تطوّر الحيتانيات : تطور الحيتان من أسلاف برية

نقدم لكم مقالة تعالج التاريخ التطوّري للحيتان و تعتمد على الأدلة من تسعة مجالات علمية و هي أدلة الحفريات و أدلة علم التشكّل المورفولوجي و أدلة البيولوجية الجزيئية و أدلة الأعضاء الأثريّة و أدلة علم الجنين و أدلة الجيوكيمياء و أدلة التوزّع الجغرافي للمستحاثات و أدلة علم قياس الزمن.

لسنواتٍ عديدة ظلَّ السجل الأحفوري للحيتان مليئاً بالفراغات و غير مكتملٍ، لكن الآن هناك العديد من الأنماط الإنتقالية التي توضح و تبين مسار تطور الحيتان. الإكتشافات الحديثة لمستحاثات عائدة لحيتان تقدم الدليل الذي سيقنع أي متشكك موضوعي و عقلاني بتطور الحيتان.
إن البيولوجيا التطورية تتنبأ بأكثر من وجود مستحاثات لأسلاف الحيتان مع بعض الصفات المميزة فقط – فهي تتنبأ بأن كل التخصصات البيولوجية الأخرى ستُظهر أمثلة على التشابه بين الحيتان وأسلافها و الثدييات الأخرى بحسب القرابة التطورية بين هذه المجموعات ولذلك فليس مُفاجئاً أن هذه الأمثلة على التشابه هي ما سنجده حقاً، وبما أن الإكتشافات في حقل بيولوجي واحد لنقل مثلاً الكيمياء الحيوية يتم التوصل لها دون أي صلة بإكتشافات أخرى من حقل أخر (و ليكن علم التشريح المقارن) فإن العلماء يعتبرون أن هذه الأمثلة من المجالات العلمية المختلفة تقدم دليلاً مستقلاً على تطور الحيتان ، و كما هو متوقعٌ فإن هذه الخطوط المختلفة من الأدلة كلها تؤكد على تطور الحيتان بالطريقة التي سنتوقعها من السجل الأحفوري.

لتوضيح ذلك، سأقوم بعرض الأدلة من مجالات وحقول علميّة مختلفة على أنّ أصلَ الحيتان يعود إلى ثدييات بريّة. في هذه الورقة البحثية سيتم معاينة الأدلة الداعمة لتطور الحيتان من تسعة مجالات مستقلة من البحث العلمي وبالطبع كبداية سيكون علينا توضيح و شرح ما الذي يجعل الحوت حوتاً.

ما هو الحوت؟

الحوت قبل كل شيء هو حيوانٌ ثديي فقاري من ذوات الدم الحار و الذي يستخدم مستوى الإستقلاب المرتفع لديه لتوليد حرارةٍ و تنظيم درجة حرارته الداخلية.
تلد إناث الحيتان صغاراً وترضعهم من الغدد الثديية التي لديها ، رغم أنّ الحيتان البالغة لا يكسو جسدها شعرٌ لكنّ شعراً مؤقتاً يظهر على جسدها في الطور الجنيني وبعض الحيتان البالغة تملك شعيرات حسية حول أفواهها. هذه الخصائص هي بلا شك خصائص ثديية.

شكل 1: عائلة الحيتانيات* الحيتان هي رتبة الحيتان Cetacea في صف الثدييات Mammals، وتضم كل الحيتان. والحوت الأزرق هو أكبر الحيوانات الثديية ذوات الدم الحار، تعيش في البحار والمحيطات وتلد فيها, وتعد الحيتان من أكبر المخلوقات على الأرض. الحيتان الحالية تنقسم عموما إلى صنفين رئيسيين الحيتان المسننة (ذات الأسنان) Odontoceti والحيتان البلّينية Mysticetii.

لكن الحوت هو حيوان ثدي مُتخصصٌ جداً بصفاته الفريدة التي لا يتشاركها مع بقية الثدييات حتى أن العديد من هذه الصفات لا يتشاركها مع الثدييات البحرية مثل الخيلانيات كـ(خروف البحر، الأطوم) وزعنفيات الأقدام كـ (الفقمة، أسد البحر، الفظ). على سبيل المثال، تمتلك الحيتان أجساماً إنسيابية سميكة و مدورة على عكس غالبية أجسام الأسماك الرفيعة والممدودة. يحتوي ذيل الحوت على فصين أفقيين (Flukes بالإنكليزية) يعتبران الوسيلة الوحيدة للحوت للتقدم و الإندفاع في الماء. الزعنفة الظهريه مثبتة بوساطة أنسجة ضامة لكنها لحمية و تفتقد العظام الداعمة بالكامل.
الفقرات العنقية عند الحوت قَصُرَ طولُها و أصبحت مندمجة جزئياً في كتلة عظمية واحدة. الفقرات خلف العنق عديدة و تشبه بعضها كثيراً، وتقلصت بشكل كبير النتوءات الفقرية التي تربط بين الفقرات سامحةً بذلك للظهر أن يكون مرناً و قادراً على القيام بضربات قوية بوساطة الذيل.

شكل 2: الهيكل العظمي للحوت الأحدب

 

الزعانف التي تسمح بتوجيه الحوت تتألف من عظام الذراع القصيرة والمسطحة ومن عظام المعصم المسطحة والشبيهة بالقرص وأصابع طويلة عديدة. مفصل الكوع ثابتٌ لا يتحرك فعلياً جاعلاً الزعنفة صلبة غير مرنة الحركة في الزنار الكتفي، عظمة الكتف مسطحة و الترقوة لا وجود لها. بعض الأنواع من الحيتان ما تزال تملك حوضاً أثرياً (غير وظيفي) و بعضها يملك أطرافاً خلفية متقلصة بشكل هائل وعديمة الوظيفة.
القفص الصدري غير ثابت (في بعض الأنواع الأضلاع منفصلة بشكل كامل عن العمود الفقري) مما يسمح للصدر أن يتمدد عندما يتنفس الحوت كما يسمح للقفص الصدري بأن ينضغط عند غوص الحوت في الأعماق.

 

الجمجمة لديها أيضاً مجموعة من الخصائص والصفات المميزة عن باقي الثدييات. الفك يمتد نحو الأمام معطياً الحيتان رأسها الطويل على نحو مميز و العظمتان الأماميتان من الفك العلوي (maxillary وpremaxillary) تمتدان من الأمام نحو الخلف مغطيتان أحياناً أعلى الجمجمة بشكل كامل. إن هجرة هذه العظام نحو الخلف هي التي سببت انتقال الفتحات الأنفية إلى أعلى الجمجمة مشكلةً فتحات النفث لدى الحيتان و مسببةً أيضاً انتقال الدماغ والجهاز السمعي إلى مؤخرة الجمجمة. الـodontocetes (الحيتان ذوات الأسنان) لديها فتحة نفث وحيدة، في حين أن الـmysticetes (الحيتان البالينية) تملك زوجاً من هذه الفتحات.

شكل 3: الـodontocetes (الحيتان ذوات الأسنان) لديها فتحة نفث وحيدة (على اليمين) ، في حين أن الـmysticetes (الحيتان البالينية) تملك زوجاً من هذه الفتحات (على اليسار).

 

في الحيتان ذوات الأسنان هناك عدم تماثل (عدم تناظر) واضح في عظمتي الفك (maxillary وpremaxillary) والفتحة النفثية وهذا يقدم طريقة طبيعية لتصنيف هذه الحيتان وعلى الرغم أن الأسنان تظهر في أجنة الحيتان البالينية لكن فقط الحيتان ذوات الأسنان تمتلك أسنان في مرحلة البلوغ. تتخذ هذه الأسنان أشكالاً مخروطية أو وتدية و هي لا تختلف باختلاف المنطقة أو الوظيفة كما هو حال الأسنان عند باقي الثدييات (لا تستطيع الحيتان مضغ طعامها بل يتم طحنه في معدة أمامية عضلية تحوي حجارةً.)
بعكس باقي الثدييات لا تمتلك الحيتان غدد دمعية ولا غدد جلدية ولا تمتلك حساً شمياً. سمع الحيتان حادٌ لكن الأذن لا تمتلك أيّة فتحة خارجية. يحدث السمع عن طريق الإهتزازات المنتقلة إلى عظمة ثقيلة صدفية الشكل مؤلفة من اندماج بعض عظام الجمجمة (التجويفات الأذنية و التجويفات حول الأذن).

هذه إذن أهم مزايا و خصائص الحيتان. بعضُ هذه المزايا تُظهر تكيفاتٍ مميزة فرضتها على الحيتان ضرورات التأقلم مع الحياة البحرية وبعضها الأخر يظهر رابطاً قوياً و واضحاً بين الحيتان وأسلافها البريّة كما أن بعض الخصائص تعود لسلفٍ بريٍّ مشتركٍ مع العديد من الأنواع القديمة والحديثة الأخرى.

من خلال هذه الصفات و الخصائص يمكننا إعادة بناء و تصوّر المنحى الذي اتخذه تطور الحيتان من سلفٍ بريٍّ إلى الحوت الحديث حبيس أعماق المحيطات.
مُعمِلاً فكره في أصل الحيتان دوَّن John Ray” عام 1693 ملاحظته أنّ الحيتان حيوانات ثديية معتمداً في ذلك على التشابه بين الحيتان و الثدييات البريّة. كانت النقاشات العلمية حول أصل الحيتان في فترة ما قبل النظرية الداروينية تدور حول فيما إذا كانت الحيتان من أصلٍ بريٍّ أو هي أصل الثدييات البريّة. اقترح داروين عام 1859 أن الحيتان تطورت من الدببة مقدماً فرضية عن إمكانية أن تكون الضغوط الاصطفائية ساهمت في تطور الدببة إلى حيتان واضطر داروين تحت وطأة السخرية التي تعرض لها لسحب فرضية الدببة السابحة هذه من النسخ اللاحقة من كتابه “أصل الأنواع”.

شكل 4: تطوّر الحيتانيات

بعد ذلك، وجد “فلاور” عام 1883 أن الحيتان تمتلك صفات أولية وأثرية غير وظيفية تتميز بها الثدييات البرّية وهذا ما أكدَّ أن إتجاه تطور السلف كان من نوع بريّ إلى نوع بحري و على أسس علم التّشكل (المورفولوجيا) ربط “فلاور” بين الحيتان وذوات الحوافر ويبدو أنّه أول من قال بهذا الرأي.

في بدايات القرن العشرين اقترح كل من “ايبرهارد فراس” و “تشارلز اندروز” أن السريدونتات (وهي مفترسات من آكلة اللحم البدائية و منقرضة حالياً) هي أسلاف الحيتان. في وقتٍ لاحق، افترض “ويليام ديلر ماثيو” من متحف التاريخ الطبيعي الأميركي أن الحيتان أصلها حيوانات ملتهمة الحشرات (الـinsectivores) لكن هذه الفكرة لم تلقَ تأييداً كبيراً. بعد ذلك بوقت قليل، حاول “ايفرهارد يوهانس سليبر” أن يمزج بين الفكرتين فافترض أن الحيتان هي سليلة ما دعاه “بارنس” بالـ”creodonts-cum-insectivores” (حيوان مفترض يجمع بين صفات الحيوانات المفترسة والحيوانات آكلة الحشرات) على أية حال، لم يُكتشف هكذا حيوان حتى الآن.
ربط “فان فالن” عام 1966 و “سزالاي” عام 1969 بين الحيتان الأولى و الـ”mesonychid condylarths” (و هي آكلات لحوم بدائية من ذوات الحوافر منقرضة حالياً وحجمها تقريباً بحجم الذئب) اعتماداً على صفات الأسنان. الأدلة الحديثة تؤكد صواب تخمينهم وعليه كان “فلاور” على حق بربطه بين الحيتان وذوات الحوافر.


أقرأ ايضًا: 

الأدلة العلميّة التي تثبت تطوّر الحوت من اسلاف بريّة


References Barnes LG. Search for the first whale. Oceans 1984 March-April; 17 (2): 20-3.

Darwin CR. On the Origin of Species. New York: Random House, 1859.

Flower WH. On the arrangement of the orders and families of existing Mammalia. Proceedings of the Zoological Society of London 1883 Aug; 1: 178-86.

Gatesy J, Hayashi C, Cronin MA, Arctander P. Evidence from milk casein genes that cetaceans are close relatives of hippopotamid artiodactyls. Molecular Biology and Evolution1996; 13 (7): 954-63.

Gingerich P. The whales of Tethys. Natural History 1994 April; 103 (4): 86-8.

Gingerich P, Raza SM, Arif M, Anwar M, Zhou X. New whale from the Eocene of Pakistan and the origin of cetacean swimming. Nature 1994; 368: 844-7.

Gingerich P, Smith BH, Simons EL. Hind limbs of Eocene Basilosaurus: evidence of feet in whales. Science 1990; 249: 154-7.

Gingerich P, Wells NA, Russell DE, Shah SMI. Origin of whales in epicontinental remnant seas: new evidence from the early Eocene of Pakistan, Science 1983; 220: 403-6.

Gish DT. Evolution: The Challenge of the Fossil Record. El Cajon (CA): Creation-Life Publishers, 1985.

Goodman M, Czelusniak J, Beeber J. Phylogeny of primates and other eutherian orders: a cladistic analysis using amino acid and nucleotide sequence data. Cladistics 1985; 1 (2): 171-85.

Gould SJ. Hen’s teeth and horse’s toes. In: Hen’s Teeth and Horse’s Toes. Norton: New York, 1983. p 177-86.

Gould SJ. Hooking leviathan by its past. In: Dinosaur in a Haystack, New York: Harmony Books, 1995. p 359-76.

Graur D, Higgins DG. Molecular evidence for the inclusion of cetaceans within the order Artiodactyla. Molecular Biology and Evolution 1994; 11 (3): 357-64.

Irwin DM, Arnason U. Cytochrome b gene of marine mammals: phylogeny and evolution. Journal of Mammalian Evolution 1994; 2 (1): 37-55.

Irwin DM, Kochner TD, Wilson AC. Evolution of the cytochrome b gene of mammals. Journal of Molecular Evolution 1991; 32: 128-44.

Kellogg R. A Review of the Archaeoceti. Washington DC: Carnegie Institute, 1936.

Matthews LH. The Natural History of the Whale. New York: Columbia University Press, 1978.

Milinkovitch MC. DNA-DNA hybridizations support ungulate ancestry of cetacea. Journal of Evolutionary Biology 1992; 5: 149-60

Milinkovitch MC, Orti G, Meyer A. Revised phylogeny of whales suggested by mitochondrial ribosomal DNA sequences. Nature 1993; 361: 346-8.

Miyamoto MM, Goodman M. Biomolecular systematics of eutherian mammals: phylogenetic patterns and classification. Systematic Zoology 1986; 35 (2):230-40.

Novacek M. Mammalian phylogeny: shaking the tree. Nature 1992; 356: 121-5.

Novacek M. Whales leave the beach. Nature 1994; 368: 807.

Shimamura M, Yasue H, Ohshima K, Abe H, Kato H, Kishiro T, Goto M, Munechika I, Okada N. Molecular evidence from retroposons that whales form a clade within even-toed ungulates. Nature 1997; 388: 666-9.

Szalay FS. Origin and evolution of function of the mesonychid condylarth feeding mechanism. Evolution 1969; 23: 703-20.

Thewissen JGM, Hussain ST. Origin of underwater hearing in whales. Nature 1993; 361: 444-5.

Thewissen JGM, Hussain ST, Arif M. Fossil evidence for the origin of aquatic locomotion in Archaeocete whales. Science 1994; 263: 210-2.

Thewissen JGM, Roe LJ, O’Neill JR, Hussain ST, Sahni A, Bajpal S. Evolution of cetacean osmoregulation. Nature 1996; 381: 379-80.

Van Valen L. Deltatheridia, a new order of mammals. Bulletin of the American Museum of Natural History 1966; 132: 1-126.

Wyss A. Clues to the origin of whales. Nature 1990; 347: 428-9.

Zhou X, Zhai R, Gingerich P, Chen L. Skull of a new Mesonychid (Mammalia, Mesonychia) from the late Paleocene of China. Journal of Vertebrate Paleontology 1995; 15 (2): 387-400.


ترجمة : جون فؤاد ، راوان خاشوق

يمكنك ايضًا قراءة المقال على موقع أنا أصدق العلم: 

تطور الحيتان من أسلاف برية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *