع الجزء الأكبر منها في العراق حاليًّا.

درس فريق البحث طبقات صخرية يبلغ سمكها 2.6 كيلومتر عند سفح جبال زاجروس في إيران، على حافة بلاد ما بين النهرين، باستخدام الأساليب الكيميائية والفيزيائية والجيولوجية، وتقع سلسلة جبال زاجروس غرب إيران وشرق العراق، وتُعد ثاني أعلى سلسلة جبلية في إيران، بالإضافة إلى أنها تضم أعلى قمة جبلية في العراق.

أظهرت الدراسات المناخية القديمة أنه في بلاد ما بين النهرين تشكلت صحارٍ شديدة الجفاف في فترات مختلفة خلال عصر النيوجين (Neogene) (23.03 إلى 2.58 مليون سنة مضت)، وكان من أشد فترات التصحر وطأةً على الكائنات الحية في قارة أوراسيا تلك التي تقع في الفترة بين 7.5 إلى 6.25 ملايين سنة، إذ عانت فيها الحيوانات من قلة المياه، وأدى ذلك إلى صعوبة الحياة على تلك الكتلة القارية القديمة، وهو ما قاد بعض الحيوانات إلى الهجرة إلى أفريقيا عبر بلاد ما بين النهرين لتنعم بحياة أكثر رغدًا ولينًا.

تمكن الفريق البحثي من تحديد عمر الرواسب المدروسة بدقة إلى حدٍّ ما باستخدام الطرق الجيوفيزيائية، وتحديد الفترات التي ساد فيها الجفاف، إذ وجدوا دليلًا على أربع مراحل موجزة من التصحر والجفاف مسجلة في طبقات صحراء بلاد ما بين النهرين، استمر كلٌّ منها بضع عشرات الآلاف من السنين، هذه المراحل -التي كانت قبل 8.75 ملايين سنة و7.78 ملايين سنة و7.5 ملايين سنة و6.25 ملايين سنة- توقف كلٌّ منها بفترات مناخ رطب.

يعقب “العطفي” على ذلك بقوله: “أظهرت دراسة حفريات حبوب اللقاح إلى أن بلاد ما بين النهرين عانت من جفاف شديد استمر لفترات طويلة، عُرفت بذروة التصحر العربي في فترة النيوجين (Neogene Arabian Desert climaX) واختصارًا (NADX) (نادكس)”، ويوضح أن “شيوع النباتات العشبية البرية في العينات المدروسة، مثل نبات السرمق والشيح، دليل على أن تلك البيئة كانت بيئة صحراية قاحلة شديدة الجفاف تزامنت مع ذروة التصحر العربي في النيوجين”.

بدوره يرى هشام سلام -أستاذ الحفريات بالجامعة الأمريكية وجامعة المنصورة، وغير المشارك في الدراسة- في تصريحاته لـ”للعلم” أنه “يكمن ثقل الدراسة الحالية في استخدام طرق متعددة لفك شفرات الماضي؛ فهجرة الكائنات من قارة إلى أخرى أمر مثبت ومؤكد، لكن لماذا اضطرت تلك الحيوانات إلى تغيير مواطنها الأصلية؟ هذا هو السؤال الذي أجابت عنه هذه الدراسة”.

أرجوحة صحراوية

توصل الباحثون إلى أن تكوُّن الصحاري دفع إلى هجرة الثدييات من أوراسيا إلى أفريقيا، لكن عندما تغير المناخ واختفت تلك الصحاري مرةً أخرى، لماذا إذًا لم يهاجر سكان أفريقيا إلى أوراسيا مجددًا؟ سؤال يجيب عنه تاريخ صحراء شمال أفريقيا.

كشف الفريق البحثي أن صحراء شمال أفريقيا وصحراء ما بين بلاد النهرين قد تطورتا بالتبادل فيما بينهما، كما لو كانت أرجوحة، إذ كانت الأولى خضراء عندما تحولت الثانية إلى صحاري وسادها الجفاف، والعكس صحيح.

وهكذا ظلت شمال أفريقيا بوابة أفريقيا المفتوحة للأنواع والكائنات الحية المختلفة، ولكن بمجرد اختفاء صحاري بلاد ما بين النهرين أصبحت منطقة شمال أفريقيا إقليمًا صحروايًّا، لتتحول إلى حاجز جغرافي منع انتشار الكائنات الحية من أفريقيا إلى أوراسيا.

ويبقى أن نقول إنه حتى لو كانت التقلبات الفردية لتأرجح الصحاري إلى عدة مئات الآلاف من السنين تبدو طويلةً جدًّا بالنسبة لنا، ولكنها من حيث التاريخ والعمر الجيولوجي هي فترة زمنية قصيرة نوعًا ما.

يقول “سلام”: “لا تكفي الدلائل المتاحة لتفسير سبب تطور أسلاف الأنواع اليوراسية في أفريقيا إلى الأنواع التي تعيش اليوم، بعيدًا عن التأثيرات الخارجية -أي بشكل متوطن- وبناءً عليه فإن الأرجوحة الصحراوية حسبما تشير الدراسة، تقدم الآن تفسيرًا”، ويضيف أنه قبل نحو 5.6 ملايين سنة أخذت شدة التأرجح الصحراوي دفعةً قوية في اتجاه بلاد ما بين النهرين لقرابة 2.3 مليون سنة، إذ تطورت هناك صحراء جديدة، هذه المرحلة الطويلة الممتدة من المناخ الصحراوي تُعد مرحلة استثنائية وغير عادية للغاية، وهذا هو السبب في أن أطلق فريق البحث على هذه المرحلة اسم (NADX).

استمرت هذه المرحلة لفترة طويلة بما يكفي لتكون حافزًا للتطور المتوطن للأسلاف اليوراسية في أفريقيا، ومع “NADX” تم إغلاق دهليز وممر القارة اليوراسية إلى أفريقيا لفترة طويلة جدًّا، وهكذا تلاشت فرص تبادل تلك الأنواع الحية مع القارات الأخرى، ومع نهاية فترة “نادكس” قبل نحو 3.3 ملايين سنة توقفت أرجوحة الصحراء، واخضرت صحراء شمال أفريقيا وبلاد ما بين النهرين معًا في الوقت نفسه، مما سمح بتبادل ثنائي بين أفريقيا وأوراسيا لأول مرة منذ ملايين السنين، تقلص الصحاري أنهى عزلة أفريقيا، وسمح بتطور المجتمع الحيواني وتبادله بين أفريقيا وأوراسيا، إذ ظهرت أولى الكلاب والخنازير والأغنام في أفريقيا، وهاجر أسلاف الماموث والفيل الآسيوي إلى أوراسيا.

وتعقب “مادلين”: “على عكس ما كنا نتوقعه من النتائج، فإن المراحل الصحراوية في شبه الجزيرة العربية لم تتطابق مع تلك الموجودة في صحراء شمال أفريقيا، كما أوضحت لنا النتائج أن التصحر في شبه الجزيرة العربية وبلاد ما بين النهرين كان مرتبطًا بانخفاض منسوب المياه في بحر قزوين”.

وتضيف: “إن الظهور المتبادل وانحلال الصحاري في شمال أفريقيا، من ناحية، وفي شبه الجزيرة العربية في غرب آسيا من ناحية أخرى، يشبه نوعًا من التأرجح، أرجوحة صحراوية”.

من أين أتى البشر؟

من أين أتى البشر؟ لا يزال العلماء في اختلاف حول إجابة هذا السؤال، ولا تزال هناك ألغاز كثيرة مطروحة تحتاج إلى حلول علمية، هل أفريقيا هي المهد الوحيد للبشرية أم أن هذا الظهور تطور في عدة أماكن في أوروبا في الوقت نفسه؟ أم أن البشرية نشأت حتى في أوروبا؟

تتبني الورقة العلمية الجديدة الفرضية المسماة “نظرية خارج أفريقيا”، والتي تقترح أن الثدييات الكبيرة وأسلاف الرئيسيات، ومنها أسلاف الشمبانزي والبشر أو ما يُعرف بـ “لوسي أو الأسترالوبيثكس” كانت جميعها ذات أصول يوراسية، ثم استوطنت أفريقيا مدةً زمنية كبيرة.

تقول “مادلين”: “تدعم هذه النتائج الفرضية القائلة إن البشر لم ينشأوا حصريًّا في أفريقيا جنبًا إلى جنب مع الاكتشافات الأحفورية من أوروبا، موضحةً أن أسلاف البشر والشمبانزي والغوريلا ربما نشأت في أوراسيا وتطورت بشكل متوطن في أفريقيا في أثناء فترة NADX”.

 ويقول”سلام”: “إن كل ما يعيش اليوم من ثدييات -ولا أستثني جنسنا البشري- كانت له أصول من عصر الميوسين المتأخر (قبل 11.6 مليونًا إلى 5.3 ملايين سنة)، ومن قبلها كانت أسلافها وأسلاف أسلافها، وللوصول إلى تفسيرات منطقية لا بد من الحصول على مزيد من الأدلة الملموسة لتضفي على صورة الحياة على الأرض وضوحًا”.

يختتم “العطفي” حديثه إلينا بقوله: إن نتائج الدراسة تلقي بظلال من الشك على نظرية مفادها أن السلالة التي أدت إلى نشوء الجنس البشري ظهرت في قارة أفريقيا”.

تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.

اقرأ أيضًا: الكلاب تكتسب بعض القدرات المعرفية مثل الأطفال الرضع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *