قد تبدو القارة القطبية الجنوبية مكانًا مهجورًا لكنها موطن لبعض أشكال الحياة الأكثر تميزًا على هذا الكوكب. رغم أن متوسط درجات حرارة اليابسة حوالي -60 درجة مئوية وتدنو حرارة المحيط من نقطة تجمد المياه المالحة (-1.9 درجة مئوية)، تزدهر عدة أنواع في هذا الموطن المتجمد.
تعتبر الأسماك الجليدية في القطب الجنوبي «سمكاوات الجليد القدية» مثالًا يظهر تكيفات ملحوظة تسمح لها بالبقاء في المياه الجليدية المحيطة بالقارة. على سبيل المثال، طورت هذه الأسماك بروتينات سكرية خاصة «مضادة للتجمد» تمنع تكوين الجليد في خلاياها. بعض الأسماك الجليدية باتت من «ذوات الدم الأبيض» لأنها لم تعد تصنع الهيموغلوبين، وبعضها فقد الاستجابة المحرضة للصدمة الحرارية، وهي استجابة جزيئية عالمية تقريبًا لدرجات الحرارة المرتفعة.
إضافة إلى مجموعة التغييرات هذه، كشفت دراسة حديثة نُشرت في مجلة Molecular Biology and Evolution عن الآليات الجينية التي تكيفت من خلالها الأنظمة البصرية للأسماك الجليدية في القطب الجنوبي مع كل من البرودة الشديدة وظروف الإضاءة الفريدة تحت الجليد البحري في القارة القطبية الجنوبية.
بدأ فريق من الباحثين، بقيادة جياني كاستليوني (جامعة فاندربيلت) وبيليندا تشانغ (جامعة تورنتو)، باستكشاف تأثير درجات الحرارة دون الصفر على وظيفة وتطور النظام البصري للسمك الجليدي في القطب الجنوبي. ركز المؤلفون على صباغ الرودوبسين، وهو بروتين حساس لدرجة الحرارة يساهم في الرؤية في ظروف الإضاءة الخافتة.
وفقًا لكاستليوني، اقتُرح دور رئيسي للرودوبسين في التكيف مع الظروف الباردة من خلال بحثهم السابق. «لقد وجدنا سابقًا أن هذا النوع من التكيف للرودوبسين موجود لدى سلوريات المرتفعات من جبال الأنديز، وقد دفعنا هذا إلى التحقيق في تكيف الرودوبسين مع البرودة لدى الأسماك الجليدية القطبية».
لاحظ المؤلفون بالفعل أدلة على انتقاء إيجابي ومعدلات تطور متسارعة للرودوبسين بين الأسماك الجليدية القطبية الجنوبية. بعد التدقيق في المواقع المحددة كمواقع مؤهلة للانتقاء الإيجابي، وجد كاستليوني والمؤلفون المشاركون نوعين من الأحماض الأمينية المتغيرة التي تغيب لدى الفقاريات الأخرى.
من المعتقد أن هذه التغييرات قد حدثت خلال فترتين رئيسيتين في تاريخ الأسماك الجليدية في القطب الجنوبي: تطور البروتينات السكرية المضادة للتجمد وبداية الظروف القطبية التجمدية. يشير هذا التوقيت إلى أن هذه المتغيرات كانت مرتبطة بتكيف الأسماك الجليدية والانتواع كاستجابة للأحداث المناخية.
لتأكيد التأثيرات الوظيفية لهذين المتغيرين، أجرى الباحثون فحوصات في المختبر حيث قاموا بإنشاء نسخ من رودوبسين حاوي على كلا المتغيرين. أثر الحمضان الأمينيان المتغيران على حركية الرودوبسين، ما أدى إلى خفض طاقة التنشيط المطلوبة للعودة إلى الشكل «الداكن» ليعاوض بذلك عن الانخفاض المحرض بالبرودة في معدل حركية رودوبسين. بالإضافة إلى ذلك، أدى أحد تغيرات الأحماض الأمينية إلى تحول في نسبة امتصاص رودوبسين للضوء نحو أطوال موجية أطول. شكل هذا التغيير الوظيفي المزدوج مفاجأة لكاستليوني وزملائه لدى تأليف الكتاب.
«لقد فوجئنا برؤية أن رودوبسين الأسماك الجليدية قد طور طفرات يمكنها تغيير حركيته وامتصاصه بشكل متزامن. ونتوقع أن يسمح هذا للأسماك الجليدية بتكييف رؤيتها مع الأطوال الموجية القريبة من طيف الأحمر تحت الجليد البحري ودرجات الحرارة الباردة عبر عدد قليل جدًا من الطفرات».
ومن المثير للاهتمام أن تغيرات الأحماض الأمينية التي لوحظت في الأسماك الجليدية في القطب الجنوبي كانت متميزة عن تلك التي في سلوريات المرتفعات التي درسها الفريق سابقًا، ما يشير إلى مسارات متعددة للتكيف في هذا البروتين. لمواصلة هذا الخط من الدراسة، يأمل كاستليوني وزملاؤه في التحقيق في التكيف مع البرودة في رودوبسين من سلالات الأسماك الأخرى التي تعيش على البارد، بما في ذلك أسماك القطب الشمالي.
«تشترك أسماك القطب الشمالي في العديد من الأنماط الظاهرية المتكيفة مع البرودة الموجودة في أسماك القطب الجنوبي الجليدية، كالبروتينات المضادة للتجمد. ومع ذلك، يبدو أن هذا التطور التقاربي قد تحقق من خلال آليات جزيئية متباينة. ونعتقد أن الرودوبسين قد اختبر ذلك أيضًا».
لسوء الحظ، قد يصعب الحصول على البيانات اللازمة لإجراء مثل هذا التحليل. يقول كاستليوني: «تتمثل العقبة الرئيسية أمام بحثنا في صعوبة جمع الأسماك من مياه القطب الجنوبي والقطب الشمالي، فنتقصر بذلك على مجموعات البيانات المتاحة للعامة».
قد تصبح هذه المهمة أكثر صعوبة في المستقبل لأن هذه الأسماك المتكيفة مع البرودة تتأثر بشكل متزايد بارتفاع درجات الحرارة العالمية. يضيف كاستليوني أيضًا «قد يغير تغير المناخ المشهد التكيفي للأسماك الجليدية في المستقبل القريب جدًا، حيث يستمر الجليد البحري في الذوبان، الأمر الذي سيضع الأسماك الجليدية على الأرجح في حالة (عدم توافق) تطوري بين بيئتها وجيناتها».
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: phys.org