شهدت منطقة وادي النيل صراعًا طويلًا ومستمرًّا بين القبائل هناك.. في فترات زمنية تعود إلى أكثر من 13 ألف عام مضت.. ربما تفاقمت أحداثه بسبب قلة الموارد وتغير المناخ.. وفق نتائج دراسة حديثة.
كانت مشاعر الحماسة تُسيطر على الشعب المصري في ذلك التوقيت، تُلهبها خطابات الرئيس جمال عبد الناصر وتؤجج نارها الآمال العظيمة المُلتفة حول المشروع القومي الجديد: السد العالي، بدأت عمليات الحفر والإنشاء، ومعها بدأت حملات دولية للمشاركة في إنقاذ الآثار القديمة قبل أن تغمرها المياه التي سُتحجز خلف السد، وإلى الجنوب من جسم السد، شاركت جامعة كولورادو الأمريكية في تلك الجهود، وخلال الفترة من 1962 إلى 1963 وعلى بُعد 650 مترًا غرب النيل -مقابل وادي حلفا بجمهورية السودان- عثر العلماء على أحفورة فك بشري سفلي من موقع يُفترض أنه يعود إلى العصر الحجري القديم، وفي أوائل عام 1964، وعلى بُعد 2.5 كيلومتر من النهر ومسافة 1.5 إلى جهة الغرب، وجد العلماء كنزًا من الحفريات.. بقايا من رفات 38 فردًا، وعظامًا لأبقار، ومجموعة من أدوات الصوان، وآثار إشغال بشري قديم في هذا المكان الذي يُعرف الآن باسم “جبل الصحابة”.
مُنذ اكتشافها في ستينيات القرن الماضي، كانت “مقبرة جبل الصحابة” التي تعود إلى أكثر من 13 ألف عام مضت واحدة من أقدم الشهادات على حروب ما قبل التاريخ، إلا أن علماء من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، بالتعاون مع آخرين من المتحف البريطاني وجامعة بوردو الفرنسية، تمكنوا من كشف معلومات جديدة عن ذلك الموقع الحافل بالبقايا البشرية؛ إذ قالوا إن سكان ذلك المكان لم يخوضوا حربًا واحدة، بل سلسلة من النزاعات وحلقات العنف على مدار الزمن، التي ربما تفاقمت أحداثها بسبب قلة الموارد وتغير المناخ.
ووفق ما نُشر في دورية “ساينتفك ريبورتس” سالت دماءٌ كثيرة على سفح جبل الصحابة؛ فالعديد من الأفراد المدفونين في تلك البقعة يحملون إصابات أحدثتها مقذوفات، وُجدت آثارها في العظام أو في الأحشاء الداخلية.
حين اكتُشفت تلك المقبرة لأول مرة في ستينيات القرن الماضي، اعتقد العلماء أن ساكنيها من الأموات قُتلوا بسبب نزاع مسلح واحد فقط، إلا أن الدراسة الجديدة التي أجراها فريق من علماء الأنثروبولوجيا والجيوكيمائيين لآلاف من القطع العظمية -تنتمي لـ61 فردًا- وحوالي 100 قطعة حجرية مرتبطة، علاوة على مجمع الدفن بأكمله (المغمور الآن ببحيرة ناصر) أعطت تفسيرات جديدة من شأنها أن تُغير وجهة نظرنا عن ذلك المكان الذي كان مسرحًا لحروب طاحنة استمرت عقودًا.
أقدم مجمع جنائزي في وادي النيل
الدراسة -التي استمرت ما بين عامي 2013 و2019- أعادت فحص العظام، وحللتها مجهريًّا، من أجل التمييز بين آثار الإصابات والضرر الناتج عن تحلُّل الأجساد من جَراء الدفن، في تلك الدراسة، تعرَّف الباحثون على حوالي 100 إصابة جديدة، بعضها التأم في حين ظل بعضها الآخر غائرًا، وبعضها يحتوي على شظايا حجرية لم يتم التعرف عليها سابقًا ولا تزال مغروسةً في العظام.
بالإضافة إلى الأشخاص العشرين الذين وُصفت إصابتهم في الدراسات السابقة بالفعل، هناك 21 هيكلًا عظميًّا مصابًا بشظايا، وكلها تقريبًا يوحي بالعنف بين الأشخاص، كآثار المقذوفات أو الكسور، كما كشفت الدراسة عن إصابة 16 فردًا بإصابات ملتئمة وأخرى غير ملتئمة، مما يشير إلى نوبات متكررة من العنف على مدار حياة الشخص وليس نزاعًا واحدًا.
وتدعم هذه الفرضية حقيقة أن بعض الهياكل العظمية يبدو أنها تعرضت للاضطراب بسبب عمليات الدفن اللاحقة؛ إذ ربما أثرت العوامل الجوية والتعرية على جودة الحفريات.
والمثير للدهشة أنه يبدو أن الرجال والنساء والأطفال قد عولجوا بشكل عشوائي، من حيث عدد الإصابات ونوعها أو اتجاه المقذوفات؛ إذ جرى علاج الإصابات بشكل بدائي للغاية، بغض النظر عن نوع الإصابة ومدى شدتها.
تكشف هذه البيانات الجديدة أيضًا أن غالبية الإصابات نتجت عن مقذوفات مركبة، كأسلحة رمي (سهام أو رماح) مكونة من عدة قطع حجرية حادة، بعضها مُركب على العصي بشكل جانبي ولها نقاط شحذ مختلفة، مع اختلافات في اتجاه حافة القطع، هذا يعنى أن الغرض المقصود من صناعة تلك الأسلحة كان تمزيق الضحية وتقطيعها إرْبًا إربًا.
تقدم الدراسة رؤى جديدة حول العنف بين الأشخاص والقبائل في أواخر العصر البليستوسيني المتأخر؛ كما تؤكد أن جبل الصحابة هو أقدم مجمع جنائزي في وادي النيل، إذ تُظهر أدوات التأريخ الجديد بالكربون المشع أن الموقع يعود إلى 13400 عام على الأقل.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: عدسات الباحثين ترصد الاختلافات السلوكية بين القردة