آثار لأقدام عمرها 120 ألف عام تعلن عن مستكشف السعودية الأول

اكتشاف أحافير تُقدم دليلًا نادرًا على التوقيت والمكان الذي سكن فيه البشر الأوائل شبه الجزيرة العربية.

منذ زمن بعيد، عوضًا عن رمال صحراء النفود السعودية، كانت الأشجار على مدى البصر. وبدلًا من الأراضي القاحلة كانت البحيرات الوارفة تُثير بهجة الناظرين.

في ذلك الزمان، وقبل نحو 120 ألف عام، خط الإنسان الحديث خطواته الأولى على شاطئ بحيرة قديمة واقعة في شمال ما يُعرف الآن بالمملكة العربية السعودية. كانت الأرض طينية، تحوم حولها قطعان الأفيال والحمير البرية.

تركت تلك الكائنات آثارًا لم يقدر الزمان على محوها. جفت تلك الآثار، وتحجرت بشكل كامل، لتكشف لنا بعد مرور آلاف الأعوام عن مستكشف عَبر البحار، واستقر به المطاف هنا، في صحراء النفود.. المكان الذي ربما كان شاهدًا على الخطوات الأولى للإنسان الحديث في شبه الجزيرة العربية.

فوفق دراسة حديثة نُشرت في دورية “ساينس أدفانس”، تقدم تلك الخطوات الغارقة في عمق التاريخ دليلًا نادرًا على التوقيت والمكان الذي سكن فيه البشر الأوائل شبه الجزيرة العربية.

وتشير آثار الأقدام المكتشَفة إلى أن أجدادنا توقفوا ذات يوم على شاطئ تلك البحيرة التي غمرتها الأمطار في أثناء تنقُّلهم من مكان إلى آخر، ربما لمشاهدة الحيوانات أو الاستراحة، أو حتى للبحث عن طعام في الأراضي العشبية المحيطة.

وتُظهر تحليلات الرواسب أن القدماء وصلوا إلى البحيرة خلال امتداد جاف، عندما كانت الأنهار والبحيرات في المنطقة تتقلص.

ووجد الباحثون سبعةً من آثار الأقدام، وهي على الأرجح الدليل الأقدم على وجود الإنسان العاقل في شبه الجزيرة العربية، وهي أقدم من أقدم دليل سابق بنحو 35 ألف عام كاملة.

وكانت دراسة بحثية سابقة نُشرت في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن”، قد أظهرت أن الإنسان العاقل استوطن تلك البقعة قبل نحو 85 ألف سنة، حيث عثر باحثون على عظام أصبع واحدة، تحمل الصفات التشريحية للأصابع البشرية.

آثار لأقدام فيلة وغزلان أيضًا

من الاكتشافات الأخرى التي تعود إلى الحقبة ذاتها في الموقع، 107 آثار أقدام للإبل، و43 أثرًا لأقدام فيل.

يقول العلماء إن هذه الآثار كانت من صنع قطعان من الحيوانات اليافعة والبالغة.

تضمنت الأحافير التي تكونت في الطبقات الرسوبية أيضًا آثارًا لأقدام الفيلة والغزلان الكبيرة المعروفة باسم “المها”.

تمكَّن الباحثون من التعرُّف على عدد من الحيوانات من آثار الأقدام، تتضمن الأفيال والخيول والإبل.

ويعني وجود الحيوانات الكبيرة مثل الفيلة وأفراس النهر، جنبًا إلى جنب مع الأراضي العشبية المفتوحة والموارد المائية الكبيرة، أن شمال الجزيرة العربية ربما كان مكانًا جذابًا بشكل خاص للبشر الذين يتنقلون بين أفريقيا وأوراسيا.

credit: Stewart et al., 2020

رؤية كاملة لهجرات الإنسان

لطالما اعتُبرت شبه الجزيرة العربية -الواقعة في جنوب غرب آسيا- البوابة الجغرافية الحيوية الرئيسية بين أفريقيا وأوراسيا. كما أنها تُعد الطريق الواضح الذي سلكه الأفراد الأوائل من جنسنا البشري في أثناء سفرهم خارج أفريقيا ورحلتهم إلى الشرق الأوسط.

وتكشف الأدوات الحجرية أن البشر القدماء اكتشفوا شبه الجزيرة العربية في أوقات مختلفة في عصور ما قبل التاريخ، عندما كان المناخ أكثر رطوبةً، وقبل أن تتحول أراضيها العشبية الخضراء التي تخللتها بحيرات المياه العذبة إلى صحاري قاسية.

ومع ذلك، لم يجد الباحثون حتى الآن سوى عظام إصبع بشرية واحدة، يرجع تاريخها إلى قرابة 88000 عام لإثبات أن الإنسان الحديث عاش هناك.

ولأن المفتاح الحقيقي لفهم هجرة الإنسان الحديث إلى شتى بقاع الأرض يكمن في العثور على حفريات على طول المسارات التي اتخذها، يبحث العلماء بدأب وصبر عما تركه لنا الأجداد من أثرٍ في كل مكان.

في الوقت الحالي، تبدو شبه الجزيرة العربية التي تتميز بصحاريها الكبيرة شديدة الجفاف غير مضيافة للبشر الأوائل والحيوانات، وبالتالي فقد تلقت اهتمامًا أقل بكثير من أفريقيا أو أوراسيا، تلك المناطق المجاورة التي تُعَد حيويةً لفهم إنسان ما قبل التاريخ.

لكن، أظهرت الأبحاث على مدى العقد الماضي أن الجفاف لم يكن سيد الماضي، وأصبح من المفهوم جيدًا الآن أن الظروف في شبه الجزيرة العربية قد تقلبت بشكل كبير على مدى المليون سنة الماضية.

في أوقات معينة في الماضي، كانت الصحاري التي تهيمن على الجزء الداخلي من شبه الجزيرة أراضيَ عشبية واسعة، فيها بحيرات وأنهار دائمة للمياه العذبة، وخلال فترات الانتعاش المناخي هذه، انتشر البشر والحيوانات في المناطق الداخلية، كما يتضح من السجل الأثري والأحفوري.

لذا، قرر الفريق العلمي الذي نفذ ذلك البحث دراسة تلك المنطقة بتركيز أكبر. وقبل نحو 10 سنوات، بدأ الفريق البحثي في استخدام صور الأقمار الاصطناعية والرحلات الميدانية للبحث عن الحفريات في قيعان البحيرات القديمة الموجودة في صحراء النفود. رصد الباحثون مئات من الحفريات التي تشكل آثارًا لأقدام الحيوانات، غير أن الأمر اللافت للانتباه هو عثورهم على آثار أقدام بشرية في طبقة رسوبية يبلغ عمرها 120 ألف عام.

يقول الباحث بمعهد ماكس بلانك للبيئة، ماثيو ستيورات، وهو المؤلف الأول للدراسة: إن ذلك الموقع تم اكتشافه عام 2017.

وأوضح في تصريحات خاصة لـ”للعلم” أن الفريق البحثي -منذ ذلك الحين- عمل على تحليل البيانات للوصول إلى “رؤية كاملة لهجرات الإنسان الحديث عبر ذلك المكان”.

تم اكتشاف آثار الأقدام الموصوفة في الدراسة الجديدة خلال مسح حديث لصحراء النفود في المملكة العربية السعودية. في رواسب بحيرة قديمة أطلق عليها الفريق اسم “الأثر”. ويقول “ستيورات”: إن دراسة آثار الأقدام “يمكن أن تزودنا ببيانات عالية الدقة للغاية، لا تتيحها أي سجلات أحفورية أو مخلفات بشرية أخرى”.

المسح سيرًا على الأقدام

وتم جمع الأحافير بشكل منهجي عبر إجراء عمليات مسح قام بها الباحثون سيرًا على الأقدام. تم إجراء مسوحات المشاة من قِبَل ثلاثة إلى خمسة أشخاص يمشون معًا في خط مستقيم وتفصل بينهم مسافة لا تزيد على مترين. وتم تسجيل مواقع العثور علـى العينات باستخدام أجهزة تحديد المواقع بالأقمار الاصطناعية.

وقام الباحثون خلال رحلة المشي بجمع جميع الحفريات التي عُثر عليها بغض النظر عن حجمها. ثم قاموا في وقت لاحق بتصنيفها وتقسيمها بالاستعانة بمجموعة أخرى من العلماء من جامعة “ويلز” ومتحف سميسونيان الأمريكي للطبيعة. وقاموا أيضًا بفحص كل عينة بواسطة العدسات المكبرة.

يشير التركيز الكثيف لآثار الأقدام والأدلة من رواسب البحيرة إلى أن الحيوانات ربما كانت تتجمع حول البحيرة استجابةً للظروف الجافة وتناقُص إمدادات المياه. ربما كان البشر أيضًا يستخدمون البحيرة للحصول على المياه في حين فتشوا في المنطقة المحيطة بها للبحث عن الطعام.

ويقول الباحثون إنهم يعلمون تمامًا الآن أن الإنسان الأول زار البحيرة، لكن نقص الأدوات الحجرية أو الأدلة على استخدام جثث الحيوانات يشير إلى أن زيارتهم للبحيرة كانت قصيرةً فقط.

عمر آثار الأقدام له أهمية خاصة. يعود تاريخها إلى نحو 120 ألف سنة، وهي فترة من الظروف الرطبة نسبيًّا في المنطقة، ولحظة مهمة في عصور ما قبل التاريخ البشرية.

كانت التغيرات البيئية خلال العصر الجليدي الأخير قد أتاحت للإنسان والحيوان الانتشار عبر المناطق الصحراوية، التي كانت عادةً بمنزلة حواجز رئيسية للتشتت خلال الفترات الأقل رطوبة. تشير السجلات الأحفورية والأثرية إلى أن هذه الظروف سهلت أيضًا انتشار البشر من أفريقيا إلى بلاد الشام.

تشير هذه النتائج إلى أن الحركات البشرية خارج أفريقيا خلال العصر الجليدي الأخير امتدت إلى شمال شبه الجزيرة العربية، مما يبرز أهمية شبه الجزيرة العربية لدراسة عصور ما قبل التاريخ البشري.

يرى الباحث في مجال العلوم الاجتماعية بجامعة ستانفورد “أدريان باركر” -لم يشارك في تلك الدراسة- أن هجرة الإنسان الحديث عبر شبه الجزيرة العربية “كانت إيذانًا ببداية عصر جديد من سيطرة البشر على كوكب الأرض”. فبعد تشتُّت البشر في كل ركن من أركان الكوكب الأزرق “ظهرت المجتمعات الحديثة وازدهرت البشرية”، مشيرًا -في تصريحات خاصة لـ”للعلم”- إلى أن تلك الدراسة “تكتب في الحقيقة تاريخ البشرية، وليس تاريخ تلك المنطقة فحسب”.

يقول “ستيورات”: إن النتائج التي توصلت إليها الدراسة توفر أيضًا معلومات عالية الدقة بشأن البيئة السابقة لشمال شبه الجزيرة العربية، “خاصةً في وقت كان البشر الأوائل يسكنون فيها”، فعلى عكس معظم السجلات الأخرى، يمكن أن توفر دراسة آثار الأقدام معلومات تعكس الساعات التي قضاها البشر في ذلك المكان.

ومن دراسة الموقع -والكلام لا يزال على لسان ستيورات- يبدو أن حركات الثدييات البشرية والكبيرة والمناظر الطبيعية تستخدم ارتباطًا وثيقًا “هو شاطئ البحيرة”؛ فكلٌّ من الإنسان والحيوان “ربما عاشوا في ذلك المكان استجابةً لظروف الجفاف وتناقُص إمدادات المياه”.

في حين يرى الباحث في جامعة لندن “ريتشارد كلارك ويلسون” -وهو مؤلف مشارك في تلك الدراسة- أن شبه الجزيرة العربية “منطقة مهملة”، على الرغم من أهميتها في فهم طبيعة هجرات البشر العظمى إلى الأماكن الأخرى.

ويشير “ويلسون” في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن تلك المنطقة “يُمكن أن تصبح حجر زاوية في فهم الطريقة التي انتشرنا بها -نحن جنس الإنسان الحديث- في العالم أجمع”.

تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.

اقرأ أيضًا: سافانا «الجزيرة العربية» احتضنت أشباه البشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *