تطور الأركيوبتِرِكس أغرب مما تصورناه

لم يكن الديناصور المجنَّح من الحقبة الجوراسية مجرد سلف مبكر للطيور؛ إذ تكشف الحفريات أنه يمثل أعجوبة تطورية أقرب إلى عصافير داروين

 

ظل الأركيوبتركس Archaeopteryx يمثل كشفاً مهما جدا في علم الأحافير على امتداد أكثر من 150 عاماً. والحقيقة أن اكتشافه جاء في توقيت مثالي؛ إذ حدث بعد سنوات قليلة من نشر كتاب «أصل الأنواع» On the Origin of Species. تنبأت نظرية تشارلز داروين Charles Darwin بأنّ السجل الأحفوري يجب أن يحتوي على عدد كبير من الأشكال الانتقالية للأنواع Species، مع تطور أحد الأنواع تدريجيّاً إلى نوع آخر. غير أن حلقات الوصل المفقودة هذه كانت لا تزال حينها مفقودة بالفعل. وبعد ذلك عُثر على الديناصور الغريب الشبيه بالطيور ليكون فوراً الصورة الرمزية للدلالة على مسار التطور.

وبعد مرور كل هذا الوقت، قد يظن البعض أنه لم يعد هناك ما يمكن اكتشافه حول هذا «الطائر الأول» First bird، في حين أن جزءاً كبيراً من قصته لم تُروَ بعد، في الواقع. وحديثاً، في شهر فبراير 2019، تبين أن البقايا المتأحفرة الأصلية – وهي ريشة – لم تكن كما بدت عليه. ففي السنوات الأخيرة عثر العلماء على منافسين آخرين يتنافسون على لقب الطائر الأول. ومع ذلك، تكشف الأفكار الجديدة حول أصول الأركيوبتركس ونمط عيشه أنه كان رائداً حقيقيّاً يطير في رحلة ملحمية فوق البحر قبل أن يستقر على الجزر النائية؛ وهي رحلة شكلت تطوره بطريقة كان سيُدهش لها داروين دون شك.
ففي عام 1861، عُثر على أول هيكل عظمي لأركيوبتركس بألمانيا، بالقرب من الريشة وبعد اكتشافها بفترة قصيرة. كان الهيكل مقطوع الرأس تقريباً بحجم غراب. ولم يتضح إلا بعد اكتشاف هيكل عظمي ثانٍ، بعد عقد من الزمن، أنه بدلاً من منقار شبيه بمنقار الطيور، كان لدى الأركيوبتركس خطم مكتنز بالأسنان. وقد عُثر على 11 عينة في المجموع، اختفت إحداها في ظروف غامضة في عام 1991 بعد وفاة صاحبها. وتكشف تلك المتبقية عن حيوان عاش قبل نحو 150 مليون سنة في أوروبا الغربية.

وعاشت ديناصورات أخرى شبيهة بالطيور في الصين مثلما دلت على ذلك الأحافير المكتشفة منذ تسعينات القرن العشرين. وهي، مثل الأركيوبتركس والطيور الحديثة، تنتمي إلى وحشيات القوائم (ثيروبودا) Theropods وهي مجموعة من الديناصورات ذات العظام المجوفة والأطراف الثلاثية الأصابع التي تشمل التيرانوصورات Tyrannosaurs والفيلوسيرابتورات Velociraptors. ويرجع تأريخ أقدم الأحافير الصينية إلى 160 مليون عام، وتكشف عن حيوان مغطى بالريش لكنه لم يكن على الأرجح قادراً على الطيران. ويرجع تأريخ بقايا أول المخلوقات التي تشبه إلى حد بعيد الطيور الحديثة – وحشيات القوائم القادرة على الطيران ولها منقار – إلى نحو 125 مليون عام.
ومن ثَمَّ، كان الأركيوبتركس مجرد واحد من العديد من الديناصورات الأولى الشبيهة بالطيور. لكن تفاصيل قصتها تتكشف لنا شيئاً فشيئاً مسلطةً الضوءَ على تطورها. ولفهم كيفية حدوث ذلك، يجب أن نعود إلى نحو 175 مليون سنة خلت عندما بدأت قارة بانغيا Pangea أو قارة الأرض العملاقة بالتفكك والانفصال إلى أجزاء. ومن ناحية الشرق اندفع محيط يطلق عليه اسم تيثيس Tethys مشكلاً لوراسيا Laurasia في الشمال، وهي مزيج من ما يعرف الآن بأمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا، وغوندوانا Gondwana في الجنوب. وغمرت المياه أجزاء كثيرة من أوروبا وشكلت بحراً داخليّاً مع جزيرتين بحجم مدغشقر في الشرق وجزَيْرات أصغر إلى الغرب. وهذه الجزر الغربية النائية، المعروفة بأرخبيل سولنهوفن Solnhofen، هي الموطن الذي عاش فيه الأركيوبتركس.

بداية الطيران؟
كانت الجزرُ استوائيةً وتقع على بعد 500 كيلومتر من خط الاستواء وتحيط بها الشعاب المرجانية. وفي كثير من الأحيان تظهر انطباعات الفنانين الأركيوبتركس يرفرف من شجرة إلى أخرى، ولكن هذا خطأ على الأرجح، كما يقول أوليفر راوهَت Oliver Rauhut ، من دائرة مقتنيات مقاطعة بافاريا لعلوم الأحافير والجيولوجيا Bavarian State Collections of Palaeontology and Geology في ألمانيا: «لا يوجد أي دليل على الإطلاق على وجود أشجار كبيرة». وبدلاً من ذلك، يبدو أن الشجيرات الصغيرة هي التي هيمنت على المشهد. كما بدت فكرة قدرة الأركيوبتركس على الطيران نفسها مثيرة للجدل. ربما كان شبيهاً بالطيور ومغطى بالريش، لكنه افتقر إلى مقومات الطيران الرئيسية، مثل عظمة الترقوة المتينة لتثبيت جناحيه.

انطلاقاً من عزمه على إنهاء الجدل، فقد أجرى ريان كارني Ryan Carney، من جامعة جنوب فلوريدا University of South Florida، في عام 2011 فحصاً مجهريّاً لريشة الأركيوبتركس. وكشف هذا عن وجود بنية صبغية تدعى الميلانوزومات، وتشير إلى أن الريش كان ذا لون أسود غير لامع، الأمر الذي كان سيساعد على الطيران. ويقول كارني: «لدى الطيور الحديثة، تزيد صبغة الميلانين السوداء بشكل كبير من قوة ومتانة الريش». ولكن للأسف، لم ينهِ ما توصل إليه الجدل: كانت الريشة التي فحصها، وفقًا لتحليل جديد، تعود على الأرجح إلى ديناصور آخر. لكن الأدلة التي جمعها كارني منذ ذلك الحين تجعل مع ذلك حجته قوية. وعلى عكس الدراسات الأخرى التي تميل إلى التركيز على ميزة تشريحية واحدة، نظر كارني إلى الصورة من منظار أوسع، مثل كيفية تحريك العضلات والمفاصل للجناح. وبناءً على هذا التحليل، فقد خلص كارني في عام 2016 إلى أن الأركيوبتركس كان قادراً على الطيران.

ويتماشى هذا مع ما ذكره راوهَت وزملاؤه أيضاً. وعند فحص العينة الحادية عشرة، وجدوا أن الجسد كان مغطى بالريش القلمي Pennaceous feathers، وهو النوع الذي تطور لدى الطيور الحديثة لغاية الطيران. وأشار شكل الريش إلى أن هذه العملية بدأت بالفعل لدى الأركيوبتركس. ولكنه ربما لم يكن طائراً ماهراً جدا. ففي العام الماضي قارنت مجموعة أخرى البنية الداخلية لعظام الأركيوبتركس بتلك الموجودة لدى الطيور المعاصرة وخلصت إلى أنها كانت قادرة على الطيران، ولكن لفترات قصيرة، مثل طائر التُدرج Pheasant. يقول راوهَت: «لم يكن أسلوباً رائعاً للطيران».
لم يكن ذلك أمراً مثيراً، ولكن كافياً لرحلة ملحمية. ففي ورقة بحثية نشرت عام 2017، جادل راوهَت في أن الديناصورات الشبيهة بالطيور تطورت في الجزء الآسيوي من لوراسيا ثم هاجرت غربًا نحو ما يعرف الآن بأوروبا. ويبدو أن الأركيوبتركس وحده عبر البحر الداخلي للوصول إلى أرخبيل سولنهوفن.
ربما ساعد الطيران الأركيوبتركس على الإفلات من قبضة الحيوانات المفترسة، لكن من غير المحتمل أنه تحلى بمهارات تكفيه للقبض على فريسته أثناء الطيران. غير أننا نعرف أنه كان يصطاد خلال النهار لأنه يفتقر إلى محجري العين الكبيرين اللذين تتميز بهما الحيوانات الليلية. ولكن ماذا كان يأكل؟ يوحي شكل أسنانه بأنه كان يتغذى بالحشرات. ويلاحظ راوهَت أن كل عينة من الأركيوبتركس لها أسنان مميزة عن الأخرى، الأمر الذي يشير إلى أنها تكيفت مع أنماط غذائية مختلفة بناءً على ما كان متاحاً على الجزيرة التي عاشت عليها. فعلى سبيل المثال، لدى العينة الثامنة أسنان خلفية كبيرة مخروطية الشكل مناسبة لطحن الأطعمة الصلبة. وهذا يشير إلى أنها أكلت الحشرات ذات القشور الصلبة، مثل الخنافس، كما يقول.
ولا تختلف العينات فقط في أسنانها، إذ تختلف العظام في هيكل كل أركيوبتركس أيضاً في أحجامها ومقاساتها، الأمر الذي يثير تساؤلات حول ما إذا كانت تنتمي جميعها بالفعل إلى النوع نفسه، كما خلصت بعض الأبحاث. وجمعها باحثون آخرون ضمن نوعين على الأقل: أركيوبتركس ليثوغرافيكا Archeopteryx lithographica، وأركيوبتركس سيمنسي Archeopteryx siemensii. واقترحت ورقة بحثية عن العينة الثامنة نشرت في 2018 تصنيفها ضمن نوع جديد.

كان لكل هذا الجدل حول تصنيف العينات دلالةٌ مثيرة للاهتمام، إذ يشير إلى وجود توازٍ بين الأركيوبتركس وطيور غالاباغوس Galapagos finches التي درسها داروين. تعيش هذه الطيور أيضاً على جزر نائية وتتكيف مع الفرص المختلفة التي يوفرها موطنها الجزري ويعتقد أنها تتألف من 17 نوعاً مختلفا. وتقدم هذه الطيور مثالاً تقليديا للتشعب التكيُّفي Adaptive radiation، حيث يتطور العديد من الأنواع بسرعة من نوع واحد. قد يكون الأركيوبتركس فَعَل الشيء نفسه على أرخبيل سولنهوفن. وربما هي بمثابة عصافير داروين لكن من العصر الجوراسيperiod Jurassic.

تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.

اقرأ أيضًا: عين عمرها 429 مليون عام تكشف أسرار المفصليات “ثلاثية الفصوص”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *