أدلة السلف المشترك – أدلة من علم وظائف الأعضاء المقارن والكيمياء الحيوية المقارنة

علم الوراثة

دراسة سلاسل المورثات تقدم أحد أقوى الدلائل على الأصل المشترك. يفحص تحليل المتسلسلات المقارن العلاقة بين سلاسل دنا لدى الأنواع المختلفة، مما يقدم عدة أدلة تبرهن فرضية دارون الأصلية بالأصل المشترك.

إن كانت فرضية الأصل المشترك صحيحة، فستكون الأنواع التي تشترك في السلف قد ورثت سلاسل دنا من ذلك السلف المشترك إضافة إلى الطفرات التي تميز ذلك السلف. وستشترك الأنواع الأكثر قرابة في جزء أكبر من سلاسل دنا المتطابقة عن ما إذا قورنت بأنواع تصلها بها قرابة أضعف.

أقوى هذه الأدلة وأبسطها يأتينا من الاستبناء الوراثي. عادةً ما تكون تلك الاستبناءات قوية، خاصةً عند استخدام سلاسل بروتين بطيئة التطور في إنشائها، ويمكن استخدامها لاستبناء جزء كبير من التاريخ التطوري للمتعضيات الحديثة، بل والتاريخ التطوري للمتعضيات المنقرضة كما في السلاسل الوراثية المستخرجة من الماموث، والنياندرتال، والتيرانوصور.

تثبت تلك العلاقات المستبناة وراثيًا استبناءات العلاقات التي تعتمد على الدراسات التشكّلية أو الحيوكيميائية. أجريت أكثر الاستبناءات دقة في دراسة جينوم الميتوكوندريا الذي تشترك فيه كل المتعضيات حقيقيات النوى، وهو جينوم قصير وسهل الدراسة. أما أكثر الاستبناءات اتساعًا فقد أجريت اعتمادًا على سلاسل بضعة بروتينات قديمة جدًا أو على سلاسل رنا الريبوسومي.

تمتد العلاقات الوراثية كذلك إلى مجموعة كبيرة من العناصر التسلسلية غير الوظيفية كالتكرارات، والينقولات، والمورثات الكاذبة، والطفرات في السلاسل المرمّز للبروتين والتي لا تغير في سلسلة الأحماض الأمينية. بالرغم من أن قلة من هذه العناصر يمكن أن تكتشف لها وظائف لاحقًا، إلا أنها في الجملة توضح أن التطابق لابد أنه نتيجة الأصل المشترك وليس الوظيفة المشتركة.

التنظيم الحيوكيميائي الشامل وأنماط التنوع الجزيئي

تعتمد كل المتعضيات المعاصرة المعروفة على العمليات الحيوكيميائية ذاتها: ترمَّز المعلومات الوراثية في صورة حمض نووي (دي أن إيه، وآر أن إيه في الفيروسات)، وتنتسَخ إلى رنا، ثم تترجَم إلى بروتينات (أي مبلمرات من الأحماض الأمينية) بواسطة ريبوسومات محافظة.

يتضح ذلك أكثر عند ملاحظة أن الشفرة الجينية (“مفتاح الترجمة” بين الدنا والأحماض النووية) موحدة في كل المتعضيات تقريبًا؛ أي أنه إن وُجدت قطعة دنا في بكتيريا فإنها ترمّز للحمض الأميني نفسه الذي ترمز له إن وجدت في خلية بشرية. ثلاثي فوسفات الأدينوسين هو عملة الطاقة لدى كل أشكال الحياة المعاصرة.

كما أن علم الأحياء التطوري التنموي يظهر أن اشتراك التشكل هو في الواقع نتيجة لاشتراك العناصر الوراثية.

مثلًأ: على الرغم من اعتقاد أن العين شبيهة الكاميرا تطورت مرات عديدة منفصلة، إلان أنها تتقاسم مجموعة مشتركة من البروتينات مستشعرة الضوء (أوبسينات)، مما يدل على نقطة أصل مشتركة لكل الكائنات المبصرة.  من الأمثلة الأخرى الجديرة بالذكر خطة جسم الكائنات الفقارية المعروفة، والتي تحدد بنيتها عائلة العلبة المثلية (Hox) من المورثات.

سَلسَلة الحمض النووي

تتيح مقارنة سلاسل دنا تجميع المتعضيات حسب تشابه سلاسلها، وعادة ما تتطابق أشجار التطور مع التصنيف التقليدي، وكثيرًا ما تستخدم العلاقات التطورية لإثبات التصنيف أو تصحيحه.

تعَد مقارنة السلاسل مقياسًا قويًا بما يكفي لتقويم الافتراضات الخاطئة في شجرة التطور إذا قلت الأدلة الأخرى. مثلًا: تتباين سلسلة دنا الإنسان بمقدار ما يقارب 1,2% عن أقرب أقربائه الوراثيين، الشمبانزي، وبقرابة 1,6% عن الغوريلا، و6,6% عن البابون. لذلك يتيح دليل السَلسلة الوراثية استنتاج مدى القرابة الوراثية وتقديرها بين الإنسان والقردة الأخرى.

استُخدمت سلسلة مورثة رنا الريبوسومي 16 س (مورثة أساسية ترمّز لجزء من الريبوسوم) للعثور على علاقات وراثية واسعة بين كل الأحياء المعاصرة. أجرى ذلك البحث أولًا كارل ووز عام 1977، وكانت نتيجة ذلك البحث إيجاد النظام ثلاثي النطاقات الذي ينص على أنه حدث انقسامان رئيسيان في بداية تطور الحياة؛ نتج عن الانقسام الأول البكتيريا الحديثة وعن الانقسام الآخر نتجت العتائق وحقيقيات النوى.

الفيروسات القهقرية الداخلية

الفيروسات القهقرية الداخلية (ERVs) هي سلاسل في الجينوم بقيت من عدوى فيروسية قديمة في المتعضية. دائمًا ما توَرَّث تلك الفيروسات القهقرية إلى الجيل التالي من المتعضية المصابة. هذا يحافظ على المورثة الفيروسية في جينوم المتعضية. ولأن هذا الحدث نادر وعشوائي، فإن العثور على مورثات فيروسية في موضعين متماثلين على صبغيين من نوعين مختلفين من المتعضيات يشير إلى سلف مشترك بينهما. انظر أمثلة ذلك في الإنسان وفي القطط أدناه.

البروتينات

تدعم الأدلة البروتيومية شمولية أصل الحياة. البروتينات الحيوية كالريبوسوم، والدنا بولمريز والرنا بولمريز توجد في كل الكائنات بدءًا بأكثر البكتيريا بدائية وحتى أكثر الثدييات تعقيدًا.

الجزء الرئيسي في البروتين محفوظ في كل سلالات الحياة ويؤدي وظائف متشابهة. طورت المتعضيات الأكثر تعقيدًا وحدات بروتين إضافية، مما يؤثر بقوة على تنظيمه وتآثرات البروتين-بروتين في مركزه. التشابه المترابط بين سلاسلات كل المتعضيات المعاصرة؛ مثل الدنا، والرنا، والأحماض الأمينية، وطبقة الدهن الثنائية تدعم كلها نظرية السلف المشترك. التحليل الوراثي للسلاسل البروتينية الموجودة في متعضيات متعددة ينتج أشجار علاقة وراثية متشابهة.

التماكب الضوئي للدنا، والرنا، والأحماض الأمينية محفوظ من الأصل المشترك في كل أشكال الحياة المعروفة. وبما أنه لا توجد أفضلية وظيفية لليدوانية التيأمنية أو التياسرية فإن أبسط فرضية هي أن الاختيار وقع عشوائيًا في المتعضيات القديمة ووَرِثت ذلك إلى كل أشكال الحياة المعاصرة من خلال سلفها المشترك. يأتي مزيد من الأدلة لاستبناء السلالات الوراثية من فضلة الدنا مثل المورثات الكاذبة، وهي مورثات “ميتة” تتراكم فيها الطفرات بانتظام.

المورثات الكاذبة

المقال الرئيسي: مورثة كاذبة المورثات الكاذبة (المعروفة أيضًا باسم الدنا غير المشفِّر) هي سلاسل دنا في الجينوم ولا تُنسخ إلى رنا لتصنيع البروتينات. بعض هذا الدنا غير المشفر له وظائف معروفة، ولكن أكثره ليست له وظيفة معروفة ويسمى “فضلة الدنا”. هذا مثال على الأثارية؛ لأن مضاعفة هذه المورثات تستهلك طاقة، مما يجعل الأمر إهدارًا tي كثير من الحالات. تشكل المورثات الكاذبة 99% من الجينوم البشري (1% دنا وظيفي).

يمكن أن تنتج مورثة كاذبة عندما تحدث طفرة لمورثة مشفِّرة وتمنع نسخه، مما يعطل وظيفته، لكن لأنه لا يُنسخ فيمكن أن يختفي دون أن يؤثر على صلاح المتعضية إلا إن أوجد ذلك وظيفة جديدة نافعة للدنا غير المشفر. يمكن أن تنتقل المورثات الكاذبة غير العاملة إلى الجيل التالي من النوع، وهذا يجعل من الواضح أن النوع التالي خلف للنوع الأول.

آليات أخرى

توجد أيضًا أدلة جزيئية كثيرة لعدد من الآليات المختلفة للتغييرات التطورية الكبيرة، منها: الجينوم وتضاعف المورثات، الذي يسهل التطور السريع عن طريق توفير كميات كبيرة من المادة الوراثية بقيود انتقائية ضعيفة أو بغيابها.

كذلك نقل الجينات الأفقي، وهي عملية نقل المادة الوراثية إلى خلية أخرى ليست من ذرية المتعضية، مما يتيح للأنواع اكتساب مورثات نافعة من بعضها. إضافةً إلى التأشيب الذي يسمح بإعادة ترتيب أعداد كبيرة من الألّيلات المختلفة ويسمح بإقامة انعزال تكاثري.

تشرح نظرية التعايش الداخلي أصل الميتوكوندريا والصانعات الخلوية (مثل الصانعات اليخضورية)، وهي عضيات في خلايا حقيقيات النوى، على أنه دمج لخلية عتيقة بدائية النواة في خلية عتيقة حقيقية النواة. تضع هذه النظرية آلية لقفزات تطورية مفاجئة بدمج المادة الوراثية والتركيب الحيوكيميائي لنوعين مختلفين بدلًا من تطور عضيات حقيقيات النوى ببطء.

وُجدت ادلة تدعم هذه النظرية في الطلائعية Hatena arenicola؛ فهي تفترس خلية طحلب أخضر وتبتلعها، فتتصرف خلية الطحلب الأخضر كمتعايش داخلي يغذي Hatena التي تفقد جهازها الغذائي وتتصرف ككائن ذاتي التغذية.

بما أن العلميات الأيضية لا تغادر الأحافير، فإن البحث في تطور العمليات الخليوية البسيطة يجري إلى حد بعيد بمقارنة المتعضيات المعاصرة. تفرعت سلالات عديدة مع ظهور عمليات أيضية جديدة، ويمكن -نظريًا- تحديد زمن ظهور عمليات أيضية محددة بمقارنة صفات ذرية السلف المشترك أو بملاحظة التظاهرات الفيزيائية لتلك الصفات. على سبيل المثال، ظهور الأكسجين في غلاف الأرض الجوي مرتبط بتطور التمثيل الضوئي.

أمثلة محددة

الصبغي 2 في الإنسان

يمكن مشاهدة أحد أدلة تطور الإنسان من سلف مشترك مع الشمبانزي بالنظر إلى عدد صبغيات الإنسان مقارنةً ببقية القردة العليا؛ فكل القردة العليا باستثناء الإنسان تملك 24 زوجًا من الصبغيات، أما الإنسان فلديه 23 زوجًا فقط. الصبغي الإنساني رقم 2 هو نتيجة التحام طرفي بين صبغيين سلفيين.

من أدلة ذلك ما يلي:

  • توافق الصبغي الإنساني 2 مع صبغيين لدى بقية القردة. أقرب أقرباء الإنسان –الشمبانزي العام– لديه سلاسل دنا شبه مطابقة لتلك الموجودة في الصبغي 2 لدى الإنسان، لكنها موجودة لدى الشمبانزي في صبغيين منفصلين. الأمر ذاته ينطبق على الأقرباء الأبعد من ذلك كما في الغوريلا والأورانغوتان.
  • وجود مشطر أثاري. المعتاد أن يكون في كل صبغي مشطر واحد فقط، لكن في الصبغي 2 توجد بقايا صبغي آخر.
  • وجود تيلوميرين أثاريين. عادة ما تكون التيلوميرات موجودة في نهايتي الصبغي فقط، ولكن في الصبغي 2 توجد سلسلتا تيلومير إضافيتين في المنتصف.

لذلك فإن الصبغي 2 يقدم أدلة قوية تدعم اشتراك السلف بين الإنسان والقردة الأخرى. يقول ي. ف. أيدو: “نستنتج أن الموقع المستنسخ في الكوزميدين c8.1 وc29B هو أثر التحام تيلوميري-تيلوميري عتيق ويشير إلى اللحظة التي التحم فيها صبغيان قرديان ليعطيا الصبغي الإنساني “2”.

الأصل الأفريقي للإنسان الحديث

النماذج الرياضية للتطور التي كان من روادها أمثال سيوال رايت، ورونالد فيشر، وجون هالدين، والتي وسّعتها نظرية الانتشار التي وضعها كيمورا موتو، تتيح تلك النماذج التنبؤ بالبنية الوراثية للتجمعات التي تخضع للتطور.

كما أن الاختبار المباشر للبنية الوراثية في التجمعات الحديثة عن طريق سلسلة الدنا قد أتاح للعلماء التحقق من كثير من تلك التنبؤات. على سبيل المثال: نظرية المنشأ الأفريقي للإنسان، والتي تقول بأن الإنسان الحديث تطور في أفريقيا وهاجر تجمع صغير من أفراده إلى القارات الأخرى (في ما يمثل عنق زجاجة سكانية)، تعني هذه النظرية ضمنيًا أنه لابد أن نجد في التجمعات الحديثة علامات ذلك النمط من الهجرة. وتحديدًا، فإنه يفترض أن نجد في التجمعات التي تلت عنق الزجاج (الأوروبيون والآسويون) مستويات أقل في التنوع الوراثي عمومًا وأن نلاحظ توزيعًا أكثر انتظامًا في تكرارات الأليلات عند مقارنتهم بالتجمع السكاني الأفريقي. ثبتت صحة التنبؤين السابقين ببيانات حقيقية من مجموعة من الدراسات.

الفيروسات القهقرية الداخلية في الإنسان

يحمل الإنسان الكثير من الفيروسات القهقرية التي تمثل ما يقارب 8% من جينومه. يشترك الإنسان والشمبانزي في سبع مورثات فيروسية مختلفة، وتشترك الرئيسيات كلها في فيروسات قهقرية مشابهة تنسجم مع علم الوراثة العرقي.

الفيروسات القهقرية الداخلية في القطط

تقدم السنوريات مثالًا آخر على سلسلة مورثة فيروسية وُجدت في سلف مشترك. تحتوي الشجرة التطورية للسنوريات قططًا صغيرة (مثل سنور الأدغال، والقط البري، والقط المنزلي) تفرعت عن أنواع القطط الكبيرة مثل تحت عائلة النمرية ولواحم أخرى. حقيقة وجود مورثة فيروسية داخلية لدى القطط الصغيرة حيث لا توجد في القطط الكبيرة تشير إلى أن تلك المورثة أُضيفت في جينوم سلف القطط الصغيرة بعد تفرع القطط الكبيرة عنها.

تم نقل المقال من ويكيبيديا العربية بالتصرف.

اقرأ أيضًا: أدلة السلف المشترك – مقدمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *