دراسة حديثة تؤكد أن أشباه الثدييات كانت المنافس الرئيسي للثدييات الحديثة.. قبل الانقراض الجماعي للديناصورات وبعده
“مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائد”.. مقولة صاغها الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي، منذ أكثر من عشرة قرون مضت، لكن الثدييات كانت قد جعلت منها واقعًا حقيقيًّا على الأرض قبل أن تأتي المقولة الشهيرة على لسان “المتنبي” بملايين السنين؛ فبعد الانقراض الجماعي الذي قضى على حوالي ثلاثة أرباع الكائنات الحية على الأرض ومن بينها الديناصورات، استطاعت الثدييات أن تجد الفرصة في التنوع والتطور وملء منافذ بيئية جديدة، مما قاد العلماء إلى اعتقادٍ ساد عقودًا طويلة بأن سبب هذا الانتعاش الواضح هو تحرُّر البيئات المختلفة من قبضة الديناصورات الدامية، فأصبحت الثدييات كما نرى الآن تحيا عصرها الذهبي، وتربَّع الإنسان الذي يقف على قمة هرم الثدييات على ملك الأرض، بعد ما كانت الثدييات تحت هيمنة الديناصورات الأشد جسارة، ما يعني أن موت الديناصورات أعطى الفرصة للثدييات في الحياة بحُرّية، أو كما يقول أبو تمام: “ما إن ترى شيئًا لشيءٍ محييًا… حتى تلاقيه لآخر قاتلا”.
بعد سنوات عديدة من رسوخ هذا الاعتقاد، جاءت نتائج دراسة حديثة نُشرت مؤخرًا في دورية “كارنت بيولوجي” بتحدٍّ آخر جديد، إذ قدمت صورةً أكثر تعقيدًا لتفسير ما حدث للثدييات في تلك الأزمنة الغابرة، لتفتح مجالًا للتساؤل: هل الديناصورات حقًّا هي التي قيدت الثدييات الحديثة من التنوع والتطور، أم أنها بريئة وهناك فاعلٌ آخر لم يُكشف عنه بعد؟
تتحدى الدراسة الافتراضات القديمة حول سبب تنوُّع الثدييات، وتوسِّع من نطاق بحثها لتستكشف أنظمةً غذائيةً جديدة، وأساليب حياة أخرى، قبل انقراض الديناصورات وبعده، تشير الدراسة إلى قصة أكثر تعقيدًا من تلك المنافسة بين مجموعات الثدييات المختلفة، ويسلط البحث الجديد أيضًا الضوء على أهمية اختبار الأفكار القديمة والراسخة حول التطور باستخدام أحدث الأدوات والتقنيات الإحصائية.
الثدييات في عصر الديناصورات
في حقب الحياة المتوسطة (252-66 مليون سنة تقريبًا)، سادت الزواحف على الأرض واحتلتها يابسةً وبحرًا، بل وجوًّا أيضًا، وفي تلك الحقبة تنوعت الديناصورات (تُعد الديناصورات من الزواحف) في الحجم والشكل والنوع وكانت هي سادة الأرض، أما أسلافنا نحن من الثدييات فكانت مقيدة المعيشة، قليلة في تنوعها، تحيا على استحياء في هذا العالم الشرس، مما جعل الثدييات صغيرةً نسبيًّا ومحددةً في أماكن معيشتها والغذاء المتوافر لها، في حين كانت هناك أشباه الثدييات (مجموعة من الكائنات هي الأقرب إلى الثدييات في شجرة الأنساب، تتمتع بصفات تشريحية انتقالية بين الزواحف والثدييات، لكنها أقرب إلى الثدييات من الزواحف) التي تتمتع بأحجام مختلفة وأنماط معيشة متعددة كالسباحة والحفر والتحليق.
يقول نيل بروكليهورست، عالِم البيولوجيا التطورية بجامعة أكسفورد، والمؤلف الرئيسي للدراسة: “لا شك أن أجداد الثدييات الحديثة (ثيريانز) في عصر الديناصورات كانت أكثر تقييدًا من أقربائها أو ما يُعرف بأشباه الثدييات”.
تقول إلسا بانسيرولي -الباحثة بمتحف التاريخ الطبيعي في جامعة أكسفورد والمؤلفة المشاركة في الدراسة- في البيان الصحفي المصاحب للدراسة: “تعددت أنواع الثدييات في عصر الديناصورات، فمنها ما يحلق وما يستطيع السباحة وهناك الأنواع الحفارة، لكن لا ينتمي أيٌّ منها إلى الثدييات الحقيقية التي نعرفها الآن، بل هي من الفروع الأولى (أشباه ثدييات) في شجرة حياة الثدييات، وتضيف “بانسيرولي”: “تعرضت تلك الأنواع من أشباه الثدييات للانقراض مع الديناصورات، وفي تلك المرحلة استطاعت الثدييات الحقيقية التنوع واستكشاف أماكن وطرق معيشة جديدة”، وتوضح “بانسيرولي” أن دراستهم الجديدة تلقي الضوء على أن أشباه الثدييات نافست الثدييات الحقيقية، بل منعتها أيضًا من التمتع بتلك المناطق البيئية التي تفسح لها المجال واسعًا لكي تتطور”.
يتساءل “بروكليهورست” في تصريحاته لـ”للعلم”: “لماذا تهاجم الديناصورات الثيريانز فقط، بينما تغض الطرف عن أشباه الثدييات؟”، وهو ما يعقِّب عليه مات بورثز، عالِم الحفريات وأمين متحف التاريخ الطبيعي بجامعة دوك، غير مشارك في الدراسة: “استطاعت أشباه الثدييات تطوير طرق معيشية تضمن لها الحياة، فبعضها يحلق في الجو، والبعض الآخر يحفر في الأرض، ومنها ما هو سباح ماهر، فهناك تنوع ملحوظ في كثير من تلك المجموعات، لكن عندما نفكر في الانقراض الذي حدث منذ 66 مليون سنة، سرعان ما يتبادر إلى أذهاننا انقراض الديناصورات فقط، على الرغم من وجود مجموعات أخرى فنيت معها، من بينها الكثير من الثدييات الأخرى”.
ويتابع “بورثز”: “إنه انقراض جماعي، فقدت الأرض فيه الكثير من الكائنات الحية، ولحسن حظنا نجا أجدادنا من الثدييات، ولربما كان السبب في تطورنا نحن البشر ووصولنا إلى ما نحن عليه الآن هو فناء أشباه الثدييات التي كانت تعيش آنذاك”، وفق ما أشارت نتائج الدراسة.
يشير “بورثز” إلى زاوية أخرى تتعلق بصغر حجم الثدييات في عصر الديناصورات، قائلًا: “كانت معظم الثدييات في زمن الديناصورات صغيرة الحجم، وكان العديد منها في حجم الفئران وربما أصغر حجمًا، وإذا نظرنا إلى حجم الثدييات في يومنا هذا فسنجده لا يختلف كثيرًا عن ذلك، لذلك هناك الكثير من المنافسات بين الثدييات حول أماكن معيشتها”، ولكي نبرهن على ذلك الصراع المحتدم بين ثدييات حقب الحياة المتوسطة كان لا بد من تتبُّع تطور الثدييات قبل انقراض الديناصورات وبعده.
الإحصاء لغة العلم التي لا تكذب
تمكَّن “بروكليهورست” من ابتكار طريقة جديدة لتتبُّع أنماط التغيُّر المورفولوجي (التغير في الشكل الخارجي) في الثدييات، فلكي يحدث تطورٌ لكائنٍ ما، تظهر تغيرات في الشكل الخارجي بالتبعية على هذا الكائن، والمزيد من التغيير التطوري يجب أن يؤدي إلى مزيد من الأشكال المختلفة.
يقول “بورثز”: “تُعد طريقة “بروكليهورست” الإحصائية جديدةً من نوعها ومعقدة؛ إذ عكف الفريق على جمع بيانات لأشجار عائلة الثدييات التي عاشت خلال فترة الديناصورات والأخرى التي عاشت بعد فترة وجيزة من انقراض الديناصورات، ومن بعدها أجروا مقارناتٍ بين الأنواع؛ في محاولة لمعرفة مدى تنوُّع كل سلالة عبر الزمن”.
يؤكد “بروكليهورست” أن الطريقة المستخدمة في الدراسة جديدة، ومن تصميمه الخاص، ويتابع: “إذا تخيلت رسمًا بيانيًّا، فما سيكون على طول المحور الأفقي هو مقدار التغيير التطوري في مجموعة الدراسة الخاصة بك، وما سيكون على المحور الرأسي هو مقدار التغير في الأشكال، ومع زيادة مقدار التغيير التطوري يزداد مقدار الاختلاف المورفولوجي (الشكل الخارجي)، ولكن عند حد معين نصل إلى (نقطة التشبع)، حيث تتوقف مجموعة الدراسة الخاصة بك عن إنتاج أشكال جديدة، وتبدأ في إنتاج الخصائص نفسها مرارًا وتكرارًا، معنى ذلك أنه عند نقطة التشبع فإن المزيد من التطور لن يُنتج المزيد من التبايُن المورفولوجي”.
ويسترسل “بروكليهورست” في شرح فكرته: “إذا استطعت تحديد نقطة التشبُّع تلك فستكون قد استطعت تحديد النقطة التي يتم فيها تقييد المجموعة من التنوع وإظهار خصائص جديدة”، يقول “بروكليهورست”: “تستطيع إظهار ما إذا كانت إحدى المجموعات أكثر تقييدًا أو أقل من مجموعة أخرى”، وعن هذه الطريقة يعلق مات بورثز: “تمكن الباحثون في دراستهم من إثبات أن الثدييات في عصر الديناصورات لم تكن متنوعةً بالفعل مثل مجموعات أشباه الثدييات المنقرضة الآن، وهو اتجاه استمر حتى بضعة ملايين من السنين بعد انقراض الديناصورات، وبالنظر إلى قاعدة البيانات المستخدمة في الدراسة، فإن استنتاجاتهم منطقية”.
مَن الفاعل الديناصورات أم أشباه الثدييات؟
يقول “بورثز”: “لا شك في أن للديناصورات تأثيرًا كبيرًا على كبح جماح تطوُّر الثدييات، لكن هذا لا يمنع الدور الذي أدته الثدييات الأخرى أو أشباه الثدييات من بني جنسها، فمن الواضح وفقًا للدراسة الحالية أن الصراع كان محتدمًا داخل شجرة حياة الثدييات خلال حقب الحياة المتوسطة، واستمر هذا الصراع بضعة ملايين من السنين بعد انقراض الديناصورات”.
لكن من الصعب نفي التهمة تمامًا عن الديناصورات كما قال “بورثز”، الذي يضيف مفسرًا ذلك: “ما زلنا لا نعرف الكثير عن صغار الديناصورات”، موضحًا أنه “كما يشير مؤلفو الدراسة، لا يوجد الكثير من التداخل بين أصغر الديناصورات البالغة ومعظم الثدييات في حقب الحياة المتوسطة، ولكن أصغر الديناصورات البالغة بدأ كطفل صغير جدًّا، وتتقارب هذه الديناصورات الصغيرة في حجم الجسم مع الثدييات، وقد تكون بحاجة إلى طعام مماثل”.
ويمثل “بورثز” ما حدث خلال فترة الديناصورات بسيناريو نعيشه الآن: “نحن نعلم أن الديناصورات تضع الكثير من البيض في وقتٍ واحد، لذلك كانت النظم البيئية في حقبة الحياة المتوسطة تعج بالكثير من الديناصورات الصغيرة، ونعلم أيضًا أن الديناصورات الحديثة (الطيور) تقضي الكثير من الوقت مع صغارها بينما تنتظر اكتمال أجنحتها، لكن لم يكن للعديد من الديناصورات من حقبة الحياة المتوسطة أجنحة، لذلك ربما تصرفوا مثل آباء التماسيح الذين يعتنون بصغارهم لفترة زمنية أقصر، ثم يذهب الصغار ليقتاتوا بمفردهم، مثل السلاحف البحرية الحديثة أو السحالي، وهنا يحدث الصراع بينهم وبين أمثالهم في الحجم من الكائنات الأخرى”.
ويرى”بروكليهورست” أن “الأمر ليس بالأبيض والأسود، فهناك نطاق واسع يشمل عوامل عديدة تؤثر على القيود المفروضة على (ثيريانز) في حقب الحياة المتوسطة، وقد تكون الديناصورات أحد هذه العوامل”.
ويفضل “بروكليهورست” القول بأن “النتائج تشير إلى أن الديناصورات لم تكن العائق الرئيسي أمام تطور الثدييات، كما كان يُفترض عمومًا؛ لأن هناك حقائق لا يمكن تجاهُلها الآن، فحقيقة أن الثيريانز كانت أكثر تقييدًا من أشباه الثدييات في حقب الحياة المتوسطة يدعو إلى التساؤل: لماذا تلتقط الديناصورات الثيريانز فقط تاركةً أشباه الثدييات تتمتع بنظم بيئية وطرق معيشة مختلفة، وحقيقة أن أجداد الثدييات أصغر بكثير من الديناصورات، لذا من غير المحتمل أن تتنافس مع الديناصورات، وحقيقة أخرى أن الثدييات لم تتحرر من قيودها بعد انقراض الديناصورات مباشرة، ولكن بعدها بعدة ملايين من السنين بعد انقراض أقربائها أشباه الثدييات، كل هذه الحقائق تشير إلى أن المحرك الرئيسي لتقييد الثدييات لم يكن الديناصورات”.
أشباه الثدييات يد خفية وراء تقييد الثدييات
إثر هذه النتائج المدعمة بالطرق الإحصائية، فإن لأشباه الثدييات دورًا محوريًّا في منع الثدييات الأخرى من العيش بحُريّة خلال فترة الديناصورات، وأيضًا بعد انقراض الديناصورات بملايين السنين، ولم تستطع الثدييات أن تلتقط أنفاسها وتحيا وتزدهر إلا بعد انقراض أقرب أقربائها من أشباه الثدييات.
يقول “بورثز”: “ما يمكننا قوله من مجموعة البيانات هذه هو أن الثدييات الأخرى كان لها تأثير كبير على تنوع المجموعة التي أدت في النهاية إلى ظهورنا (الثدييات المشيمية) والكانجارو (الثدييات الجرابية)، واستمر هذا التأثير بضعة ملايين من السنين بعد انقراض الديناصورات”، يتطلع “بورثز” إلى المزيد من الدراسات المستقبلية التي توسِّع مجموعة البيانات المقارنة وتُستخدم هذه الأساليب لفحص تنوُّع الثدييات خلال عصر الديناصورات وبعده، وتفسير النتائج بشكل أفضل.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: صعود الديناصورات تزامن مع تغيُّرات مناخية ناجمة عن نشاط بركاني