عظم فك أحفوري ممكن أن يكون دليل على الوجود المبكر للإنسان العاقل في أوروبا

عظم فك أحفوري ممكن أن يكون دليل على الوجود المبكر للإنسان العاقل في أوروبا

تطور الإنسان العاقل، نوعنا، في أفريقيا منذ حوالي 300000 و200000 سنة. أكد علماء الأنثروبولوجيا هذه التقديرات استنادًا إلى الأدلة الأحفورية والجينية والأثرية.

ولكن ماذا حدث بعدها؟ وكيف وصل الإنسان الحديث إلى جميع أنحاء العالم؟ تعتبر الإجابة على هذه الأسئلة أحد أكثر مجالات البحث نشاطًا في دراسات التطور البشري.

عثر على أقدم دليل أحفوري على جنسنا البشري خارج إفريقيا في موقع يسمى كهف ميسليا، في الشرق الأوسط، ويعود تاريخه إلى حوالي 185000عام. عثر أيضًا على أحفورات الإنسان العاقل منذ حوالي 120 ألف عام في نفس المنطقة، ما يدل أن الإنسان الحديث وصل إلى أوروبا في وقت لاحق.

يمكن أن تكشف معرفة وقت هجرة جنسنا البشري خارج إفريقيا عن رؤى وأفكار مهمة للتنوع البيولوجي والسلوكي والثقافي في الوقت الحاضر. يتكون الصنف البشري الآن من الإنسان العاقل فقط، بينما تعايش جنسنا مع سلالات بشرية مختلفة في الماضي، بما في ذلك إنسان نياندرتال ودينيسوفان. يهتم العلماء بالوقت والمكان الذي واجه فيه الإنسان العاقل هذه الأنواع الأخرى من البشر.

تثير عملية إعادة التحليل التي أجريناها مؤخرًا لعظم فك أحفوري من موقع في إسبانيا يُدعى بانيولز أسئلة جديدة حول الوقت الذي ربما هاجر فيه جنسنا البشري إلى أوروبا.

اكتشاف أحافير الإنسان العاقل في أوروبا

كانت أولى الاكتشافات الموثقة للأحافير البشرية في أوروبا، قبل نشر داروين كتاب أصل الأنواع عام 1859. كانت أفكار التطور موضع نقاش داخل الجامعات الأوروبية والجمعيات العلمية.

تعود معظم الاكتشافات الأحفورية القديمة إلى إنسان نياندرتال، وهو نوع نشأ في أوروبا منذ 250 ألف عام وانقرض منذ حوالي 40 ألف عام. وهم أيضًا أقرب الأسلاف التطوريين، وبسبب التهجين القديم، تشتمل جينومات البشر اليوم على الحمض النووي لإنسان نياندرتال. ساهمت أحافير إنسان نياندرتال في إغناء تفكير الباحثين الأوائل حول التطور البشري؛ نظرًا لوجوده التاريخي المبكر.

عثر على أول دليل أحفوري لإنسان نياندرتال في عام 1856 أثناء الأنشطة الحفرية في وادي نياندر في ألمانيا. اعتمد علماء الحفريات القديمة على هذا الدليل وبدأوا في البحث عن أحافير بشرية في الكهوف الأخرى والمناطق المكشوفة التي حافظت على الرواسب القديمة.

بعد أكثر من عقد من الزمن، اكتشف العلماء أحافير الإنسان العاقل في موقع كرو ماغنون Cro-Magnon في جنوب فرنسا في عام 1868. مثلت هذه الأحافير التي يبلغ عمرها أكثر من 30000 عام أقدم دليل أحفوري على الجنس البشري في أوروبا خلال معظم القرن العشرين.

اكتشف مؤخرًا الدليل على وجود الإنسان العاقل سابقًا في أوروبا من موقعين في أوروبا الشرقية، يشمل ذلك جزء من جمجمة من كهف زلاتي كون Zlatý kůň في تشيكيا يعود تاريخها إلى 45000 عام، بالإضافة إلى بقايا مجزأة من كهف باشو كيرو Bacho Kiro في بلغاريا يعود تاريخها إلى حوالي 44000 عام. أكد تحليل الحمض النووي القديم أن الأحافير من هذه المواقع تمثل الإنسان العاقل. تجرى دراسة دليل إضافي، الذي يحتمل أن يكون أقدم، وهو سن يعود تاريخه إلى 54000 عام من كهف غروت ماندرين في فرنسا.

إعادة التحقيق في الفك السفلي للإنسان البدائي

عثر على أحفورة عظم فك سفلي بشري منذ أكثر من قرن من الزمان في عام 1889، في مقلع بالقرب من بلدة بانيوليز، في شمال شرق إسبانيا. درس بير ألسيوس، وهو صيدلاني محلي بارز، أحفورة الفك السفلي، وتولت عائلته رعايتها منذ ذلك الحين.

درس عدد من علماء الأنثروبولوجيا الأحفورة على مدى فترات من الزمن، لكنها لم تذكر في المناقشات حول الإنسان العاقل في أوروبا. اعتبرها معظم الباحثون بأنها تعود لإنسان نياندرتال أو ما يشابهه، قد يكون السبب هو افتقار هذه الأحفورة لأهم صفات الإنسان العاقل وهي الذقن العظمي في مقدمة الفك السفلي، والتي تعتبر ميزة نموذجية وتشخيصية مهمة للنوع البشري.

لم يكن لدى الباحثين فكرة جيدة عن عمر فك بانيولز السفلي، ويعتقد معظمهم أنه يعود إلى فترة العصر الجليدي الأوسط (منذ 780000-130000 سنة). أي إلى فترة تسبق وجود الإنسان العاقل. وهكذا، مع غياب الذقن والتاريخ المبكر المفترض، اعتبر نسب الأحفورة إلى إنسان النياندرتال أمرًا منطقيًا.

أجري تأريخ سلسلة اليورانيوم والرنين المغزلي للإلكترون على عظم الفك السفلي، أشارت النتائج أن عمر العظم يتراوح بين 45000 و66000 عام. يتداخل هذا التقدير مع أحافير الإنسان العاقل المبكرة من أوروبا الشرقية.

من خلال العمل مع علماء الأنثروبولوجيا القديمة وعلماء الآثار الإسبان، ألقينا نظرة على الأنواع الأخرى التي قد تمثلها الأحفورة. لقد اعتمدنا على التصوير المقطعي المحوسب لإعادة بناء الأجزاء التالفة أو المفقودة من الفك السفلي، وإنشاء نموذج ثلاثي الأبعاد للأحفورة الكاملة. ثم درسنا شكله العام وخصائصه التشريحية المميزة، وقارناه مع الإنسان العاقل، وإنسان نياندرتال وأنواع بشرية أخرى سابقة.

على النقيض من التحليلات السابقة، كشفت نتائجنا أن عظم الفك هذا كان أكثر تشابهًا مع أحافير الإنسان العاقل وليس إنسان نياندرتال.

كانت الملامح العظمية للفك السفلي وأماكن ارتكاز أوتار العضلات والأربطة أقرب إلى الإنسان العاقل. لم يعثر أيضًا على ميزات عظمية فريدة مشتركة مع إنسان نياندرتال.  عندما استخدمنا تقنيات تحليل ثلاثية الأبعاد متطورة، وجدنا أن الشكل العام للعظم يتطابق بشكل أفضل مع الإنسان العاقل مقارنة مع إنسان نياندرتال.

تشير جميع أدلتنا تقريبًا إلى انتماء هذا الإنسان القديم إلى الجنس البشري، ولكن بقي افتقاره إلى الذقن محيرًا. توجد هذه الميزة في جميع التجمعات البشرية اليوم ويجب أن تكون موجودة فيه ليحقق شرط الانتماء.

البحث عن المطابق الأقرب

كيف يمكننا التوفيق بين نتائجنا التي تظهر أن فك بانيولز هو لإنسان حديث مع حقيقة أنه يفتقر إلى واحدة من أكثر السمات البشرية الحديثة تميزًا؟ نظرنا في عدة سيناريوهات محتملة.

كان الفك السفلي مغلفًا في كتلة من الحجر الجيري الصلب ومكشوف بشكل جزئي وقت اكتشافه. أثناء التنظيف والتحضير الأولي للعينة، سقطت عن طريق الخطأ وتضررت منطقة الذقن. أعيد بناء الحفرية لاحقًا، مع محاذاة الأجزاء التالفة في موضعها التشريحي الصحيح، ويبدو أن الحالة الحالية للأحفورة تعكس بدقة الشكل الأصلي الذي لا يتضمن وجود الذقن. وبالتالي، لا يمكن أن يعزى عدم وجود ذقن لدى فك بانيولز إلى هذا الحادث الأولي.

هل يمكن أن يكون عدم وجود ذقن في أحافير بانيولز هو نتيجة تهجين مع إنسان نياندرتال، الذي كان يفتقر أيضًا إلى الذقن؟ تشير الدلائل الجينية إلى أن الإنسان العاقل تزاوج على الأرجح مع إنسان نياندرتال منذ حوالي 45000 و65000 سنة، ما يجعل هذا الأمر ممكنًا.

لتقييم هذه الفرضية، قارنا فك بانيولز مع فك الإنسان العاقل المبكر الذي يرجع تاريخه إلى حوالي 42000 سنة والمستخرج من موقع روماني يسمى Peştera cu Oase. كشف تحليل الحمض النووي القديم أن إنسان نياندرتال هو أحد أسلاف إنسان أوسي Oase قبل أربعة إلى ستة أجيال، وبالتالي يمكن اعتباره فردًا هجينًا. ولكن أظهر الفك السفلي لإنسان أوسي ذقنًا متكاملًا مع بعض ميزات نياندرتال الأخري. نظرًا لعدم اشتراك فك بانيولز بالسمات المميزة لفك إنسان نياندرتال، فقد استبعدنا إمكانية أن يمثل هذا الفرد التزاوج بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل.

 

أصبحنا الآن أمام احتمالين. قد يمثل فك بانيولز فردًا هجينًا بين الإنسان العاقل وسلالة بشرية قديمة غير إنسان نياندرتال. قد يفسر هذا السيناريو غياب الذقن بالإضافة إلى عدم وجود أي ميزات نياندرتال أخرى. ولكن لم يتعرف العلماء على أي مجموعة قديمة غير إنسان نياندرتال في السجل الأحفوري للعصر البليستوسيني الأوروبي المتأخر (129000-11700 سنة)، ما يجعل هذه الفرضية أقل احتمالًا.

قد يوثق بانيولز سلالة غير معروفة سابقًا من أنواع الإنسان العاقل عديم الذقن في أوروبا. تظهر أحفورات الإنسان العاقل المبكرة من إفريقيا والشرق الأوسط ذقنًا أقل بروزًا من البشر الأحياء، ما يشكل دعمًا محتملًا لهذه الفرضية.

أظهرت أبحاث الحمض النووي القديمة أن مجموعات الإنسان العاقل في أوروبا قبل 35000 عام لم تساهم في التجمع الجيني الأوروبي الحديث. وبالتالي، نعتقد أن الفرضية الأقل ترجيحًا هي أن بانيولز يمثل أحد أفراد مجموعات الإنسان العاقل المبكرة.

توضح دراستنا لبانيولز أن الاكتشافات الحديثة حول ماضينا التطوري لا تعتمد فقط على الاكتشافات الأحفورية الجديدة، ولكن يمكن أيضًا أن تتحقق من خلال تطبيق منهجيات جديدة على الأحافير المكتشفة سابقًا. في حال كانت الفرضية صحيحة وكان بانيولز أحد أفراد الجنس البشري، فمن المحتمل أن يمثل أقدم سلالة موثقة للإنسان العاقل في أوروبا. يمكن لتحليل الحمض النووي القديم في المستقبل تأكيد أو دحض هذه النتيجة المفاجئة. يتوفر في غضون ذلك النموذج ثلاثي الأبعاد لبانيولز للباحثين الآخرين للدراسة وتشكيل استنتاجاتهم الخاصة.

ترجمة: ولاء سليمان.

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *