سياسة «العدو العزيز» قد تمثل طوق نجاة للتعايش بين الكائنات

تخلص السناجب الحمراء من الميل إلى الوحدة.. وتساعدها على إقامة علاقات طيبة مع جيرانها وتشكيل تحالفات لحماية أراضيها من المغتصبين

في كتابه “كليلة ودمنة”، يتحدث الفيلسوف والحكيم الهندي “بيدبا” عما أسماه بـ”العدو العزيز” من خلال قصة جمعت حيوان “السنور” المعروف بمهاجمته للفئران وفأر صغير كان يعيش حذرا إلى جواره؛ وظل الفأر على حذره حتى سقطت حبال أحد الصيادين على جسد “السنور”.

رأى الفأر في تقييد حركة “السنور” فرصة سانحة للخروج من جحره وتناول طعامه بحرية؛ لكن الفأر فوجيء بحيوانين (أحدهما بومة والآخر ابن عرس) ينتظران لحظة الانقضاض عليه لالتهامه؛ وقتها رأى الفأر في مساعدة “السنور” فرصة لبقائه حيًّا؛ وبالفعل ساعده؛ لكنه اكتفى بمساعدته إلى المرحلة التي تضمن قدرة “السنور” على التخلص من باقي الحبال بنفس القدر الذي يضمن فيها الفأر عدم غدر “السنور” به.

وعندما سأله السنور عن سر ذلك رد الفأر قائلا بأنه “لا خير للضعيف في قرب العدو القوي.. ولا خير للذليل في قرب العدو العزيز”، في إشارة إلى أن التعايش مع كائن عدو قد يكون مفيدا؛ لكنه يجب أن يكون مرهونا بالحذر”.

وفي السياق، تشير دراسة نشرتها دورية “كارنت بيولوجي” (Current Biology) إلى أن  الكائنات جميعا تستطيع أن تطبق سياسة “العدو العزيز” لتعيش فى سلام اذا ما أدركت أهمية العلاقات مع جيرانها.

تشير الدراسة، التي امتدت لـ22 عاما وأجراها باحثون من عدة جامعات دولية على فصيلة السناجب الحمراء، إلى أنه “على الرغم من أن السناجب الحمراء من الأنواع التي تفضل الوحدة والاستقرار المكاني، الا أن الباحثين اكتشفوا ارتفاع معدل البقاء وزيادة عدد المواليد عندما تعيش هذه السناجب بجوار نفس الجيران عاما بعد عام”.

ووفق النتائج، لم يرصد الباحثون أي اختلافات ملحوظة بين وجود صلة قرابة مع جيران السناجب من عدمه، وأن العامل الأهم هو اعتياد السناجب على التعايش مع نفس الجيران وطول مدة الجيرة.

كما أوضحت الدراسة أن “تلك المؤشرات كانت أكثر وضوحا لدى السناجب الأكبر سنا، اذ أن طول مدة الجيرة أدى الى تعويضها لآثار الشيخوخة بدرجة كبيرة”.

تقول إيرين سيراكوزا -باحثة ما بعد الدكتوراه بجامعة “إكسيتر” البريطانية، والباحثة الرئيسية في الدراسة-إن “السناجب الحمراء تسكن فى مكان محدد ونادرا ما تحتك جسديًّا مع بعضها البعض؛ ولكن لأهمية الجيرة لديها قد تتعاون مع منافسيها لتقاسم موارد الغذاء أو تبادل التحذيرات عند ظهور حيوانات مفترسة، أو لتكوين تحالفات لحماية الأراضى المجاورة من المغتصبين”.

تضيف “سيراكوزا” في تصريحات لـ”للعلم”:على الرغم من أن السناجب تميل إلى الوحدة، إلا أنها تشترك فى تفاعلات اجتماعية وقد تكون لها علاقات اجتماعية قوية”.

تتبع الباحثون 1009 من السناجب الحمراء على مدى 22 عاما. وفى كل صيف، كانوا يقومون بتغيير علامات الأذن الملونة لتحديد أماكن إقامة السناجب

وعن سبب اختيار السناجب الحمراء، تقول “سيراكوزا”: هناك سببان أولهما أنها تميل للوحدة وعدم الاختلاط الاجتماعي، ولكن نتائج الدراسة أثبتت أن هذه الطبيعة لا تعني بالضرورة الانعزال الاجتماعي؛ ما يعني أن العلاقات الاجتماعية مهمة فى العديد من الأنظمة الاجتماعية سواء الميل للوحدة أو التواجد فى محيط إقليمى محدد أو لدى البشر. وثانيا أننا أجرينا دراستنا بالتعاون مع مشروع (Kluane Red Squirrel Project)؛ والذي يمثل نموذجا مثاليأ للدراسة يمكن من خلاله طرح تساؤلاتنا.

يعود تاريخ هذا المشروع، الذي يهتم بدراسة بيئة وتطور السناجب الحمراء فى أمريكا الشمالية، إلى عام 1987؛ حيث قام “ستان بوتين”، أحد المشاركين فى الدراسة، بتتبع سلوكيات السناجب الحمراء فى منطقة “يوكون” الكندية؛ حيث تمت دراسة السناجب الحمراء على نطاق واسع.

تقول “سيراكوزا”: لاحظنا أن السناجب الحمراء،التي تتمتع بعلاقات اجتماعية مستقرة تأسست من خلال الصيحات الدفاعية المعروفة بـ”الخشخشة” التى تقوم بها لتعريف نفسها، كانت الأقل محاولة فى التطفل على أراضى الغير أو سرقة مخابئهم. ما يعني أن هناك شبه اتفاق ضمني على حدود الأراضى التى يقطنوها دون التصارع عليها. وهذه الظاهرة تعرف باسم “العدو العزيز” وهى منتشرة بين العديد من أنواع الحيوانات.

واكتشف الباحثون أن “وجود صلة قرابة بين السناجب المتجاورة فى السكن لايمنحها أى فوائد بيولوجية فى حين أن مدة التعايش مع نفس الجيران تمنحهم فرصة أفضل فى طول البقاء وفى انجاب عدد أكبر من الصغار. وتستفيد السناجب الأكبر سنا من هذا الجوار، إذ أن احتمال البقاء على قيد الحياة لدى سنجاب عمره 4 سنوات لمدة عام يتضاءل من 68% إلى 59%، ولكن إذا كان نفس السنجاب يحتفظ بنفس الجيران من عام لآخر، فإن احتمال البقاء يرتفع من 68% إلى 74%.

وترى الباحثة الرئيسية أن نتائج الدراسة قد تساعد على فهم تطور النظم الإقليمية بصورة أفضل وتفسير السلوكيات المرتبطة بها مثل الأنواع المهاجرة التي تعود لنفس المكان عاما بعد الأخر، وكذلك الأنواع المستقرة التي تحافظ على البقاء في مناطق مستقرة نسبيًا أو نطاقات منزلية طوال حياتها وأيضا أمهات الحيوانات التى نادرا ما تترك موقعها من أجل صغارها، مشيرة إلى أن “كل هذه السلوكيات تعكس عدم رغبة الحيوانات فى إعادة التفاوض فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية”.

وتوضح “سيراكوزا” أن السناجب الحمراء تخزن مخزونًا من الموارد الغذائية في “مستنقع” في وسط أراضيها لتعتمد عليه فى فصل الشتاء. ولهذا تقوم السناجب بحماية الحدود الإقليمية التي تعيش فيها لتمنع السناجب الأخرى من سرقة مواردها الغذائية. وهذا الدفاع عن الأرض مُكلف، إذ تبذل السناجب مزيدا من الوقت والطاقة سواء لإصدار أصوات تحذيرية “خشخشة” أو لمطاردة السناجب الأخرى للرحيل عن أراضيهم وإبعادهم عن مخزون الغذاء.  أما فى وجود الجيران المألوفين، فان تكلفة الحفاظ على الأرض تتضاءل لقلة الوقت والطاقة المبذولة لحماية الأرض.

تقول “سيراكوزا”: نستخلص من هذه الدراسة أن السناجب الحمراء يمكن أن تعلمنا أهمية العلاقات الاجتماعية، فهى لا تحب جيرانها نظرا لتنافسها المستمر حول الغذاء والأزواج والموارد، ولكنها تتعايش مع بعضها البعض. وفى العالم الذي نعيشه، نجد الشقاق والفرقة وربما يجب أن نتعلم نحن البشر أيضا أننا نحتاج لجيراننا وللتعايش السلمى معهم. وتفتح هذه الدراسة مجالا أكبر للبحث العلمى حول أهمية العلاقات الاجتماعية وتأثيرها على السلوكيات واللياقة البدنية فيما يتعلق بالأنواع الأخرى.

تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.

اقرأ أيضًا: أدلة جينية جديدة تكشف أن الذئاب الرهيبة لم تكن ذئابًا حقًّا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *