تسليط الضوء على تطور نمل طفيلي اجتماعي

تسليط الضوء على تطور نمل طفيلي اجتماعي

يُعرف النمل بكونه مجد بعمله، حيث يؤدي مهامه بلا كلل أو ملل – من البحث عن الطعام إلى رعاية اليرقات، وحفر الأنفاق، وترتيب العش. لكن في الحقيقة، ثمة بعض النملات المتكاسلات للغاية. تسمى هذه الأنواع النادرة بالطفيليات الاجتماعية غير العاملة، وتوجد فقط كملكات، وتموت دون وجود عاملات ترعاها. وللبقاء على قيد الحياة، تتسلل النملات الطفيليلة لمستعمرة نمل ذات درجة قرابة عالية، حيث تعيش وذريتها حياة ترفيهية في المستعمرة طالما أنها تحافظ على أعدادها منخفضة نسبيًا.

ساد الاعتقاد منذ فترة طويلة أن هذه الحشرات الكسولة قد طورت على الأرجح سماتها الملكية سمة تلو الأخرى من خلال سلسلة من الطفرات في بيئة منعزلة. وصاغ العلماء في مختبر التطور الاجتماعي والسلوك في جامعة روكفلر بالتعاون مع جامعة هارفارد نظرية جديدة، إذ أفادوا في Current Biology أنهم اكتشفوا نملات متحورات تشبه الملكات – وهي نملات طفيليات ظهرت تلقائيًا في مستعمرات النمل المهاجِم النسيلي التي عادة ما تكون بلا ملكة.

يقول وارينج ترابل المؤلف الرئيسي للدراسة «هذه المتحورات تمهد لأنواع طفيلية أخرى». ويضيف «إنها طريقة جديدة لفهم كيف يتطور النمل ليصبح طفيليًا اجتماعيًا».

يمكن للخوض في جينات هذا النمل الفريد أن يمثل وسيلة لفهم الآليات الجزيئية وراء التفريق بين المجموعات بشكل أفضل، أو كيف تتطور النملة إلى عاملة أو ملكة. يمكن أن يساعد أيضًا في إلقاء الضوء على التطور البيولوجي في الكائنات الحية بشكل عام.

بادٍ على الملأ

من بين أكثر من 15000 نوع محدد من النمل، ثمة مئات الأنواع من الطفيليات الاجتماعية. تولد النملة الطفيلية داخل مستعمرة مضيفة ثم تغادرها وتستخدم فرمونًا جنسيًا لجذب ذكر من مستعمرة أخرى للتزاوج معها، وبمجرد الحمل، تتسلل إلى المستعمرة الأصلية أو مستعمرة أخرى قريبة منها.

غالبًا ما يستخدم هذا النوع من النمل الخداع للتحايل على حراس المستعمرة. على سبيل المثال، تختطف نملة الشامبو بعض النمل خارج مدخل العش، وتلعقهم لتستحصل على الرائحة الكيميائية المميزة للمستعمرة، ثم تلعق نفسها في كل مكان لنقل الرائحة إلى جسدها. ويمكنها بعد ذلك أن تتسلل إلى الداخل مقنعةً كيميائيًا لتعيش حياتها وتنجب ملكات جديدات وذكورًا يتزاوجون خارج المستعمرة. يموت الذكور بعدئذ، وتبدأ الملكات دورة الحياة من جديد.

نظرًا لخصائصها الفريدة، فقد دُرست على نطاق واسع من قبل علماء الأحياء منذ عهد تشارلز داروين، ولا تزال هناك إشكالية في النظرية السائدة لتطورها، وفقًا لدانيال كروناور، رئيس المختبر والأستاذ المساعد الذي يشغل كرسي ستانلي إس وسيدني آر شومان في جامعة روكفلر.

ترتبط هذه النملات ارتباطًا وثيقًا بالمضيف، لكنها احتاجت أن تنعزل أثناء تكاثرها لاكتساب هذه السمات الطفيلية بمرور الوقت، وإلا فإن التزاوج مع مضيفها سيلغي سماتها الفريدة. لكن لم يُعثر على نمل وسيط تطوريًا في البرية – نمل يتمتع ببعض السمات الطفيليات الاجتماعية دونًا عن غيرها –  وفقًا لكروناور.

عندما ظهر النمل الشبيه بالملكة فجأة بين النمل المهاجم النسيلي في مختبر كروناور عام 2015، لاحظها تريبيل الذي كان يتطلع إلى التحقيق في الآليات الجينية وراء التفريق بين المجموعات الطبقية. نظرًا لأن النمل المهاجم النسيلي يفتقر لوجود الملكة عادة ويتكاثر لاجنسيًا، فقد برزت الطفرات الشبيهة بسمات الملكة: إذ ولدت بأجنحة وعيون أكبر ومبيضين أكبر، وأبدت النملات البالغة عدم اكتراث عام تجاه المخاض.

لكن اتضح أن هذا النوع ليس بجديد – فقد كان يختبئ لسنوات في مستعمرات كثيفة محجوبًا بالأعداد الكبيرة. كشف التحليل الجيني أنها قد تحورت داخل المستعمرة التي اكتُشفت فيها لأول مرة، وهي مجموعة من النمل الطبيعي الذي جمعه كروناور في أوكيناوا، اليابان، في عام 2008، والذي لا يزال يعيش في المختبر. لقد كان دليلًا على ضرورة إعادة النظر بالسيناريو النموذجي لغزو النمل الطفيلي.

ثم أجرى الباحثون سلسلة من التجارب والتحليلات الجينية. تضمنت إحدى التجارب الأولى عزل النمل لمعرفة قابلية توريث النمط الظاهري. ونظرًا لأن النمل المهاجم النسيلي يتكاثر لاجنسيًا، فلم يكن هناك قلق حول تزاوجه مع النمل الآخر.

تضع النملات المتحورات الشبيهة بالملكات بيوضًا تفقس نسخ من نفسها. يقول كروناور «علمنا أننا اكتشفنا شيئًا رائعًا». اختبر العلماء أيضًا سلوك النمل. تألفت مجموعات البحث عن الطعام بالكامل من متحورات شبيهة بالملكة حجمها يعادل نصف حجم النمل العامل، وكانت التحاقها بالنمل المجند لتعقب الطعام أقل احتمالًا. كانت هذه السلوكيات وسيطًا بين اجتهاد النمل العامل واتكالية الملكات، وسمحت للنمل المتحور بتجنب المخاطر الملازمة لمغادرة سلامة المستعمرة.

رغم أن النمل المتحور يضع ضعف عدد البيوض الذي يضعه النمل المضيف، فإنه ينظم أعداده ذاتيًا. طالما أن أعدادهم أقل من 25٪ من تعداد النمل المضيف فهم ضمن الحدود السليمة، ويواجهون المتاعب لو تخطى تعدادهم تلك النسبة. تحتاج الملكات إلى مساعدة النمل العامل لتحرير أجنحتها عند خروجها من الشرانق، وإذا كان هناك عدد كبير جدًا من الملكات التي تحتاج العناية، فسوف تموت مخنوقة في جلد مرحلة العذراء.

يقول تريبيل، العضو السابق في مختبر كروناور الذي يدير الآن مختبر خاص في جامعة هارفارد ويدرس هذه المتحورات وغيرها «يبدو أن لديها القدرة على تنظيم تكاثرها دون أن تدفع المستعمرة المضيف نحو الانقراض، وهو سلوك ذكي للغاية من قبل أي كائن لطفيلي». ويضيف «يوفر هذ السلوك للمتحورات القدرة على البقاء على قيد الحياة لفترات طويلة من الزمن».

تأثير الهرمونات

كشف تسلسل الجينوم الكامل أن الملكات الطفيلية لديها طفرة في الكروموسوم 13 الذي يشبه هيكليًا الكروموسومات التي تنظم البنية الاجتماعية للمستعمرة في النمل الآخر. يبدو أن هذا الكروموسوم الطافر يحتوي على «جين فائق»، وهو مجموعة من الجينات التي تعمل معًا لتكوين نمط ظاهري. في هذه الحالة، يحتوي الجين الفائق على أكثر من 200 جين فردي يشترك عدد غير متكافئ منها في عملية الاستقلاب الغذائي للهرمونات.

وتشمل هذه الجينات التي ترمز إنزيمات السيتوكروم p450 اللازمة لتصنيع الهرمونات لدى النمل والبشر، وقد تلعب دورًا في تكوين هذه الطفرات غير العادية للغاية. (قد تكون عائلة الإنزيم هذه مألوفة لأي شخص تم تحذيره من شرب عصير الليمون الفردوسي أثناء تناول بعض الأدوية لأن العصير يثبط عمل هذه الإنزيمات بنزع سمية الأدوية).

يقول كروناور «يبدو أنه مع هذه الطفرة الفردية، يمكن أن يتغير كل شيء من شكل النمل، لمعدل إنتاج بويضات أعلى، وصولًا إلى تغييرات في السلوك».

وإن صح ذلك، وفقًا لتريبيل، «فيمكن في الواقع التحول من نملة عادية إلى نملة طفيلية ضمن النوع الواحد».

تعتبر هذه الفكرة -أن شكلين متغايرين يمكن أن ينشأا ضمن نوع واحد- من الألغاز المحيرة ضمن مجموعات النمل الطبقية. نظرًا لأن الطفيليات الاجتماعية غير العاملة تنشأ من نوع محدد جدًا من طفرات تؤثر على تطور طبقات النمل، فإن دراسة النمل المتحور الشبيهة بالملكة يمكن أن تعزز فهم الآليات الجزيئية غير المعروفة والتي تسمح ليرقات النمل بتطوير أشكال طبقية متفردة. يقول كروناور «تقدم الدراسة إطارًا شاملاً لدراسة تطور النمل».

الحجم مهم

يقول تريبيل «يمكن أن تؤدي النتائج أيضًا إلى مزيد من البحث حول عملية نمو مهمة تُعرف باسم قياس التنامي الموجود في جميع الحيوانات، بما في ذلك البشر». تحافظ عملية قياس التنامي على أنسجة الكائن الحي بما يتناسب مع حجم جسمه أثناء نموه.

إن آلياتها غير معروفة، لكن من المحتمل أن يكون لفهمها صلة بالعديد من جوانب البيولوجيا البشرية، بما في ذلك الأمراض، وفقًا لتريبيل. ربما يمكن للنمل المتحور الشبيه بالملكة أن يوفر وسيلة جديدة للبحث. ويضيف «نفتقر للأمثلة الجيدة للطفرات في ذباب الفاكهة أو الفئران أو الاضطرابات الوراثية البشرية التي تكسر قياس التنامي بطريقة دراماتيكية».

«نعتقد أن النمل المتحور الشبيه بالملكة سيكون أداة قوية لفهم تطور الطبقات الاجتماعية للنمل، ويعد تطور الطبقات بدوره نموذجًا مثاليًا للتحقيق في هذه الأسئلة الأكبر حول كيفية عمل قياس التنامي».

ترجمة: حاتم زيداني

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *