ماذا يخبرنا الأوكسيتوسين عن التضامنية الاجتماعية

يتميز البشر المعاصرون بنزعتهم للتضامن الاجتماعي، وهو مصطلح واسع يشمل التعاطف بين الأنواع والتسامح الاجتماعي والتعاون والإيثار. اقترنت جوانب الإدراك الاجتماعي هذه بتغيرات في جينات الأوكسيتوسين والفازوتوسين ومستقبلاتها. بغية تسليط الضوء على الأساس الجيني لهذا السلوك، أجرى علماء من جامعة برشلونة (UB) وجامعة روكفلر دراسة جديدة تقارن التسلسلات الجينومية المتاحة لهذه الجينات بين البشر المعاصرين وأنواع الرئيسيات غير البشرية (على سبيل المثال، الشمبانزي، قرود البونوبو، وقرود المكاك)، وللمرة الأولى، الإنسان البدائي، باستخدام جميع الجينومات المتاحة لإنسان نياندرتال ودينيسوفان.

في الدراسة المنشورة في مجلة Comprehensive Psychoneuroendocrinology، حدد الباحثون العديد من المواقع التي اختلف فيها البشر المعاصرون عن كل من الإنسان البدائي والرئيسيات غير البشرية، ومواقع أخرى يختلف فيها كل من البشر المعاصرين والبدائيين عن الرئيسيات غير البشرية.

قالت المؤلفة الأولى كونستانتينا ثيوفانوبولو «اتّبعنا نهجًا متعدد التخصصات لفهم تطور التضامن الاجتماعي لأسلاف الإنسان من منظور مستقبلات الأوكسيتوسين والفازوتوسين، إذ دمجنا الأدلة المستمدة من الجينوميات المعاصرة والبدائية، والوراثيات السكانية، وتقنيات النسخ، والدراسات السلوكية والعصبية فضلًا عن طرق أخرى. يمكن لهذه النتائج أن توضح الجينات الكامنة وراء الاختلافات الاجتماعية المحتملة المحددة بين البشر المعاصرين والبشر القدماء، وكذلك أوجه التشابه بين السلوك الاجتماعي البشري الحديث وسلوك البونوبو الاجتماعي». هذا البحث هو جزء من أطروحة الدكتوراه التي أجرتها تحت الإشراف المشترك لسيدريك بويكس، باحث لدى ICREA في معهد الأنظمة المعقدة في جامعة برشلونة(UBICS) ، وإريك د. جارفيس، الأستاذ في جامعة روكفلر.

المتغيرات الفريدة للإنسان المعاصر لدى أكثر من 70% من جمهرة الشعوب

بالنظر إلى الأدلة المتعلقة بالتضامنية الاجتماعية البشرية الحديثة وبناءً على دور جينات الأوكسيتوسين والفازوتوسين في السلوكيات الاجتماعية، افترض الباحثون أن تطور هذه الجينات قد يفسر الأساس الجيني لتطور التضامن الاجتماعي لدى أشباه البشر. ومراعاةً لهذا الهدف، استكشفت الدراسة الاختلافات بين البشر المعاصرين والبدائيين والرئيسيات غير البشرية في المواقع متعددة الأشكال متغايرة الزيجوت في الجينوم البشري – وهي مواقع يوجد منها تسلسلين بديلين على الأقل في كل جمهرة سكانية.

تضيف ثيوفانوبولو «الدراسات السابقة التي قارنت كامل الجينوم البشري المعاصر مع جينومات الإنسان البدائي أو الشمبانزي، ركزت على التغييرات التي باتت ثابتة أو شبه ثابتة لدى الإنسان المعاصر. وقادهم ذلك لتحديد المواقع الحاوية لدى جميع بشر النياندرتال على الأدينين (واحد من النيوكليوتيدات الأربعة التي تشكل الحمض النووي، بالإضافة إلى الغوانين والسيتوزين والثايمين) وتقريبًا جميع البشر المعاصرين (لنقل 98%) يمتلكون الغوانين في تلك المواقع. في هذه الدراسة، بحثنا عن الاختلافات في المواقع التي لا يتشارك فيها جميع البشر المعاصرين بالنوكليوتيدات ذاتها، لاسيما المواقع متعددة الأشكال حيث يمتلك مثلًا 70% من البشر المعاصرين الأدينين و 30% يمتلكون السيتوزين».

حدد الباحثون خمسة مواقع في مستقبلات الأوكسيتوسين والفازوتوسين حيث يتفرد البشر المعاصرون بأحد المتغيرين الاثنين (أو أكثر) مقارنة بالبشر البدائيين والرئيسيات غير البشرية، والتي توجد أيضًا لدى أكثر من 70% من جمهرة البشر المعاصرين. بعد ذلك، أجروا تحليلات وظيفية وترددية لتحديد جدوى هذه المتغيرات من عدمها. لقد أجروا مجموعة من التحليلات على المواقع الخمسة ووجدوا أن بعض المتغيرات فعالة للغاية، ما يشير إلى أن لها تأثيرًا على الوظيفة الجزيئية للبروتينات التي تنشطها هذه الجينات.

وجد الباحثون أيضًا أن هذه المواقع موجودة في مناطق جينوم نشطة في الدماغ، لا سيما في التلفيف الحزامي، وهي منطقة دماغية تشارك في المسارات المتصلة بالإدراك الاجتماعي. علاوة على ذلك، ارتبطت جميع هذه المواقع في دراسات أخرى بكمّ هائل من السلوكيات الاجتماعية أو العجز الاجتماعي، كالتوحد واضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه (ADHD) والعدوانية وما إلى ذلك.

قد تساعد هذه النتائج في تفسير بعض الاختلافات الاجتماعية بين البشر المعاصرين وما نفترض معرفته عن السلوكيات الاجتماعية لإنسان نياندرتال ودينيسوفان. «على سبيل المثال، قد تكون ذات صلة بالمجموعات الاجتماعية الأصغر التي تُنسب إلى إنسان نياندرتال ودينيسوفان أو إلى تناقص أندرجة (androgenization) الإنسان المعاصر. وقد تكون أيضًا ذات صلة بهيكل اجتماعي مختلف، أي أن إنسان نياندرتال قد ارتبط بهيكلية اجتماعية من تعدد الزوجات، ومستوى تنافس بين الذكور أعلى من معظم المجتمعات البشرية المعاصرة».

المتغيرات موجودة فقط لدى الإنسان المعاصر والبدائي

وجدت الدراسة أيضًا موقعين على مستقبل الأوكسيتوسين خاضعين لاصطفاء إيجابي في الإنسان المعاصر والبدائي: أي أن البشر المعاصرين والبدائيين أظهروا متغيرًا لم يسبق وجوده لدى أي من الرئيسيات الأخرى غير البشرية. وهذا يعني أن هذه المواقع توجد بنسب عالية جدًا بين البشر المعاصرين (في هذه الحالة، أكثر من 85%). ارتبطت هذه المواقع نفسها أيضًا بالعديد من السلوكيات أو أوجه القصور الاجتماعية، وكان متوقعًا لأحدها أن يكون موقعًا وظيفيًا عاليًا في تحليلات التنظيم الخاصة بها. «يمكن للمواقع الفريدة لدينا ولدى البشر البدائيين مقابل الرئيسيات غير البشرية أن توضح الأسس الجينية للتسامح الاجتماعي التقدمي الذي كان لازمًا للنشر الثقافي المكثف للابتكارات التكنولوجية (كاستخدام النار) في تطور البشرية، وكذلك فيما يتعلق بالعدوانية المنخفضة التي أشارت إليها عدة علامات في بداية تطور الإنسان، مثل تقلص الأنياب الذكرية وتسريع النجاح الديموغرافي.

مواقع وراثية متقاربة مع قرود البونوبو

ختامًا، وجد الباحثون ثلاثة مواقع يتشارك فيها الإنسان المعاصر بالنيوكليوتيدات ذاتها مع البونوبو، وهو نوع من الرئيسيات يظهر تقاربًا في السلوكيات الاجتماعية الإيجابية مع البشر. «يمكن أن تساعد المواقع المتقاربة في الإنسان المعاصر والبونوبو على فهم أوجه التشابه المفترضة بيننا وبين قرود البونوبو من حيث التضامنية الاجتماعية والتسامح الاجتماعي والتعاون، وأوجه الاختلافات بين الاثنين مقارنة بالشمبانزي. على سبيل المثال، يتفوق البونوبو على الشمبانزي في المهام المتعلقة بالسببية الاجتماعية أو نظرية العقل وهم أكثر انتباهاً للوجه والعينين، الأمر الذي يشي بحساسية تعاطفية أعلى».

رُبطت جميع المواقع المحددة في هذه الدراسة بشكل مستقل بالاضطرابات التي تشمل العجز الاجتماعي، كاضطرابات طيف التوحد (ASD). «إن فهم اضطرابات النمو من منظور تطوري يمكن أن يساعدنا في تحقيق ما نسميه فهم نمائي تطوري لهذه الاضطرابات (علم الأحياء النمائي التطوري). لو أن (تطور الجنين يلخص بالفعل علم تطور السلالات)، فإن فك شفرة مسارنا التطوري قد يلقي الضوء على مواضع وراثية جديدة للبحوث السريرية التي قد تفضي بدورها إلى تشخيص مبكر للاضطراب» وفقًا لكونستانتينا ثيوفانوبولو.

البحث المستقبلي في أحجام عينات أكبر

ستتمثل الخطوة التالية لهذا البحث باختبار هذه النتائج في عينات أكبر. وفقًا لثيوفانوبولو، إن تحقيق هذا الهدف «أسهل» في الرئيسيات غير البشرية مثل الشمبانزي والبونوبو، ولكنه «أكثر صعوبة في حالة إنسان نياندرتال أو دينيسوفان»، لأن الوصول إلى المزيد من الجينومات القديمة يعتمد على الاكتشافات الأثرية إلى جانب عوامل أخرى. وتختتم الباحثة بأن «هناك خطوة أخرى تتمثل بتوسيع نطاق البحث وتضمين المزيد من جينات مسار الأوكسيتوسين أو الجينات الأخرى بارزة الدور في التطور البشري كالدوبامين».

ترجمة: حاتم زيداني

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *