النظام الغذائي النباتي والولع بالبراكين الواقعة تحت المياه ساعدا هذه الأسماك على البقاء لنصف بليون سنة. لكن هل تستطيع أن تستخدم مهاراتها للتكيّف مع تغيّر المناخ؟
الشاطئ في مويزنبيرغ Muizenberg خارج مدينة كيب تاون Cape Town هو مقصد للراغبين في احتراف الركمجة (ركوب الأمواج). لكن حين تصدح صفّارة الإنذار على الشاطئ، يفقد راكبو الأمواج والسبّاحون هدوءهم. فذلك الصفير المتقطع المميّز هو تحذير من أن أسماك القرش ربما تكون قريبة. ويعرف الجميع ما يجب عمله – اخرجوا من المياه بأسرع ما تستطيعون.
ويكفي ذكر لفظ قرش فقط ليدبّ الذعر في عدد كبير منا. لكن أسماك القرش تثير إحساسا بالروعة أيضا. ولا يتعلّق الأمر بمظهرها الأنيق أو شكلها فحسب؛ فصلابتها مثيرة للإعجاب بالقدر نفسه. وكمجموعة، فإن أسماك القرش موجودة منذ 240 مليون سنة على الأقل، مما يعني أنها نجت من أربع حالات من أحداث الانقراض الجماعي الخمسة الكبرى. وهذا يجعلها أقدم من البشر، وأقدم من جبل إيفرست، وأقدم من الديناصورات، وأقدم حتى من الأشجار.
ربما كانت أسماك القرش محظوظة فحسب في يانصيب الحياة. لكن خلال السنوات القليلة الماضية، اكتشف العلماء أن الأسماك تمتلك صفات غير عادية تتيح لها أن تتكيّف تكيفا فائقا في مواجهة التغيّر، بما في ذلك الولع بالتسكع قرب البراكين الواقعة تحت الماء. ويتمثّل السؤال الكبير الآن فيما إذا كانت هذه الصفات ستساعد أسماك القرش على تجاوز الانقراض الجماعي السادس الحالي، الذي أطلقته الأنشطة البشرية. فأسماك القرش تواجه تحدياً جديداً، مميتاً أكثر بكثير من أي تحدٍّ عرفته فيما سبق.
تشكّل أسماك القرش، إلى جانب اللخم Rays وأسماك الورنك Skates والخيميريات Chimaeras، مجموعة من الأسماك تُعرَف باسم الأسماك الغضروفية Chondrichthyes، التي تتميز بهيكل غضروفي Cartilaginous skeleton. وتشير حراشف مُتأحفرة عُثِر عليها في سيبيريا إلى أن أسماك القرش نشأت في العصر السيلوري Silurian period الذي بدأ قبل نحو 440 مليون سنة. وهو زمن كان فيه العالم دافئاً، وكانت مستويات سطح البحار مرتفعة، وبدأت فيه الشعاب المرجانية بالظهور. ومنذ ذلك الحين، عاشت الآلاف من أنواع أسماك القرش، وبلغت أوجها في عصرها الذهبي قبل نحو 360 مليون سنة، حين سادت على المحيطات، واتخذت أشكالاً عجيبة ورائعة كثيرة. وحاليا، هناك أكثر من 450 نوعاً من أسماك القرش، تتراوح بين الأنواع المعروفة جيداً، مثل القرش الأبيض الكبير Great white وقرش رأس المطرقة Hammerhead، وبين الأنواع الغريبة والعجيبة، وتشمل قرش العفريت Goblin shark وقرش قاطع الكعكة Cookiecutter shark وقرش اللحية الشعثاء اليابانية Japanese wobbegong.
بالطبع، انقرضت أنواع كثيرة من أسماك القرش، لكن ذلك متوقع. إذ يُقدَّر أن الانقراض كان مصير أكثر من 99 % من جميع النباتات والحيوانات التي عاشت على الأرض. أما الأحجية فتتمثّل بدلاً من ذلك في كيفية بقاء أسماك القرش كمجموعة على قيد الحياة لهذه المدة الطويلة. وتجد سورا كيم Sora Kim، عالمة البيئة القديمة التي تعمل في جامعة كاليفورنيا University of California بمدينة ميرسيد وتدرس أسماك القرش القديمة والحديثة، دليلاً في فضلات هذه الأسماك. وتقول: “عندما يتبرز قرش فقلما توجد مواد صلبة في برازه. فالفضلات تكون أقرب إلى سائل لزج شفاف”. وهذا يدلّ على أن هذه الأسماك تمتلك جهازاً هضمياً فاعلاً جداً يستطيع أن يعالج ما تتناوله كله تقريباً. وتقول كيم إن ذلك قد يكون مفيداً عندما يشح الطعام، وهو أمر ممكن الحدوث خلال حدث من أحداث الانقراض الجماعي. فالانقراض الجماعي الثالث والأكبر على الأرض، مثلاً، الذي حصل قبل نحو 252 مليون سنة، شهد اختفاء نحو 96 % من الحياة البحرية كلها.
“إلى جانب عدم إهدار سوى القليل جداً من المواد الغذائية، من المفاجئ أن سمكة القرش غير صعبة المراس عندما يتعلّق الأمر بالطعام”
وإلى جانب عدم إهدار سوى قليل جداً من المواد الغذائية، من المفاجئ أن القرش ليس صعب المراس عندما يتعلّق الأمر بالطعام. فقبل بضع سنوات، درست كيم وزملاؤها النظام الغذائي لأسماك القرش الأبيض الكبير من خلال تحليل البصمة الكيميائية Chemical signature في أعمدتها الفقارية. وتقول: “حين بدأتُ بالمشروع، قلت لنفسي، حسناً، إن أسماك القرش الأبيض الكبير تأكل الفقمة وأسد البحر”. كان ذلك أمراً مسلّماً به. وتُضيف:”فُوجئتُ حقاً بأن ذلك لم يكن ما رأيته”.
فأسماك القرش لا تأنف من هذين الحيوانين، لكنها تبدو سعيدة بالقدر نفسه حين تستهلك فرائس أخرى، مثل الحبّار. وتقول كيم: “على الرغم من أننا نعدها مفترسات شرسة تقبع على قمة سلسلة الغذاء، فإنها ليست كذلك كل الوقت”. وفي الواقع، تبيّن أبحاث نُشِرت في عام 2018 أن أحد أنواع أسماك القرش، القرش القلنسوي الرأس Bonnethead shark، هو نوع قارت Omnivorous، يستهلك كميات وفيرة من الأعشاب البحرية إلى جانب المحار. وقد تكون هذه المرونة في النظام الغذائي لصالح أسماك القرش حين تصبح الحياة صعبة.
وتأتي أدلة إضافية على قدرة أسماك القرش على التأقلم من أسنانها. فعلى خلاف هيكلها الغضروفي، فإن أسنانها صلبة جداً، ما يعطيها فرصة جيدة للحفظ في السجل الأحفوري. في الأقاليم الشمالية الغربية لكندا، تنتشر أسنان تعود إلى أسماك قرش النمر الرملي Sand tiger sharks في ترسبات قديمة قرب نهري ماسكوكس Muskox وإيمس Eames. ويتراوح عمرها ما بين 53 و38 مليون سنة، وهي تعود إلى الإيوسين Eocene، وهي فترةكانت فيها الأرض أدفأ بنحو تسع إلى 14 درجة سيليزية عما هي عليه حاليا. وتذوب القمم الجليدية في العوالم الأدفأ، وتنساب مياهها العذبة إلى المحيطات. وهذا يقلّل من ملوحة مياه المحيطات، الأمر الذي قد يمثّل مشكلة لأنواع الأسماك التي تتطلّب مستويات محدّدة من الملوحة من أجل البقاء على قيد الحياة. لكن الأمر لا يبدو أنه أزعج قرش النمر الرملي في الإيوسين: فالتركيبة الكيميائية لأسنانها تشير إلى أنها عاشت في مياه أقل ملوحة بكثير من تلك التي تقطنها أسماك القرش النظيرة حاليا.
وتقول كيم: “يُشبّه الكثيرون الإيوسين بالمآل الذي قد نصل إليه مع تغيّر المناخ [الحديث]. لقد كانت دافئة حقاً، ولم يكن أي ثلاجة قطبية”. ووقتئذ، كما الآن، واجهت الأنواع البحرية التحدّي المتمثّل في ارتفاع درجات الحرارة. لكن هنا أيضاً يبدو أن أسماك القرش كانت قادرة على التكيف. بل إن بعضها قد تعزّز وجوده. ففي عام 2018، مثلاً، ذُكِر وجود حاضنة لأسماك قرش الثور Bull shark موجودة في مياه أوتر بانكس Outer Banks، وهي شريط من الجزر أمام ولاية كارولينا الشمالية الأمريكية. ويقول ديفيد شيفمان David Shiffman، عالم الأحياء البحرية الذي يعمل في جامعة سايمون فريزر Simon Fraser University بمدينة فانكوفر: “كانت حاضنات القرش الثور توجد فقط شمالًا عند شمال ولاية فلوريدا”. إذ يربّي النوع صغاره في مياه دافئة نسبياً، ومع ارتفاع درجات حرارة المحيطات، وسّع نطاقه شمالا.
في مياه حارة
ويبدو أن أنواعاً أخرى من أسماك القرش تستمتع بوجودها في المياه الحارة. فحين استكشف برينان فيليبس Brennan Phillips، مهندس المحيطات الذي يعمل في جامعة رود أيلاند Rhode Island البركان كافاتشي Kavachi الواقع تحت سطح البحر أمام جزر سليمان Solomon Islands، كانت أسماك القرش الشيء الوحيد الذي لم يتوقّع أن يجده. فالمياه المنبعثة من الفوهات المائية الحرارية Hydrothermal vents قد تتجاوز 400 درجة سيليزية. لكن فريقه، الذي كان يسبح هناك في الأعماق المعتمة، شاهد قرش رأس المطرقة والقرش الحريري Silky shark. وكان يوماً مشهوداً للصحافة (وردت في عناوينها كلمة “Sharkcano” [مزيج من قرش وبركان بالإنجليزية])، لكن بالنسبة إلى فيليبس يُلمِح الاكتشاف إلى شيء أعمق.
وهو يقول إن البراكين الواقعة تحت سطح البحر تُعَد ميزات ثابتة نسبياً إلى المحيطات حتى في زمن سابق بكثير لتطوّر أسماك القرش. وإذا شعرت أسماك القرش المعاصرة بأن البراكين منزلها، فربما تمكّن أسلافها من الاعتماد على البراكين في وقت كانت فيه الموائل Habitat الأخرى تأتي وتذهب. وتحتاج الفكرة إلى مزيد من الدراسة، لكنها تنال دعماً من اكتشاف بعض من أسماك الورنك في عام 2018 وهي تضع بيوضها في بيئات بركانية تحت سطح البحر.
أسماك القرش قابلة للتكيف بعدة طرق ، لكن بالطبع الأنواع الفردية ليست محصنة ضد الانقراض. حتى أكبر سمكة قرش من حيث العمر، من كبيرات الأسنان وتُدعى الميغالودون ؛ التي قد يصل طولها إلى 17 مترًا واقتاتت على الحيتان ، اختفت في النهاية. لقد انقرضت منذ نحو 2.6 مليون سنة ، بعد بقائها لمدة 20 مليون سنة.
وتعتقد كاتالينا بيمينتو Catalina Pimiento، التي تعمل في جامعة سوانسي Swansea University بالمملكة المتحدة، أنها تعرف السبب. فبينما كانت تدرس أحافير الميغالودون على امتداد قناة بنما، اكتشفت مجموعات ضخمة من أسنان صغارها، مما يشير – وفق اعتقادها- إلى حاضنات قديمة في ترسبات كانت يوماً جزءاً من بيئة بحرية قريبة من الشاطئ. واختفت مثل هذه الموائل في وقت انقراض الميغالودون. وتقول بيمينتو:” ما حصل هو أن مستوى البحر كان يتقلّب تقلبا شديدا”. وربما دمرت هذه الارتفاعات والانخفاضات موائل حاضنات الميغالودون، ودمرت معها النوع بكامله.
وستقضي حالات الانقراض الجماعي على كثير من الأنواع الأخرى من القرش، وأعادت خلط قائمة الأنواع الموجودة. وفي الواقع، فإن أول حدث من هذا النوع عاشته أسماك القرش منحها صفتها الأبرز. وكان الحدث ثاني انقراض جماعي على الأرض، بدأ قبل 375 مليون سنة، وتسبب به تجمّد ضخم من بين أسباب أخرى.
وقبل هذا الحدث الكارثي، ووفق لورين سالان Lauren Sallan، التي تعمل في جامعة بنسلفانيا University of Pennsylvania ، كان لمعظم أسماك القرش هياكل عظمية. وبعدئذ، صار لمعظمها هياكل طرية غضروفية، كما هي الحال اليوم. والأهم أن أسماك القرش التالية للانقراض كانت صغيرة جداً – بلغ طولها في العادة أقل من عشرة سنتيمترات.
وغيّر الانقراض الثاني العالَم، وتغيّرت أسماك القرش معه. ومع ذلك، امتلكت الأسماك سمات مكّنت المجموعة ككل من تجاوز الكارثة. وقدرتها على التغيّر تعني أنها مرنة Resilient. ويقول شيفمان: “يسألني بعض الأفراد: ’هل يؤثّر تغيّر المناخ في أسماك القرش؟‘ والإجابة البسيطة هي، ’لا، في العموم‘”.لكنْ هناك شيء لا تستطيع أسماك القرش أن تسبح لتهرب منه بسهولة: إنه نحن. فالصيد الجائر يمثّل التهديد الأكبر الذي تواجهه حاليا.
“القرش من الحيوانات القادرة على النجاة، لكنْ هناك شيء واحد لا تستطيع أن تسبح هرباً منه بسهولة: نحن”
ويتزايد تشريع الضوابط على صيد أسماك القرش، فتتراوح ما بين الاتفاقيات الدولية والقوانين المحلية. لكن في أجزاء عدة من العالم لا تزال الأعداد المحلية من أسماك القرش تتعرّض للصيد بالوتيرة نفسها كما كانت لقرون خلت، للحصول على زعانفها التي تُعَد من الأطعمة المميّزة في بعض البلدان. وفي هذه الأثناء، وبينما يتكثّف الصيد ويشيع الصيد العميق بالشباك، تقع أعداد متزايدة من أسماك القرش في الشباك مصادفة.
ولا تكون إعادة إطلاقها إلى المحيط كافية دائماً لإنقاذها، كما يبيّن مأزق القرش رأس المطرقة الصدفي Scalloped hammerhead shark المهدّد بالانقراض. فالنوع رشيق لكنه هش Fragile أيضاً، كما يقول شيفمان. ويقول:”تعاني هذه الأسماك الإجهادَ بسرعة حقاً”. فحين تعلق في شباك الصيد، يكون الإجهاد من الوقوع في الشباك وحده كافياً في الأغلب لقتلها. لكن بالإمكان الحدّ من الأضرار كما يقول، وذلك باستخدام معدات صيد معدلة تلتقط فقط الأسماك المستهدفة المطلوبة، ومن خلال قصر الصيد على أوقات خلال اليوم لا تختلط فيها أسماك القرش بالأسماك الأخرى.
وحقيقة أن العديد من أسماك القرش حاليا كبيرة نسبياً مقارنة بأسلافها لا تقلل من الضرر الذي يتسبب به الصيد، كما يقول سالان. إذ تستغرق أسماك القرش وقتاً أطول لتصل إلى السن المناسبة للإنجاب. وإذا كان البشر يحولون زعانف القرش إلى حساء بوتيرة أسرع من قدرة الحيوانات على التكاثر، فستنخفض حتماً أعدادها انخفاضا حادا.
ويدرج الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة International Union for Conservation of Nature (اختصارا: الاتحاد IUCN)
16% من أنواع أسماك القرش باعتبارها مهددة بالانقراض. وكمجموعة، تمتلك أسماك القرش سمات خاصة جعلتها عصية على الانقراض. لكن الصيد الجائر يمثّل تهديداً جديداً لن تتمكن بعض الأنواع من تجاوزه إلا إذا غيّرنا عاداتنا.
تم نقل المقال من مجلة العلوم الكويتية بالتصرف.
اقرأ أيضًا: ما هو العرق أو النسل؟