المملكة الحيوانية مليئة بالخديعة، ومن المحتمل أنها تلعب دورًا تطوريًا

«تنتشر الخديعة بكثرة في العالم البيولوجي، رغم أنها تبدو لنا نحن البشر أمرًا كريهًا ومرفوضًا».

قد تعتقد أن الخديعة سمة بشرية محضة، لكن الطبيعة مليئة بكافة أساليب الخداع. يناقش هذه الفكرة ليكسنغ صن في كتابه الجديد (المخادعون في الطبيعة وطبيعة المخادعين) « The Liars of Nature and the Nature of Liars  »، وهو أستاذ باحث في السلوك والتطور في جامعة واشنطن المركزية.

يناقش في كتابه كيف تطور مفهوم الخديعة في المملكة الحيوانية وكيف أدت للتنوع الهائل على سطح الكوكب. تجدون أسفلًا مقتطفًا من الكتاب حيث يظهر الكاتب كيف غفل تشارلز داروين عن أهمية فن الخداع في الانتقاء الطبيعي.

الخديعة موجودة في كافة مجالات الحياة وعلى كافة مستويات التسلسلات الهرمية البيولوجية، بدءًا بأكثر المتعضيات تعقيدًا وصولًا لأبسطها وحتى أشكال الحياة غير المكتملة.

رغم تفشي الخديعة في الطبيعة، فإن كلمات كالخديعة والكذب والتضليل تتصاحب بمعاني ضمنية سلبية بالنسبة لنا نتيجة تفضيلاتنا الأخلاقية والثقل الذي نضعه في الإخلاص. ورغم أننا نقدر الحقيقة ونبغض الأكاذيب، للحياة الواقعية غالبًا رأي آخر. وخلافًا للعرف الراسخ، فإن الصدق والإخلاص ليسا بالسياسة الأمثل في الحياة اليومية.

لننظر لهذه الحالة. اتُهم رجل بريء خطأً بجريمة وأدين بها وحكم عليه بالموت. اقترح أصدقاءه الأوفياء في محاولة يائسة لإنقاذه بأن يهرب عبر تقديم رشوة للسجان. وحتى حين ووجه بهذا الخيار، فقد رفض معترضًا بأن ذلك يعد خرقًا للنظام القانوني. ما رأيك بمفهوم الأمانة والإخلاص لدى هذا الرجل؟ لو كنت مكانه، ماذا ستفعل؟

إن كنت تعتقد أن قرار هذا الرجل كان أحمقًا، هنيئًا لك! فقد أنقذت لتوك حياة سقراط الفيلسوف اليوناني الذي اختار الموت على أن يخرق الثقة بين المواطن والدولة. ما هو احتمال أن تجد في العالم الطبيعي شهيدًا بطوليًا كهذا مستعدٌ للموت في سبيل الأمانة والصدق؟ احتمال مستبعد للغاية، في الواقع لا يوجد مثال واحد عليه. على العكس نجد أن الخديعة شائعة في الطبيعة على كافة المستويات.

لماذا تشيع الخديعة كثيرًا في العالم البيولوجي؟ الجواب باختصار: التطور ليس فيلسوفًا سقراطيًا. إنه عملية لا تتبع الأخلاق ومنعدمة المشاعر تتم براغماتيًا دون القلق للتفضيلات الأخلاقية وقواعد الشرف ومنظومة القيم، فالتطور لا يميز بين التعاون الداعم للمجتمع والتلاعبات المضادة له، لأن المهم هو الشيء الفعال لديمومة البقاء والتكاثر.

كل خصيصة – مورفولوجية كانت أم فيزيولوجية أو  سلوكية أو جينية – يمكن أن تسود طالما بإمكانها أن تدفع حاملها نحو الكفاءة الداروينية المعرفة والمقاسة بعدد النسل المولود والواصل لمرحلة البلوغ . علاوة على ذلك، في حين أننا نستبعد الخديعة من اعتباراتنا الأخلاقية، فإن التطور يعاقب من يستغني عنها كخيار استراتيجي لزيادة فرص كفاءتهم كنوع. وبالنتيجة تنتشر الخديعة بكثرة في العالم البيولوجي، رغم أنها تبدو لنا نحن البشر أمرًا كريهًا ومرفوضًا.

وبهذا تتفشى الخديعة في الطبيعة كنتيجة مباشرة للانتقاء الطبيعي. ومن الحقائق الأقل تداولًا أن الخديعة تمثل قوة انتقائية شديدة تدفع عجلة التطور بمفردها. السبب بسيط مفاهميًا: الخيانة تفيد الخادع وتؤذي المخدوع. وبالمثل فإنها تحفز بزوغ تكتيكات مضادة للخديعة والتي بدورها تنجب استراتيجيات مضادة لمضادات الخديعة إلى ما لا نهاية. وخلال سباق التسلح التطوري هذا ووفقًا لداروين «تشكيلات غير منتهية وعلى درجة كبيرة من الجمال والروعة قد خضعت -وماتزال تخضع- للتطور».

ولتوضيح هذه النقطة، لنأخذ بكتريا التربة، الرزوبيا، التي تعيش في جذور النباتات، البقوليات تحديدًا. تقدم هذه البكتريا النيتروجين للنبات بينما يؤمن النبات لها المسكن والغذاء بشكل كربون. وبالتالي فإن العلاقة من المفترض أن تكون نفعية تبادلية، أو هذا ما اعتقدناه. لكن الفحص الدقيق كشف أن العلاقة بين الرزوبيا والنبات المضيف أعقد من أن تكون مجرد علاقة رومانسية. إذ تنتج بعض بكتريا الرزوبيا كمية قليلة جدًا من النتروجين. أي أنها تخدع النبتة للحصول على المسكن والكربون من النبات، ولهذا السبب لا تستضيف جميع النباتات بكتريا الرزوبيا. تشتهر بعضها بمقاومة الرزوبيا بقطع الغذاء عنها في حال كانت البكتريا المخادعة كثيرة العدد، وفقط تلك النباتات التي تعيش في تربات فقيرة بالمغذيات وبأمس الحاجة للنتروجين ستقبل على مضض بهذه العلاقة غير العادلة مع البكتريا. وعلى ما يبدو لا يصح للمحتاج أن يكون متطلبًا. وهذا يظهر كيف يمكن للخديعة أن تطلق العنان لسلسلة من ممارسات جديدة ومضادة تنتهجها البكتريا والنبات المضيف في محاولة لإزاحة الكفة لصالحها في العلاقة.

هل أنتم مفتونون بالاستراتيجيات المعقدة الصادرة عن اللعبة التطورية بين الرزوبيا والنبات؟ إنها مجرد حالة بسيطة توضح كيف يمكن للخديعة أن تقدح زناد سباق تسليح تطوري وأن تخدم كمحفز قوي لخلق تنوعات وتعقيدات وحتى جمالية كما سنرى في الأقسام التالية.

لسوء الحظ، لا ينال دور الخديعة في التطور التقدير الكافي لسببين رئيسيين. الأول تاريخي، إذ لم يعترف داروين نفسه بها كقوة رئيسية في التطور بالانتقاء الطبيعي. لا يرد ذكر كلمة خديعة (cheat) أبدًا في كتاب «أصل الأنواع» لكنه يستخدم كلمة تضليل (decieve) سبع مرات. ثلاثة منها فقط ترتبط بخداع الحيوانات – وجميعها عبارة عن أشكال من المحاكاة والتمويه الوقائي تستخدمها الحشرات لخداع مفترسيها. من الواضح أنه لم يكن يفكر بكيفية ارتباط الخديعة بالتطور، على الأقل لم تكن ذات أولوية مهمة ضمن أفكاره الكثيرة.

إغفال داروين لهذه الفكرة يبطن السبب الثاني لتجاهلنا لأهمية الخيانة. من السهل رؤية الانتقاء الطبيعي من منطلق المنافسة الحادة والشرسة على الموارد، أو من حيث النجاة من المفترسات والطفيليات والممرضات. ونتيجة لذلك، تم تصوير التطور على نحو شائع بأنه «البقاء للأصلح» وأن «عالم الطبيعة عالم دموي». يمكن لهذا الانطباع المحدود أن يحيد انتباهنا عن القوى المطاوعة للسلوكيات التعاونية ذات الفعالية المماثلة في تعزيز صلاح النوع في مواقف وسياقات عديدة، وقد أشار علماء كثر لهذه النقطة في العقود الأخيرة. إن الذكاء الاجتماعي لدى بعض الحيوانات أهم بكثير من القوة البدنية.

فعلى سبيل المثال، يُقاس نجاح الكفاءة ضمن مجموعة البونوبو بقوة الشبكة الاجتماعية للفرد. فالقرد مفتول العضلات الذي يتكئ على قوته البدنية فقط محكوم عليه بالفشل عند مواجهته الجهود الموحدة للأعضاء المتعاونة. ومن دون بعض الذكاء الاجتماعي، يمكن أن يكون عرضة للتلاعب والاستغلال من قبل الاخرين. وهذا سبب أهمية الخديعة كمحفز للذكاء الاجتماعي في التطور.

 

ترجمة: حاتم زيداني

المصدر: livescience

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *