في محاولة لفهم وتوضيح التاريخ التطوّري المبكر للأحافير المكتشفة لحشرة الزيز، أجرى الدكتور جيانغ هوي، بإشراف الأساتذة وانغ بو وتشانغ هايتشون من معهد نانجينغ لعلم الجيولوجيا والأحافير التابع للأكاديمية الصينية للعلوم (إن آي جي بّي إيه إس)، وبالتعاون مع باحثين آخرين، دراسة مشتركة على حشرة الزيز، لتوضيح العلاقات التطوّرية بين أحافير حقبة الحياة الوسطى (الميزوزوي) والأنواع الحالية لحشرة الزيز، والتطور الكبير لتكيفات بنية الجسم وعلاقتها بالتغيرات البيئية.
نُشرت نتائج هذا البحث العلمي في دورية نيتشر كوميونيكيشنز.
تميّزت حشرات الزيز، المُشار إليها في هذا المقال بِ «فوق فصيلة السيكادويديا»، بتطوّر نظام فريد لإنتاج الصوت لديها، الأمر الذي ساهم في شهرتها، فضلًا عن عاداتها الاستثنائية في العيش لفترات طويلة في جوف الأرض، بالإضافة إلى رمزيّتها، واستخداماتها البحثية واسعة النطاق في الثقافة والحياة والعلوم. تضم فصيلة السيكادويديا الحالية عائلتين رئيسيتين: سيكاديداي المنتشرة عالميًا، والتي تُعرف باسم حشرة الزيز الحقيقية/المغرّدة، وفصيلة تيتيجاركتيدي المحدودة التي توجد فقط في أستراليا وتُعرف بالعامية باسم الزيز المُشعرة.
تعود أقدم أحفورة مكتشفة حتى الآن لحشرة الزيز إلى العصر الترياسي. لطالما صُنّفت جميع أحافير الزيزيات من حقبة الحياة الوسطى (منذ نحو 252 إلى 66 مليون سنة) إلى سلالَتيّ سيكاديداي والتيتيجاركتيدات، بناءً على عدد قليل من السمات الشكليّة المميزة والمحافظة. قد يؤدي هذا التصنيف المباشر لأحافير الحياة الوسطى إلى إغفال أهمية السمات الانتقالية والفريدة التي توفرها هذه الأحافير في تتبّع مسارات تطورها المبكر.
في هذه الدراسة، أجرى الباحثون للمرة الأولى تحليلًا وفحصًا تطوّريًا لمجموعات الزيز الأحفورية، وأنواعها الحالية، وتوصلوا إلى أن أحافير الزيز في حقبة الحياة الوسطى تتضمّن سلالات من الزيز الحقيقي سيكاديداي والتيتيجاركتيدات، بالإضافة لسلالات من فصيلة زيز غير مصنّفة. كشف الباحثون أيضًا أن بعض أحافير حقبة الحياة الوسطى التي سبق تصنيفها ضمن سلالة الزيز المُشعرة، قد تكون أقرب صلة من ناحية النشوء والتطوّر إلى الزيز الحقيقي الحديث. من المرجح أن يكون انفصال سلالة الزيز الحقيقية عن سلالة الزيز المُشعرة قد حدث في منتصف العصر الجوراسي أو قبله. تجدر الإشارة إلى أن تصنيف أحافير الحشرات يعتمد غالبًا على السمات الشكليّة الجزئية المحفوظة، وذلك بسبب المشاكل المتعلّقة في الحفاظ على الأحافير كاملة.
أجرى الباحثون تحليلًا شكليًا للتركيبات الجزئية للحشرات البالغة واليرقات، مثل الأجنحة وأجزاء الجسم غير المجنحة وأرجل اليرقات، وذلك لمقارنة التغييرات الشكليّة المستمرة الدقيقة مع نتائج التصنيف والتطور، وكشفت الدراسة أن التركيبات المتماثلة المتخصصة في أحافير الحشرات قد تحتوي على تباين انتقالي قابل للتحديد وتم تجاهله سابقًا.
يوفّر التدقيق المتعمّق لهذه التغيرات الشكلية المتواصلة فهمًا أكثر دقة لتأثير التغيرات المكانية والزمانية على تطور الشكل الخارجي، ويساعد على توضيح أنماط التطور الكِبروي. على سبيل المثال، قد تعكس التغيرات في الرأس والشفة تكيّفات المقاومة الناجمة عن التحديات التي تواجهها في الوصول إلى طعامها، بسبب تغيرات النباتات المضيفة. بالإضافة إلى ذلك، قد تشير التغيرات في الجزء الظهري من الصدر وتغيّرات عروق الأجنحة وتخطيطها إلى تطور عضلات الطيران والقدرات المرتبطة بها. يمكن أيضًا تحديد التغيرات في الرأس والصدر ومقارنتها بصورة كمية.
يُعدّ إنتاج الصوت أسلوب تواصل هام لدى العديد من الحيوانات، وتمتاز حشرات الزيز المغرّدة بقدرتها على إصدار أعلى الأصوات بين الحشرات، مُحققةً ما يقارب 120 ديسيبل من خلال استخدام آليات شبيهة بالصنج. في حين تُفضّل حشرات الزيز المُشعرة التواصل عبر إشارات اهتزازية أكثر دقة تُنقل عبر الركيزة، وتفتقر إلى القدرة على إصدار أصوات عالية. تثير آليات إنتاج الصوت المختلفة بين سُلالَتي الزيز الفضول حول التطور الأولي لبنيتها وسلوكياتها الصوتية.
تمّ التعرف على وجود الأعضاء الصناجة في جميع المجموعات الرئيسية للزيز في حقبة الحياة الوسطى، وذلك من خلال عيّنات الأحافير المحفوظة لكل من الذكور والإناث. هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها التعرف على بُنية الصنج في أحافير الزيز، مما يثبت وجود طريقة التواصل هذه في السجل الأحفوري. لكن تفتقر غالبية الأحافير السليمة نسبيًا إلى العناصر اللازمة لإنتاج الصوت المُعقد وأنظمة السمع، مما يشير إلى أن حشرة الزيز، في منتصف العصر الطباشيري، ربما قد اعتمدت على الاهتزازات المنقولة عبر الركيزة للتواصل، بدلاً من إنتاج أو إدراك الأصوات ذات الديسيبل العالي.
علاوة على ذلك، تشير حالات اكتشاف عضلات الصناجة، وتجويف البطن في الأحافير، جنبًا إلى جنب مع القصبات الهوائية المحفوظة وعضلات الطيران وجهاز النبيبات الملبيغي، إلى إحتمالية وجود تجويف بطني متأصل وقدرات رنينية مشابهة لتلك الموجودة في بطون حشرات الزيز المغرّدة الحديثة.
بناءً عليه، اقترح الباحثون فرضية أخرى: قد تكون بعض مجموعات الزيز المغرّدة من منتصف العصر الطباشيري قد أصدرت أصواتًا أعلى من الاهتزازات المنتقلة عبر الركيزة. وعلى أي حال، بالمقارنة مع حشرات الزيز المغرّدة الحديثة، ربما كانت أنواع سيكاديداي صامتة نسبيًا خلال معظم حقبة الحياة الوسطى.
أفاد الباحثون أيضًا باكتشاف أقدم أحفورة معروفة ليرقة الزيز، وقشور منسلخة من فصيلة حشرات الزيز في كهرمان كاشين العائد إلى منتصف العصر الطباشيري. تشير أرجل الحفر الأمامية القوية بشكل ملحوظ في هذه اليرقات المتحجرة، على غرار نظيرتها في حشرات الزيز الحديثة، إلى سلوكيات مشابهة وقدرات هائلة على الحفر ونقل التربة والعيش تحت الأرض. تظهر أحافير الزيز في طور اليرقات والبالغات مناطق بيئية متميزة واستراتيجيات بقاء مختلفة، مع تحوّل ملحوظ من تغذية الجذور تحت الأرض إلى تغذية الجذع فوق الأرض.
مع أن الأدلة على تغذية الجذور في الأحافير نادرة، إلا أن وجود حفريات ليرقات الزيز بأرجل متخصصة بالحفر يشير إلى هذا السلوك. يُفترض أنَّ نمط الحياة في جوف الأرض هذا قد وفّر ميزة للبقاء، ما سمح ليرقات الزيز بقضاء فترات طويلة تحت الأرض.
درس الباحثون أيضًا ظاهرة التغذية على الجذور لدى مفصليات الأرجل في السجل الأحفوري. نظرًا لوجود أحافير يرقات الزيز والزيز البالغ من كهرمان كاشين، وكثرة أحافير الزيز البالغ من رواسب داوهوجو من العصر الجوراسي المتوسط، فمن الواضح أن الزيز في منتصف العصر الطباشيري أظهر تخصصات مميزة في مراحل الحياة، وسهّلت نقل الكتلة الحيوية من جوف الأرض إلى سطحها، وأثر على النظم البيئية بطريقة مشابهة لنظيراتها الحديثة.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org