على غرار شخصية بيل موراي في فيلم يوم غراوندهوغ، تعيش أنواع من البكتيريا في بحيرة بولاية ويسكونسن في حلقة تطورية لا تنفك تتكرر. لكن بدلًا من أن يكون الأمر يوميًا، يحدث على مدار السنة.
وفقًا لدراسة منشورة في نيتشر ميكروبيولوجي، وجد باحثون أن معظم الأنواع الفردية من البكتيريا في بحيرة مندوتا تتطور بسرعة على مدار العام، ويبدو أن هذا التطور هو استجابةً للتحولات الموسمية الحادة. تخضع الصفات الجينية داخل الأنواع البكتيرية لتغيرات مستمرة عبر الأجيال، فتكتسب بعض الطفرات الجديدة بينما تختفي أخرى، ومع ذلك، تعود مئات الأنواع المختلفة إلى تركيبتها الوراثية شبه الأصلية، كما كانت قبل تعرضها لنحو ألف جيل من الضغوط التطورية.
وبما أن عمر الميكروبات الفردية لا يتجاوز بضعة أيام، فرصد تطورها الموسمي صعب للغاية. لذلك، اعتمد الباحثون على تحليل جينوماتها لمتابعة كيفية تغير الأنواع على مدى الزمن.
تكررت هذه الظاهرة الموسمية عامًا بعد عام، كما لو أن التطور يشبه فيلمًا يُعاد تشغيله من البداية في كل مرة دون تحقيق أي تقدم حقيقي
قال روبن روير، باحث ما بعد الدكتوراه في جامعة تكساس في أوستن، في مختبر أحد مؤلفي الدراسة، بريت بيكر: «فوجئت بأن جزء كبير جد من المجتمع البكتيري كان يمر بهذا النوع من التغيرات. كنت آمل أن أجد عددًا محدودًا من الأمثلة المثيرة للاهتمام، لكنني صدمت بوجود المئات منها».
قاد روير هذا البحث في البداية كطالب دكتوراه بالتعاون مع ترينا ماكماهون في جامعة ويسكونسن-ماديسون، ثم واصل عمله في جامعة تكساس.
تخضع بحيرة مندوتا لتحولات كبيرة مع تغير الفصول، ففي الشتاء تغطيها طبقة من الجليد، بينما تكتسي بطبقات من الطحالب خلال الصيف. وداخل النوع البكتيري نفسه، تهيمن السلالات الأكثر تكيفًا مع الظروف البيئية السائدة على غيرها خلال موسم معين، بينما تحصل سلالات أخرى على فرصتها في مواسم مختلفة.
استخدم فريق البحث أرشيفًا استثنائيًا، يضم 471 عينة مائية جُمعت من بحيرة مندوتا على مدى 20 عامًا ضمن عدة مشاريع مراقبة طويلة الأمد أشرف عليها كل من ماكماهون وروير وباحثون آخرون من جامعة ويسكونسن-ماديسون.
حلل الباحثون الميتاجينوم المستخرج من كل عينة مائية على حدة، والذي يضم جميع التسلسلات الجينية المستخلصة من شظايا الحمض النووي التي تتركها البكتيريا والكائنات الأخرى في الماء. ونتج عن هذا التحليل أطول سجل زمني متتابع للميتاجينوم جُمع من نظام بيئي طبيعي.
قال بيكر: «تُحدث هذه الدراسة تحولًا جذريًا في فهمنا لكيفية تغير المجتمعات الميكروبية بمرور الزمن. وهذه هي البداية فقط لما يمكن أن تكشفه هذه البيانات عن بيئة وتطور الميكروبات في الطبيعة».
كشف هذا الأرشيف أيضًا عن تغيّرات جينية طويلة الأمد.
شهدت البحيرة في عام 2012 ظروفًا غير اعتيادية؛ إذ ذاب الجليد في وقت مبكر، وكان الصيف أكثر حرارةً وجفافًا من المعتاد، وانخفض مستوى تدفق المياه من النهر الذي يغذي البحيرة، كما تراجعت أعداد الطحالب التي تُعد مصدرًا مهمًا للنيتروجين العضوي الذي تعتمد عليه البكتيريا.
كشف البحث أيضًا عن تحول جذري في الجينات المرتبطة باستقلاب النيتروجين لدى العديد من أنواع البكتيريا في البحيرة خلال ذلك العام، ويُرجح أن هذا التغيير كان نتيجة لانخفاض وفرة الطحالب.
يقول روير: «ظننت سابقًا أنني قد أعثر على نوع واحد أو نوعين فقط من بين مئات الأنواع البكتيرية التي خضعت لتحول طويل الأمد، لكن المفاجأة كانت أن واحدًا من كل خمسة أنواع شهد تغيّرات كبيرة في تسلسله الجيني استمرت لسنوات. ركزنا دراستنا على نوع واحد بشكل معمق، لكن من المرجح أن أنواعًا أخرى مرت بتحولات جينية كبيرة أيضًا».
صورة: مع تعاقب الفصول، خضعت معظم أنواع البكتيريا في بحيرة مندوتا لتطور سريع، لكنها كانت تعود سنويًا إلى حالتها الوراثية السابقة، واستمر هذا النمط على مدى 20 عامًا. تمثل النقاط الزرقاء مدى التغير الجيني الذي طرأ على الأنواع الفردية داخل جنس نانوبلاجيكُس Nanopelagicus بمرور الوقت، بينما تعكس الخطوط السوداء المتوسط المتحرك للتغير الجيني خلال فترة ستة أشهر.
يتوقع علماء المناخ أن تزداد وتيرة الظواهر الجوية المتطرفة في منطقة الغرب الأوسط الأميركي خلال السنوات القادمة، على غرار موجات الحر والجفاف التي شهدتها بحيرة مندوتا في عام 2012.
يقول روير: «يؤدي تغير المناخ إلى تحول تدريجي في الفصول ودرجات الحرارة المتوسطة، لكنه أيضًا يزيد من الظواهر الجوية المفاجئة والمتطرفة. لا نعرف بالضبط كيف ستستجيب الميكروبات لهذه التغيرات، لكن دراستنا تشير إلى أنها ستتطور استجابةً لكل من هذه التحولات التدريجية والتغيرات المفاجئة».
على عكس تجربة التطور البكتيري طويل الأمد الشهيرة في جامعة تكساس، التي تدرس تطور البكتيريا في بيئة ثابتة، ركزت دراسة روير وبيكر على تطور البكتيريا في بيئة طبيعية معقدة ودائمة التغير. ولتحليل ذلك، استعان الباحثون بقدرات الحوسبة الفائقة في مركز الحوسبة المتقدمة بجامعة تكساس لإعادة بناء جينومات البكتيريا من سلاسل الحمض النووي القصيرة المستخرجة من العينات المائية.
قدّر روير أن هذا العمل، الذي استغرق بضعة أشهر فقط في مركز الحوسبة المتقدمة بجامعة تكساس (TACC)، كان سيستغرق 34 عامًا لو تم باستخدام حاسوب محمول، وذلك بسبب الحجم الهائل للبيانات، إذ شملت الدراسة تحليل أكثر من 30،000 جينوم لنحو 2،800 نوع بكتيري مختلف.
حلل الفريق المادة الوراثية للميكروبات باستخدام أرشيف فريد من نوعه يضم عينات مائية جُمعت على مدى 20 عامًا من بحيرة مندوتا في ولاية ويسكونسن.Top of Form0
يشرح روير العملية قائلاً: «تخيل أن جينوم كل نوع يشبه كتابًا، وكل جزء صغير من الحمض النووي يمثل جملة منه. تحتوي كل عينة على مئات الكتب، لكن صفحاتها مبعثرة ومجزأة إلى جمل منفصلة. ولإعادة تجميع كل كتاب، علينا تحديد الجمل التي تنتمي إليه ثم ترتيبها بالشكل الصحيح».
شارك في تأليف هذه الدراسة كل من مارك كيركباتريك من جامعة تكساس، وساراهي غارسيا من جامعة كارل فون أوسيتزكي في أولدنبورغ بألمانيا وجامعة ستوكهولم، وماثيو كيلوم من معهد الجينوم المشترك التابع لوزارة الطاقة الأميركية.
تُعد هذه الدراسة جزءًا من بحثين مترابطين نُشرا في المجلة، ويركز البحث الآخر على بيئة وتطور الفيروسات المستخرجة من العينات المائية نفسها في بحيرة مندوتا.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org