كيف ينبثق سلوك الحيوان من شبكات الخلايا العصبية؟ وكيف تتولد هذه الأنظمة والسلوكيات العصبية المذهلة عن طريق التطور؟ هل هناك مبادئ مشتركة بين جميع الأجهزة العصبية أم أن التطور يبتكر أشكالًا جديدة باستمرار؟ كيف كان شكل الجهاز العصبي الأول الذي أدى إلى ظهور التنوع المذهل في الحياة الذي نراه من حولنا؟
من خلال الجمع بين دراسة سلوك الحيوان ودراسات شكل الجهاز العصبي ووظيفته وتطوره، يستخدم براندون «برادي» فايسبورد، عضو هيئة التدريس الجديد في قسم علم الأحياء والباحث في معهد بيكوير للتعلم والذاكرة، الذي يعمل على نموذج جديد لعلم الأعصاب عبر دراسة قنديل البحر كليتيا هيميسفيريا الصغير والشفاف «Clytia hemisphaerica».
في عام 2021، عملت على نموذج كائن حي جديد لأبحاث علم الأعصاب، وهو قنديل البحر كليتيا هيميسفيريا الصغير والشفاف. كيف تجيب قناديل البحر هذه على أسئلة حول علم الأعصاب والجهاز العصبي والتطور بطرق لا تستطيع النماذج الأخرى القيام بها؟
أولًا، أؤمن بأهمية فهم العالم الطبيعي على نطاق أوسع وتنويع الكائنات الحية التي ندرسها بعمق. أحد الطرق لإنجاز ذلك هو العثور على كائنات قابلة للتتبع تجريبيًا لتحديد المبادئ البيولوجية القابلة للتعميم، فمثلًا، لقد درسنا أساس كيفية «إطلاق» الخلايا العصبية لكمونات عملها من خلال دراسات المحاور العملاقة للحبار. إننا نعتبر قناديل البحر هذه متممًا قيمًا للنماذج الحالية.
لطالما كنت مهتمًا بتقاطع نوعين من التساؤلات: كيف يولد الجهاز العصبي سلوكنا، وكيف تشكلت هذه الأنظمة المذهلة بالفعل عن طريق التطور.
من ناحية الأنظمة العصبية، منذ بدأت أعمل على نظام السيروتونين أثناء الدكتوراه كنت مفتونًا بمشكلة كيفية تحكم الحيوانات في جميع سلوكياتها في وقت واحد بطريقة مرنة وتعتمد على السياق الذي تمر به، وكيف تعتمد الخيارات السلوكية ليس فقط على المنبهات الواردة ولكن على كيفية تفاعل هذه المحفزات مع المواقف المتغيرة باستمرار. هذه السلوكيات معقدة وصعبة للغاية، وخاصة إذا أردنا دراسة التفاعلات التي تتغير بتغير السياق، من الإشارات الكيميائية وبيولوجيا الخلية الديناميكية إلى الشبكات والسلوك العصبي.
للإجابة على هذه الأسئلة، أردت الانتقال إلى كائن نموذجي يتمتع بإمكانية تتبع تجريبية استثنائية.
حدثت اكتشافات مثيرة في تقنيات التصوير يمكن استخدامها لخدمة أبحاث علم الأعصاب، بما في ذلك هذه الطرق المذهلة التي يمكننا من خلالها مشاهدة نشاط الخلايا العصبية في حيوان حي والتعامل معه. لذا، فإن أول شيء أردته كان كائنًا صغيرًا وشفافًا يسمح بهذا النوع من المقاربة البصرية. يبلغ قطر قنديل البحر بضعة ملليمترات وهي شفافة تمامًا، ولها سلوكيات مثيرة للاهتمام ولكن أجهزة عصبية متماسكة نسبيًا. لديهم الآلاف من الخلايا العصبية، بينما نمتلك نحن المليارات، مما يضعهم أيضًا في تعقيد متوسط لطيف مقارنة بالنماذج الشفافة الأخرى المستخدمة على نطاق واسع. فمثلًا، يحتوي حيوان الربداء الرشيقة C. elegans على 302 خلية عصبية بينما تحتوي يرقات الزرد على حوالي 100 ألف خلية في الدماغ وحده. ستسمح لنا هذه الميزات بإلقاء نظرة على نشاط الجهاز العصبي بأكمله في سلوك الحيوانات لمحاولة فهم كيف يؤدي هذا النشاط إلى ظهور السلوكيات وكيف ينشأ هذا النشاط نفسه من شبكات الخلايا العصبية.
بالنسبة لجانب التطور في عملنا: نحن مهتمون بأصول الجهاز العصبي، وكيف بدت الأنظمة العصبية الأولى، وعلى نطاق واسع ما هي الخيارات لكيفية تنظيم وعمل الجهاز العصبي: إلى أي مدى توجد أساسيات، بالمقارنة مع السمات الجديدة المثيرة للاهتمام والمفيدة، وهل يوجد أساسيات، سواء كانت مثالية أو مقيدة بطريقة ما بالتطور. كان سلفنا المشترك الأخير مع قناديل البحر وأقاربهم (الكائنات المجوفة) شيئًا مشابهًا للجهاز العصبي الأول، لذلك من خلال مقارنة ما نجده في الكائنات المجوفة مع النماذج أخرى، يمكننا تقديم استنتاجات حول الأصول والتطور المبكر للجهاز العصبي. بينما نستكشف هذه الحيوانات شديدة التباين، نجد أيضًا ابتكارات تطورية مثيرة: على وجه التحديد، لديها قدرات مذهلة لتجديد أنظمتها العصبية. في المستقبل، سيكون من المثير أن نفهم بشكل أفضل كيفية تنظيم هذه الشبكات العصبية.
ما العمل المطلوب لتطوير كائن حي جديد كنموذج، ولماذا اخترت هذا النوع المعين من قناديل البحر؟
إذا أردت اختيار نموذج حيواني جديد، فإن الأمر لا يتعلق فقط بما إذا كان يحتوي على الميزات الصحيحة للأسئلة التي تريد طرحها، ولكن أيضًا ما إذا كان يتيح لك تقنيًا إجراء التجارب الصحيحة. طُوّر النموذج الذي نستخدمه لأول مرة من قبل مجموعة بحثية في فرنسا، أمضت سنوات عديدة في القيام بالعمل الشاق لمعرفة كيفية استنبات دورة الحياة بأكملها في المختبر، وحقن البيض، وتطوير موارد رئيسية أخرى. بالنسبة لي، كان السؤال الكبير هو ما إذا كنا سنكون قادرين على استخدام الأدوات الجينية التي كنت أصفها سابقًا لدراسة النشاط العصبي. من خلال العمل عن كثب مع المتعاونين في فرنسا، كانت خطوتنا الأولى هي معرفة كيفية إدخال تغييرات في جينوم قنديل البحر. إذا لم نتمكن من معرفة ذلك، فسأعود إلى العمل مع الفئران. استغرق الأمر منا حوالي عامين من استكشاف الأخطاء وإصلاحها، ولكن يمكننا الآن بشكل روتيني إنتاج قناديل البحر المعدلة وراثيًا في المختبر.
يعد التحول إلى نموذج حيواني جديد أمرًا صعبًا، لدي خلفية في علم الأعصاب لدى الفئران، وانضممت إلى مختبر ما بعد الدكتوراه الذي استخدم الفئران والذباب. كنت الشخص الوحيد الذي يعمل مع قنديل البحر، لكن لم يكن لدي أي خبرة سابقة فيه. أحد أهدافي الآن هو تحسين وتبسيط هذه العملية برمتها، في حال أرادت مختبرات أخرى بدء العمل مع قنديل البحر، ستمتلك بذلك منصة لتربية الأحياء المائية البسيطة لبدء هذه العملية، حتى لو لم تكن لديهم خبرة.
بالإضافة إلى حقيقة أن هذه الحيوانات صغيرة وشفافة، السبب الرئيسي لاختيارنا هذا النوع بالذات هو أنه يحتوي على دورة حياة مذهلة تجعله حيوان مختبر هام.
تتمتع هذه الحيوانات بجنسَين منفصلين يتكاثران يوميًا مع تطور البيض المخصب إلى يرقات ثم تتحول إلى سلائل. نزرع هذه السلائل على شرائح مجهرية، وتشكل مستعمرات يعتقد أنها خالدة. تنتج هذه المستعمرات بعد ذلك قناديل البحر باستمرار، والتي تعد جميعها «مستنسخات» متطابقة وراثيًا يمكن
استخدامها في التجارب. هذا يعني أنه بمجرد إنشاء سلالة معدلة وراثيًا، يمكنك الاحتفاظ بها إلى الأبد كمستعمرة سليلة، وبما أن الحيوانات صغيرة جدًا، يمكننا زراعتها بأعداد كبيرة في المختبر.
لا يزال أمامنا قدر كبير من العمل التأسيسي الذي يتعين القيام به، مثل وصف ذخيرتهم السلوكية وتنظيم الجهاز العصبي. إنه لأمر مروع قلة ما نعرفه عن أساسيات بيولوجيا قناديل البحر، خاصة أنها تقتل عددًا أكبر من الأشخاص سنويًا أكثر من أسماك القرش وأسماك الراي اللساع مجتمعين، وكلما بحثنا في الأمر، زادت الأسئلة الموجودة.
ما الذي جذبك إلى منصب عضو هيئة تدريس في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا؟
أردت أن أكون في قسم يقوم بالبحوث الأساسية، متحمسًا للعلوم الأساسية، ومنفتح الذهن، ومتنوع للغاية فيما يعمل الناس فيه ويفكرون فيه. هدفي أيضًا هو أن أكون قادرًا في نهاية المطاف على ربط الآليات على المستوى الجزيئي والخلوي بالسلوك العضوي، وهو أمر يتميز به المعهد في قسم علم الأحياء بشكل خاص. لقد كانت الأشهر القليلة الأولى مثيرة! يعد معهد ماساتشوستس مكانًا رائعًا للقيام بالعلوم، وكان من الرائع مدى حماسة ودعم كل فرد في القسم.
لقد انجذبت أيضًا إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا من قبل المجتمع الأوسع ووجدت بالفعل أنه من السهل جدًا بدء التعاون مع الأشخاص في علم الأعصاب والهندسة والرياضيات. يسعدني أيضًا أن أصبح مؤخرًا عضوًا في معهد بيكوير Picower للتعلم والذاكرة، مما يتيح المزيد من هذا التعاون بطريقة أعتقد أنها ستكون مهمة للعمل في مختبري.
إنه معمل جديد. إنه كائن حي جديد. لا يوجد مجال ضخم وراسخ يستخدم هذه الأساليب. هناك الكثير مما لا نعرفه، وهناك الكثير الذي يتعين علينا تأسيسه من الصفر. هدفي هو أن يتمتع مختبري بشعور من المغامرة والمتعة، وأنا متحمس حقًا للقيام بذلك هنا.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org