من أنت؟ كيف تُعاد كتابة حكاية أصل البشر

خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة أُلقيت ظلال من الشك على كل افتراض يتعلق بمن نكون أو من أين أتينا؛ فلغز تطور البشر أصعب -على ما يبدو- مما ظننا

من تظنك تكون؟ هل أنت إنسان معاصر يعود أصله إلى سلالة ممتدة من (الإنسان العاقل) هومو سابين Homo sapiens؟ أم قريب بعيد لأولئك المغامرين العظماء الذين خرجوا من مهد الإنسانية في إفريقيا قبل 60,000 سنة؟ وهل تعتقد أن حجم أدمغة البشر ازداد باستمرار على امتداد ملايين السنين ليصبح تلك الآلة الرائعة التي هي اليوم بين أذنيك؟

أعد التفكير في الأمر لأنه على امتداد السنوات الخمس عشرة الماضية، أُلقيت ظلال من الشك تقريباً على كل فصل من فصول حكاية نشأتنا، وأعيد التشكيك في كل افتراض يتعلق بمن هم أجدادنا الأولون ومن أين أتوا. ولا بد أن للاستنتاجات الجديدة بعض التأثيرات المقلقة فيما يتعلق بأسئلة مثل كم من الوقت مضى ونحن نسير على الأرض وحتى من نكون حقا.

وفي فترة ما من تاريخنا، بدت قصة نشوء الإنسان واضحة نسبياً (يُرجى مراجعة النص الوارد باللون الأزرق في التسلسل التاريخي) وأنها بدأت تقريباً قبل نحو 5,5 إلى 6,5 ملايين سنة، في مكان ما في إحدى غابات شرق إفريقيا مع قرد شبيه بالشمبانزي. فقد تطور بعض أفراد سلالة هذا الشمبانزي إلى  الشمبانزي الحديث أو البونوبو وترك آخرون الغابة إلى السافانا. وقد تعلموا كيف يسيرون على قدمين وكانوا بذلك طليعة مؤسسي ذرية الهومينين (الهومنين) Hominin lineage.

قبل نحو أربعة ملايين سنة، كانت قد نشأت من سلالة القرود السائرة على قائمتين مجموعة ناجحة وإنما لا تزال بدائية سُميت أسترالوبيثكوس Australopiths الذين يعتقد أنهم أجدادنا المباشرون. فقد اكتشفت الأحفورة الأكثر شهرة من بينهم تلك المسماة لوسي Lucy في منتصف سبعينات القرن العشرين وحظيت بلقب جَدة البشرية. وقبل نحو مليوني سنة، نمت لدى بعض من المتحدرين منها أدمغة أكبر حجماً وسيقان أطول فصاروا «بحق» باكورة النوع البشري. لقد استخدم (الإنسان المنتصب) هومو إيركتوس Homo erectus ساقيه الطويلتين للخروج من إفريقيا. بدورهم، واصل أشباه بشر آخرون وبإصرار ظاهر تطوير أدمغة أكبر حجماً لتشهد المليون سنة التالية أو ما يناهزها موجات هجرة جديدة خارج إفريقيا لنوع ذي دماغ أكبر حجما؛ هكذا نشأ في النهاية إنسان نياندرتال أوراسيا Neanderthals of Eurasia. وأوراسيا هي المناطق الأوروبية والآسيوية الممتدة بين المحيطين الأطلسي والهادئ.

ولكن، في نهاية الأمر، أفضت جميع الطرق التي اتبعها المهاجرون الأوائل إلى طريق مسدود. إذ نجح في تطوير أكبر الأدمغة على الإطلاق الهومنين الذين مكثوا في إفريقيا وهؤلاء هم الذين وُلدت منهم ذرية هومو سابين Homo sapiens.

وإلى فترة قريبة، اتفقت الآراء على أن مسيرتنا الكبرى خارج إفريقيا بدأت قبل نحو 60,000 سنة وأنه قبل نحو 30,000 سنة، ولأي سبب من الأسباب، كان كل المنافسين الآخرين قد اندثروا فلم يبق غير الإنسان العاقل –  وهو نوع لديه تاريخ متصل ممتد لنحو ستة ملايين سنة ويعود في أصله إلى أدغال إفريقيا.

أو هذا ما ظننا

ولكن ابتداء من عام 2000، توالت سلسلة من الاكتشافات الجديدة التي نثرت طبقة فوق أخرى من التعقيد والإرباك على معارفنا. ففي عامي 2001 و2002 وحدهما، كشف باحثون أن ثلاثة أنواع قديمة اكتشفت حديثاً تعود جميعها إلى فترة غير معروفة نظرياً في حقبة ما قبل تاريخ البشرية ما بين 5,8 و7 ملايين سنة.

وما كان من اكتشاف إنسان أورورين توجنينسيس Orrorin tugenensis وأرديبيثكوس راميدوس Ardipithecus ramidus وساحل أنثروبوس تشادينسيس (إنسان الساحل التشادي) Sahelanthropus tchadensis سوى أن دفع، وبسرعة كبيرة، الفرضيةَ المتعلقة بتطورنا والسائدة منذ مدة طويلة إلى شفا الانهيار.

لقد قادتنا الحسابات الجينية (الوراثية) التقريبية إلى الاعتقاد أن سلالتنا انفصلت عن سلالة الشمبانزي قبل 6,5 و5,5 ملايين سنة خلت. ولكن أناسيّ أورورين وأرديبيثكوس وساحل أنثروبوس بدت أكثر شبهاً بنا مما هي قرود الشمبانزي المعاصرة، على الرغم من أن تاريخ وجودها سابق على الانفصال المفترض – وهو ما يقترح أن ذريتنا قد تكون أقدم بنصف مليون سنة على الأقل مما كنا نعتقد.

أغضبت الاستنتاجات في البدء علماء الوراثة الذين زعموا خطأ دراسة العظام. ولكن، وبعد عقد من الزمن، بدأوا حتى هم أنفسهم يراجعون فرضياتهم. وفي عام 2012، أرغمت مراجعة الأفكار المتعلقة بمدى سرعة تراكم الاختلافات الجينية في حمضنا النووي DNA (دنا) على إجراء إعادة تقييم خلصت إلى أن الانفصال بين الإنسان والشمبانزي ربما حصل قبل ما بين 7 و13 مليون سنة.

ليس شديد الشبه بالشمبانزي Not so chimp-like

لم يعد التوافق في الآراء اليوم جلياً حول متى بدأ أشباه الإنسان يسيرون على الأرض. فقد بقي كثيرون متمسكين بفرضيتهم القديمة ولكن آخرين أبدوا رغبة في التفكير في إمكانية أن تكون سلالتنا أقدم بمرتين تقريباً، وهذا يعني أن هناك فصولاً عديدة من قصتننا لم تُكتب بعد ولا تزال تنتظر إزاحة الستار عنها.

ولكن صعوبة الأمر لا تقتصر على ذلك. إذ إن الفكرة القائلة إن أجدادنا القدماء ذوات الأربع غادروا الغابات، ربما إثر تغيُّر في الظروف المناخية، ومن ثم تكيفوا مع السير على قدمين، هي من أكثر الافكار قِدَماً في الكتب التعليمية المتصلة بالتطور البشري. فهذه الفكرة المعروفة بفرضية السافانا Savannah hypothesis كان أول من اقترحها جان بابتيست لامارك Jean-Baptiste Lamarck في عام 1809. وبعد مئتي سنة بالتحديد واجهت تلك الفرضية نفسها تحدي اكتشاف جمجمة رائعة محفوظة بشكل مدهش عمرها 4,4 ملايين سنة.

تُعد أردي Ardi المنتمية إلى نوع أرديبيثكوس راميدوس دُرة ثمينة في سجل أشباه الإنسان المتأحفرة. وتزداد أهميتها نظراً لأنها دفعت إلى إعادة التفكير في عدة فرضيات رئيسية. لم تكن أردي مُتكيفة مثل الشمبانزي لتتأرجح من غصن إلى غصن أو تسير على براجمها أو مفاصل قوائمها، وهو ما يقترح أن الشمبانزي اكتسبت هذه الميزات قبل فترة حديثة نسبيا. وبعبارة أخرى، فإن القرد الذي نشأت عنه الشمبانزي والبشر ربما لم يكن شبيها بالشمبانزي في الأصل.

وخلافاً لنظرية لامارك Lamarck’s hypothesis، تنتمي قدما أدري وساقاها وعمودها الفقري بصورة جلية إلى مخلوق كان يسير منتصباً بارتياح إلى حد معقول. مع هذا، واستناداً إلى مكتشفيها، عاشت أردي في بيئة تكسوها الأشجار. ويقترح هذا أن أشباه الإنسان بدأوا بالسير على ساقين قبل أن يغادروا الغابات، وليس بعد ذلك – وهذا يناقض بشكل مباشر فرضية السافانا.

وعلى الرغم من أن فكرة عيش أردي في الغابة لا تروق للجميع، فقد اقترحت خطوط دلالية أخرى أننا فهمنا قصة السير على قائمتين بالمقلوب، طيلة هذه السنين. فقد خلصت شوشانا ثورب Susannah Thorpe، من جامعة برمنغهام University of Birmingham في المملكة المتحدة والتي تدرس قردة أورانغ أوتان Orangutans في محيطها الطبيعي، إلى أنها تقف على قائمتين للسير على الأغصان فهذا يجعلها أقدر على الوصول إلى الثمار. وفي الواقع، فإننا سنجد أن جميع الأنواع الحية من القردة الكبيرة تمشي أحياناً على قائمتين في أثناء تحركها بين أشجار الغابة. وسيكون من الغريب القول إن أجدادنا نحن لم يفعلوا ذلك أيضا.

وسواء قبل أو بعد الوقوف على قائمتين، فلا بد أن أجدادنا نزلوا في مرحلة ما عن الأشجار. ولا جدال في هذا، على الأقل. ومع دخولنا إلى القرن الحادي والعشرين، كنا نعلم بوجود مجموعة واحدة تنطبق عليها المرحلة  الانتقالية: إنه إنسان أسترالوبيثكوس وهي مجموعة من أشباه الإنسان الشبيهة بالقرود المنتصبة على قدمين والمعروفة بفضل أحافير عثر على كمية منها في شرق وجنوب القارة الإفريقية وتعود إلى ما بين 4,2 و1,2 مليون سنة خلت. فقد عاشت هذه المجموعة في المكان الصحيح وفي الزمن الصحيح اللذين مكناها من أن تتطور إلى بشر قبل مليوني سنة. ويُعتقد أن لوسي ظهرت على الأرجح في منتصف تلك الفترة، قبل 3,2 ملايين سنة. ومنذ اكتشافها، شكلت حجر أساس مُقنع بنيت عليه باقي شجرة عائلة الهومينين، بصفتها جَداً مباشراً عاش في الوادي المتصدع Rift Valley في شرق إفريقيا.

بعد ذلك، وفي عام 2001، عثر الباحثون على جمجمة عمرها 3,5 ملايين سنة في كينيا. كان يفترض أن تنتمي الجمجمة إلى نوع أسترالوبيثكوس أفارنسيس A. afarensis الذي تنتمي إليه لوسي وكان يعتقد أنهم الهومينين الوحيدون الذين عاشوا في شرق إفريقيا في تلك الحقبة. ولكن وجه الجمجمة كان مختلفاً عن وجه لوسي. ويقول فرد سبور Fred Spoor، من جامعة يونيفرسيتي كولدج لندن University College London والذي حلّل الجمجمة، إن وجهها كان مفلطحا إلى درجة تجعل بالكاد يمكن تصنيفه على أنه إنسان أسترالوبيثكوس. هكذا أعطاه سبور مع فريقه بمن فيهم ميف ليكي  Meave Leakey من جامعة ستوني بروك Stony Brook University في نيويورك اسماً جديداً هو: كينياأنثروبوس بلاتيبوس (إنسان كينيا مفلطح الوجه) Kenyanthropus platyops.

في ظاهر الأمر، بدا أن اقتراح مشاركة مجموعة لوسي العيش في شرق إفريقيا مع نوع شبه هومنين مختلف ذات أهمية هامشية فحسب. ولكن بعد عدة سنوات، بدأ إنسان كينيا يحظى باهتمام متزايد. وبعد مقارنة خصائص جمجمته بخصائص أنواع أخرى من الهومنين، تجرأ بعض الباحثين على اقتراح أن إنسان كينيا مفلطح الوجه تربطه صلة قرابة أكبر بنا من أي من أنواع إنسان أسترالوبيثكوس. فقد دفعت هذه الخلاصة إلى تصنيف لوسي ضمن فرع مختلف تماما في شجرة  العائلة، وانتُزعت منها مكانة جَدة البشرية.

يبدو أن كل هذا الإرباك لم يكن كافياً، وبدأ باحثون آخرون بشن هجوم مماثل على محور آخر. إذ خلص مكتشفو إنسان أورورين توجنينسيس، وهو شبه بشري عمره ستة ملايين سنة عثر عليه في عام 2001، بالمثل إلى أن صفاته التشريحية أكثر شبها بالبشر من تلك الموجودة لدى إنسان أسترالوبيثكوس، وهكذا بدا أن مرجحاً أن أورورين توجنينسيس هو جدنا الأكبر المباشر أكثر من لوسي أو أي من أقاربها.

لكن هذه الأفكار لم تقنع القسم الأكبر من مجتمع الباحثين، وفق سبور، وأعاد اكتشاف عظمة فك شبه بشري عمرها 2,8 مليون سنة في إثيوبيا تعزيز مكانة لوسي. ويقول سبور: «إنها من نواح عدة متأحفرة انتقالية مثالية بين أسترالوبيثكوس أفارينسيس وأشباه الإنسان الأقدم.»

مع ذلك، فقد تعرضت مكانة لوسي رسمياً للطعن مرتين بصفتها جدتنا المباشرة. ويقول سبور إنه ليس مستبعداً أن تتعزز مثل هذه التحديات وغيرها. ويضيف: «علينا أن نعمل على ما بحوزتنا وأن نستعد لتغيير قناعاتنا إذا لزم الأمر.»

دماغ صغير وهوبيت غريب Tiny brains and alien hobbits

أثار الفضول في عام 2015 إعلان فريق عن اكتشاف أقدم أدوات حجرية معروفة حتى الآن إذ يبلغ عمرها 3,3 ملايين سنة تقريباً، في الطبقات الجيولوجية نفسها التي عثر فيها على إنسان كينيا. ويقول سبور: «إنه من الناحية المنطقية، يجب أن يكون إنسان كينيا هو من صنع هذه الأدوات.» وربما يلمح ذلك إلى صلة عن طريق صناعة هذه الأدوات بين إنسان كينيا والبشر الأوائل – على الرغم من وجود أدلة ظرفية على استخدام إنسان أسترالوبيثكوس كذلك أدوات حجرية. وفي كل الأحوال، فإن تحديد من هم الهومنين الذين تطوروا إلى بشر لم يعد واضحاً تماماً مثلما كان من قبل.

ظلت أجزاء أخرى مهمة على صلة بقصة تطور البشر بمنأى من تأثير هذه الاكتشافات ولا سيما منها قصة «الخروج من إفريقيا». وتفترض هذه الفكرة أن الهومنين الوحيدين الذين غادروا إفريقيا كانوا بشراً ذوي أدمغة كبيرة وسيقان طويلة تسعفهم في اجتياز مسافات بعيدة.

ولكن حتى هذه الفكرة الجوهرية بدأت تهتز مع تحقيق اكتشافات جديدة في أماكن أخرى. فقد بدأ ذلك في عام 2002 لدى الإعلان عن اكتشاف جمجمة بشرية عمرها 1,75 مليون سنة يمكن أن تحوي دماغاً لا يزيد حجمه على 600 سنتمتر مكعب أي نصف حجم دماغ الإنسان المعاصر. وما كان يمكن لمثل هذه الجمجمة المتأحفرة أن تعد اكتشافاً غير اعتيادي في شرق إفريقيا، لكن هذه بالتحديد اكتشفت في دمانيسي Dmanisi في جورجيا بمنطقة القوقاز. بذلك اتضح أن هومينين ذوي أدمغة صغيرة خرجوا من إفريقيا.

ولكن من ناحية أخرى، لم يهدد العثورُ على جمجمة دمانيسي وأحافير أخرى في الموقع الروايةَ الكلاسيكية السائدة. وبدا أن هومنين دمانيسي هم من أوائل البشر وربما كانوا نسخا ذات أدمغة صغيرة على نحو غير مألوف من هومو إيركتوس H. erectus الذي يعد كلاسيكياً أول من غادر إفريقيا من الهومنين.

بعد ذلك طرح اكتشاف آخر في عام 2003 معضلة أكثر تعقيدا. ففي تلك السنة عثر باحثون يعملون في جزيرة فلوريس Flores الإندونيسية على هيكل عظمي غريب أيضا. فقد تبين أن لديه دماغاً صغيراً وجسماً صغيراً كما هي الحال لدى شبه إنسان إفريقي قديم يعود إلى نحو مليوني أو ثلاثة ملايين سنة خلت. وزيادة في تعقيد المسألة، بدا أنه عاش قبل عدة عشرات آلاف من السنين في منطقة كان يعتقد أنها حصراً موطن بشر «حقيقيين» ذوي سيقان طويلة وأدمغة كبيرة. أطلق الفريق على هذا النوع الغريب اسم هومو فلوريسيينسيس Homo floresiensis الشهير ب “الهوبيت”.

يقول بيتر براون Peter Brown، من الجامعة الوطنية الأسترالية Australian National University والذي أشرف على تحليل البقايا المتأحفرة: «قلتُ في عام 2004 إن وقع المفاجأة عليَّ كان سيكون أقل وطأة لو أنهم عثروا على سفينة فضائية في فلوريس بدلاً من العثور على هومو فلوريسيينسيس.» ويضيف أن الجمجمة البدائية كانت ولا تزال «في المكان والزمان غير المناسبين».

ولا يزال العلماء غير متفقين حول دلالات العثور على بقايا الهوبيت المتأحفرة، ولكن من الأفكار الرئيسة المطروحة هي أنها تعد دليلاً على هجرة مُبكرة جداً من إفريقيا قام بها هومنين أولون من أشباه أسترالوبيثكوس. وفي الحقيقة، فإن قصة الخروج من إفريقيا بمجملها هي في تغير مستمر إذ تُظهر الأدلة المُستقاة من  التحليل الجيني (الوراثي) ومن الأحافير الخطأ التام للرأي الذي ساد لفترة بأن نوعنا البشري خرج من إفريقيا قبل 60,000 سنة. ومن الفرضيات التي تقترحها بعض الأدلة أن الإنسان العاقل وصل إلى الصين حتى قبل 100,000 سنة.

كان الهوبيت مجرد شبه بشري غريب ويمكن أن نعده شواذّ بسيطا على القاعدة. ولكن في أقل من عقد من الزمن بعد العثور عليه، اكتُشف في جنوب إفريقيا نوعان آخران غريبان لا تنطبق عليهما أي من الفرضيات السائدة.

لا يشبه أسترالوبيثكوس سيديبا Australopithecus sediba وهومو ناليدي Homo naledi أياً من الهومنين الذين عثر عليهم من قبل، كما يقول لي برغر Lee Berger من جامعة ويتووتر ساند University of Witwatersrand في جنوب إفريقيا والذي أشرف على تحليل كليهما. إذ يبدو هيكلاهما العظميَّان وكأنهما رُكِّبا من أجزاء مختلفة من أشباه بشر لا صلة بينهم. والمهم في الأمر، أن خليط خصائص أسترالوبيثكوس سيديبا المكتشف في عام 2010 مختلف تماماً عن خصائص هيكل هومو ناليدي الذي عثر عليه في عام 2015.

تشبه أسنان وفك وأيدي أ. سيديبا تلك الأجزاء لدى البشر في حين تشبه قدماه قدمي القرد. أما هومو ناليدي فيجمع بين حوض شبيه بحوض أسترالوبيثكوس، وجمجمة أحد أوائل البشر «الحقيقيين»، وقدمين لا يمكن تقريباً تمييزهما عن قدمينا.

«كانت قصتنا البشرية منطقية تماماً إلى أن جاءت اللحظة التي لم تعد فيها كذلك»

لا يحمل أي من الأنواع القديمة مثل هذه الخصائص الغريبة ولكن، ومثلما يقول برغر، فإن قلة قليلة من أحافير الهومنين الآخرين حُفظت جيداً لتحمل إلينا كل هذه التفاصيل. وربما كان الأمر مجرد مصادفة مثيرة للاهتمام. أو ربما، يقول برغر، دلالة على أننا بالغنا في تبسيط فهمنا لتطور الهومنين.

فنحن نميل إلى الافتراض بأن الأنواع الشبيهة بالقرود تغيرت تدريجيا لتصير شبيهة بالبشر على امتداد ملايين السنين. وفي الواقع، يقترح برغر أنه ربما كانت هناك مجموعة متنوعة من الفروع التطورية طور كل منها مجموعة فريدة من السمات شبه بشرية متقدمة مع الاحتفاظ بنُسق متميزة من صفات يحملها أشباه القردة. ويقول: «كنا نحاول أن نحكي القصة في وقت أبكر من اللازم استناداً إلى أدلة أقل مما يلزم. (…) كانت منطقية تماماً إلى أن جاءت اللحظة التي لم تعد فيها كذلك.»

في وقت مبكر من هذه السنة، أعلن برغر أن بقايا هومو ناليدي عمرها ما بين 236,000 و335,000 سنة فحسب. وبعد أسابيع ورد نبأ العثور في جبل إيغود بالمغرب على أحافير عمرها 300,000 سنة قد تعود إلى أفراد أوائل من نوع هومو سابين. وفي حال صح هذا النبأ، فهذا يعني أن هذه الأحافير أرجعت تاريخ نوعنا وبضربة واحدة 100,000 سنة إلى الوراء.

ويمثل العمر الحديث نسبياً لإنسان هومو ناليدي مثالاً صارخاً على مدى تعقيد وصعوبة رسم شجرة تطور البشر. ولم تكبر أدمغة البشر ويستمر حجمها بالازدياد على امتداد آلاف السنين وتتساقط الأنواع ذات الأدمغة الصغيرة على جانب طريق التطور التدريجي. وبدلاً من ذلك، عاش أفراد نوعنا في أرض إفريقية كانت كذلك موطنا لبشر لديهم أدمغة بنصف حجم دماغهم.

نحن لا يسعنا سوى أن نتكهن كيف (إو إذا) تواصل هومو ناليدي H. naledi صاحب الدماغ الصغير مع أوائل أفراد هومو سابين. وتقترح أدلة مثيرة للاهتمام والجدل في الوقت نفسه جَمعها فريق برغر أن هومو ناليدي تخلص من موتاه بصورة مدروسة – ربما يكون ذلك علامة على أن حتى الهومنين «البدائيين» تصرفوا بطريقة متطورة (انظر الإطار:  ليس مميزاً في نهاية الأمر).

وتقترح فرضية أخرى مستقلة مبنية على الأدلة أن السلوك المختلف لم يكن بالضرورة حاجزاً للتواصل بين الأنواع.

لقد بدأ علماء الجينات يُبدون في نهاية تسعينات القرن الماضي اهتماماً بالبقايا المتأحفرة. وأتاح لهم التقدم التكنولوجي سَلسلة جزء صغير من حمض الميتوكوندريا (المتقدرات) النووي mitochondrial DNA (mtDNA) من عظمة إنسان نياندرتال. فقد كان التسلسل الجيني مختلفاً بصورة واضحة عنه لدى هومو سابين وهو ما أتاح الافتراض بأن إنسان نياندرتال انقرض من دون أن يتزاوج (أو يختلط) كثيراً بنوعنا. ولكن الميتوكوندريا النووي فريد من نوعه. فبخلاف الحمض النووي DNA الموجود في نواة الخلية والمسؤول عن القسم الأكبر من المعطيات الجينية البشرية، ينتقل حمض الميتوكوندريا النووي سليماً من الأم إلى أطفالها ولا يختلط بجينات الأب. يقول يوهانس كراوس Johannes Krause، من جامعة تيوبنغن University of Tübingen الألمانية: «إن حمض الميتوكوندريا هو أسوأ حمض نووي يمكن أن تختاره لدراسة التخالط. »

بحلول عام 2010، بدأت صورة مختلفة تماما ترتسم. فقد أتاح التقدم في التكنولوجيا لعلماء الجينات -مثل كراوس- سَلسلة جينوم كامل من عظام نياندرتال. وكان من نتيجة ذلك أن حصلنا على أدلة غير بسيطة ولكن يمكن تمييزها على أن إنسان نياندرتال تزاوج بنوعنا. لم تكن الاختلافات السلوكية بين البشر والنياندرتال كافية بداهة للحيلولة دون حدوث بعض اللقاءات الحميمية من وقت إلى آخر.

مع هذا، يرى البعض أن ذلك لم يكن أعظم إعلان جيني في تلك السنة. فخلال بحثهم، فحص كراوس وزملاؤه  مادةً جينيةً مستخرجة من جزء يفترض أنه عائد إلى عظمة إنسان نياندرتال عثر عليها في كهف في سيبيريا في عام 2008. وما أثار دهشة الجميع هو أن الحمض النووي DNA في تلك العظمة لم يكن لإنسان نياندرتال بل عائد إلى مجموعة جديدة تماماً من الهومنين المتصلين به ولكن المختلفين عنه يُطلق عليهم اليوم اسم بشر دنيسوفان Denisovans.

لا يزال بشر دنيسوفان لغزاً محيراً إلى اليوم. فكل ما لدينا منهم هي عظمة إصبع وثلاثة أسنان من كهف واحد. لا نعرف هيئتهم حتى وإن كان هومو سابين عدهم بشراً بما يكفي للتزاوج بهم: وفَّرت جدولة المادة الجينية النووية لإنسان دنيسوفان المنشورة في عام 2010 أدلة واضحة على أنهم تزاوجوا بنوعنا. وبيَّن العمل على الحمض النووي DNA كذلك أنهم عاشوا في حقبة ما في مختلف أنحاء شرق آسيا. إذن، أين توجد بقاياهم؟

مغامرات عاطفية Slap and tickle

في عام 2017، سرعان ما صارت قصة التزاوج أكثر تعقيداً مما كان يمكن لأحد تخيله في سنة 2000. يقول  كراوس وهو يعدد قائمة لا تنتهي: «إنسان نياندرتال تزاوج بهومو سابين. وإنسان نياندرتال تزاوج بإنسان دنيسوفان. وإنسان دنيسوفان تزاوج بهومو سابين. هناك شيء ليس لدينا اسم له بعد تزاوج بإنسان دنيسوفان – قد يكون عنصراً من مجموعة شبيهة بهومو إيركتوس… »

وعلى الرغم من أن مجموعة من العظام الغريبة شككت في روايتنا لتاريخنا البشري، فإن الحمض النووي DNA الذي بداخلها هو الذي هزَّ أغصان شجرة تطورنا. فمع حصولنا على أدلة على مثل هذا الكم من التزاوج في فترات ساحقة في القدم، يزداد الأمر تعقيداً إلى حد كبير إذا أردنا أن نقرر أين يجب أن نرسم خطوطاً بين مختلف تلك المجموعات أو إذا كان رسم مثل تلك الخطوط مبرراً. ويتساءل كراوس: «كيف يمكن حتى تعريف الأنواع البشرية؟ إنه نقاش ليس بالهيِّن. » ويحمل معظمنا من الأحياء اليوم داخل خلايانا على الأقل جزءاً من الحمض النووي لنوع عاش قبل عشرات آلاف السنين. ونحمل جميعنا أجزاء مختلفة – إلى درجة أنه لو أمكن جمعها كلها معاً، لأمكننا، وفق كراوس، أن نعيد بناء تقريباً ثلث جينوم (مجين) Genome إنسان نياندرتال و90% من جينوم إنسان دنيسوفان. فهل يمكننا حقاً، بما لدينا من هذه المعرفة، أن نقول إن هذه الأنواع انقرضت حقا؟ وإذا مضينا بهذه الفكرة خطوة أخرى أبعد من ذلك، وافترضنا أن معظم البشر الأحياء هم خليط من الحمض النووي لهومو سابين مع أجزاء متناثرة من أنواع أخرى، فهل هناك شيء يمكن أن نسميه إنساناً عاقلاً «حقيقيا؟»

والآن، وبعد أن وضعنا أنفسنا في هذه الحفرة الفلسفية المُحيِّرة، ربما هناك طريقة واحدة للخروج منها وهي أن نواصل الحفر بحثاً عن أحافير وأن نبحث عن مزيد من الحمض النووي فيها لفحصه.

 

ليس استثنائيا في نهاية الأمر

يعد الإنسان العاقل الذي ننتمي إليه نوعاً متميزا. فقد نجحنا في تحقيق أمور تفوَّقنا بها على كل الآخرين في شجرة عائلتنا. فعلى الرغم من حبهم للتجوال والسفر، لم يتمكن البشر القدماء من قبلنا على الأرجح من الوصول إلى أمريكا، ناهيك بالطبع عن الصعود إلى القمر. tلم تتعلم الأنواع البشرية القديمة الكتابةً أو تأليف السمفونيات ولا تطوير عقل علمي لاكتشاف جذور تطورها.

ولكن التباين بين نوعنا وتلك الأنواع التي عاشت قبلنا ربما ليس حاداً تماماً مثلما ظننا من قبل. في عام 2014 على سبيل المثال، عثر باحثون على كتابة متعرجة خُطت على صَدَفة قبل 500,000 سنة. وكنا نظن أننا النوع الوحيد القادر على رسم رموز مجردة، ولكننا وجدنا أن هومو إريكتوس كان يفعل ذلك قبل أكثر من 200,000 سنة، حتى قبل تطور هومو سابين.

وتزداد كذلك قناعة الباحثين بأن إنسان نياندرتال مارس سلوكيات متقدمة مثل استخدام عوَّامة لبلوغ الجزر أو الكيمياء البسيطة لإشعال النار. ويعتقد البعض أنهم حفروا علامة الوسم Hashtag sign على صخرة في جبل طارق. وفي كهف في فرنسا، رتبوا صواعد الكهوف على شكل دوائر حجرية لا يزال معناها مُحيِّرا(الصورة أعلاه). فهل كانت رموزاً كذلك؟

ثم هناك هومو ناليدي الذي يقل حجم دماغه عن نصف حجم دماغنا. ويقول الفريق الذي استخرج بقاياه إن هومو ناليدي قام عمداً بوضع موتاه في مغارات عميقة يصعب الوصول إليها. ويبدو مثل هذا السلوك الملفت سلوكاً حديثاً وليس على الأقل ما يمكن توقعه من هومنين دماغهم ليس أكبر بكثير من دماغ الشمبانزي. وإذا كان هومو سابين مايزال متميزاً بين الهومنين، فإننا كلما حفرنا أعمق عثرنا على أصداء لسلوكنا المتطور لدى بعض من أقربائنا الأقدمين.

كولين باراس Colin Barras مستشار لدى نيو ساينتست مقيم في ميشيغن.

نشرت المقالة في مجلة نيوساينتيست، العدد 3140، في 26 أغسطس 2017

تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.

اقرأ أيضًا: ظهور أمراض المناعة الذاتية بعد علاج السرطان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *