التعاون مع الغرباء لم يكن يومًا حكرًا على البشر
هل سبقنا البونوبو إلى هذا سلوك الاجتماعي الفريد؟
يمكن أن يساعد هذا السلوك في فهم كيفية تطور التعاون بين البشر
يُعرف البشر بقدرتهم على التعاون ومشاركة الموارد مع أفراد من مجموعات اجتماعية مختلفة دون أن تربطهم صلة قرابة، غالبًا ما يفعل البشر ذلك دون انتظار مكافأة فورية أو تبادل أي منفعة مباشرة. لطالما اعتُبِر هذا السلوك سِمة مميزة للبشرية. مع ذلك، تمكنت دراسة حديثة من كسر هذه القاعدة، باكتشافها إمكانية ممارسة بعض حيوانات البونوبو لهذا السلوك الاجتماعي أيضًا.
يُعتقد أن هذا النوع من التعاون هو أساس بناء الحضارة الإنسانية. لذا، قد تسلط قدرة البونوبو على تكوين الروابط والتعاون مع مجموعات غير مرتبطة بها عبر حدود الجماعات، حتى في غياب أية مكاسب فورية، الضوء على أنواع الظروف التطورية التي أدت إلى تطور المجتمعات البشرية واسعة النطاق، وفقًا لما ذكره الباحثون في دورية «ساينس» بتاريخ 16 نوفمبر/ تشرين الثاني.
يعيش كل من الشمبانزي (البونوباليس) والبونوبو (بان تروغلوديتس) في مجموعات اجتماعية تضم أفرادًا قد لا تربطهم صلة قرابة قوية. لكن، وبالمقارنة مع الشمبانزي الذي يُعرف بطبيعته الإقليمية والعدوانية؛ يتمتع البونوبو بسلوك أكثر تسامحًا وتساهلًا تجاه المجموعات الأخرى. في بعض الأحيان، يرعى البونوبو أفرادًا لا تربطه بهم صلة قرابة وينحدرون من مجموعات اجتماعية أخرى ويتبادل الطعام معهم، علاوة على ذلك، وُثِّقَت حالات لتبني حيوانات البونوبو لصغار من خارج مجموعتهم وفقًا لِ (ساينس نيوز: 18.03.2021). لكن لا يزال مدى سلوك التعاون لدى هذه الأنواع غير واضح تمامًا.
درس عالِما السلوك البيئي، ليران ساموني من المركز الألماني لدراسة القردة في جوتنغن ومارتن سوربيك من جامعة هارفارد، مجموعتين من البونوبو في محمية كوكولوبوري في الكونغو، وخلال فترة تزيد عن عامين، سجل الفريق التفاعلات بين البونوبو، مثل تبادل خدمات الرعاية والتنظيف ومشاركة الطعام وحددوا أوقات هذه التفاعلات.
بينما تعيش البونوبو حياة مسالمة نسبيًا، لا يخلو عالمهم من الصراعات والتنافس. لذا، لاحظ الباحثون أيضًا حالات تشكيل تحالفات بين أفراد من المجموعتين ضد قرد ثالث، تعاونا فيما بينهم للهجوم عليه.
تلاقت المجموعتان ببعضهما البعض مِرارًا، وبلغ عدد تفاعلاتهما نحو 100 مرة خلال فترة الدراسة، وأمضى أفراد المجموعتين ما نسبته 20% من إجمالي فترة المراقبة، التي امتدت لعامين كاملين، بصحبة بعضهما البعض. استمرت بعض اللقاءات لساعة واحدة فقط، بينما امتدت أخرى لأسابيع متعددة، ما أتاح الفرصة لتوطيد علاقات أكثر متانة على المدى الطويل.
لم تقتصر التفاعلات بين مجموعتي البونوبو على تواجدهما معًا فحسب، بل شهدت أيضًا العديد من مظاهر التعاون. فمن بين أكثر من 3700 حالة عناية متبادلة، وثّق العلماء 10% منها حصلت بين أفراد من مجموعات اجتماعية مختلفة. ومن بين جميع التحالفات التي تشكّلت لمهاجمة فرد ثالث، كان ما نسبته 15% منها بين أفراد بونوبو من مجموعات مختلفة.
تقول عالمة السلوك البيئي ساموني: «هذا ليس مجرد تصرف عرضي نادر الحدوث، ففي محميّة كوكولوبوري مثلًا، حدثت 6٪ من جميع عمليات تبادل الطعام بين البونوبو بين أفراد ينتمون لمجموعات مختلفة».
لم يكن التعاون بين مجموعتي البونوبو عشوائيًا، إذ لاحظ الباحثون أن الأفراد الذين اعتادوا على التعاون داخل مجموعتهم كانوا أكثر ميلًا للتفاعل مع أفراد ينتمون لمجموعات أخرى ويتمتعون بنفس السلوك التعاوني. يبدو، وحسب اعتقاد القائمين على الدراسة، أن هذا التعاون لا يعتمد فقط على توقع المكافأة الفورية، فعلى سبيل المثال، لم يحصل سوى 14٪ من البونوبو الذين تقاسموا الطعام مع فرد من مجموعة مغايرة في هذه الدراسة على رد مماثل.
إجمالاً، تستند نتائج الدراسة إلى أدلة تُظهر أن حيوانات البونوبو المأسورة تتصرف بصورة مشابهة أيضًا، وتشير إلى احتمالية أن التعاون مع غير الأقارب عبر المجموعات الاجتماعية متأصل في النوع. يميل العديد من الحيوانات إلى تقديم المساعدة والتعاون مع الأقارب، لأن مثل هذا السلوك يشجع بقاء وانتشار جيناتها الخاصة، وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة. عندما تساعد غير الأقارب، تكون الفائدة التطورية غير مباشرة أكثر، ولا تتطور بسهولة.
خلال عامين من المراقبة في كوكولوبوري، اعتنى أعضاء مجموعتين غير مرتبطتين من البونوبو ببعضهم البعض ونظفوا بعضهم بشكل متكرر، وشاركوا الطعام، وكونوا تحالفات بين المجموعات.
لا تقتصر سلوكيات التعاون على البونوبو وحدهم من بين الحيوانات غير البشرية. فعلى سبيل المثال، يتعاون ذكور الدلافين مع ذكور أخرى لا تربط بينهم صلة بهدف حماية الإناث، الأمر الذي يزيد من فرصهم الخاصة بالتزاوج. ولكن، على عكس الكثير من التعاون الذي لوحظ لدى البونوبو في الدراسة الجديدة، فإن سلوك الدلافين يرتبط بفائدة واضحة وموجهة نحو الذات.
تشير الدكتورة ساموني إلى أن تقاسم الطعام بين الأفراد غير المرتبطين ببعضهم البعض يعد سلوكًا نادرًا نسبيًا. ويُعد كل من الخفافيش مصاصة الدماء وحيوانات البونوبو والبشر، من بين الأنواع القليلة المعروفة بممارسة هذا السلوك. يضيف الدكتور سوربيك: «يفعل الشمبانزي ذلك أيضًا ، لكن ممارساه تقتصر على تقاسم الطعام داخل مجموعته الاجتماعية فقط». أما فيما يتعلّق بسياق تطور الإنسان، تضيف الدكتورة ساموني قائلة: «يُنظر إلى تقاسم الطعام على أنه أحد السلوكيات التي دعمت مجتمعاتنا، وسمحت لنا بإعالة بعضنا البعض في حالات نقص الغذاء».
وفقًا لتصريحات شينيا ياماموتو، عالِم النفس الاجتماعي المقارن في جامعة كيوتو في اليابان: «سلوك أفراد نوعنا البشري هو ما يجعل النتيجة الجديدة مثيرة للاهتمام بشكل خاص».
يضيف ياماموتو: «نتنافس نحن البشر أحيانًا أو نتقاتل مع مجموعات مجاورة، ولكن في أحيان أخرى نتعاون حتى مع أفراد من خارج مجموعتنا». يعد العثور على أمثلة على العدوانية والتنافس سهلًا أكثر بين أقاربنا من الرئيسيات، خاصة فيما يتعلق بأقرب أقرباء الإنسان، الشمبانزي. مع ذلك، تظل الأصول التطورية للجانب التعاوني عند البشر غير واضحة.
يشترك البشر مع الشمبانزي والبونوبو بدرجة متكافئة من القرابة التطورية، إلا أن البحث الجديد لا يقدم إجابة قاطعة بشأن ما إذا كان أسلاف البشر الأوائل أكثر شبهًا بالشمبانزي التي تتميز بمناطق نفوذ محددة عالميًا والمحصنّة بصرامة بمجموعات قاتلة، أو البونوبو الأكثر تساهلًا وتسامحًا (ساينس نيوز: 17.09.2014). لكن الباحث سوربيك يرى أن هذا الاكتشاف قد يفتح الباب أمام فهمٍ أعمق للظروف التي أدت إلى تطور أي من هذين النمطين السلوكيين المتباينين لدى أسلافنا.
ويتساءل سوربيك: «في ظل أي ظروف نشهد فيها هذا التعاون؟ وفي ظل أي ظروف نشهد نمطًا أكثر شبهًا بالشمبانزي، في علاقات عدائية دائمة بين المجموعات؟ وما الذي يرجح كفة أحد هذين النمطين على الآخر؟».
تقول ساموني: «يقترح الاكتشاف أيضًا إمكانية حدوث تعاون مكثف وطويل الأمد بين المجموعات دون تأثير ثقافي قوي أو معايير اجتماعية صارمة. في حالة البشر، لطالما اعتُبرت هذه العوامل ضرورية لبناء التعاون بين المجموعات والحفاظ عليه».
وتضيف: «نحن نعرض نظامًا بسيطًا للغاية، ومع ذلك نراه يظهر بطريقة تشبه إلى حد كبير ما يحدث لدى البشر».
يقول ياماموتو: «من المرجح أن يكون هناك عنصر ثقافي يلعب دورًا في هذا الاختلاف بين مجموعتي البونوبو. فمن المحتمل أن تكون بعض مجموعات البونوبو قد اكتسبت، على مدى أجيالٍ، ميلًا خاصًا لتكون أكثر تواصلًا اجتماعيًا، على نحو مشابه لتشكّل عناصر الثقافة البشرية.
ووفقًا لياماموتو: «ركزت هذه الدراسة على مجموعتين فقط من البونوبو في البرية، ومن المعروف أن مجموعات أخرى من البونوبو تظهر معدلات تفاعل متنوعة مع مجموعات أخرى،. لذلك، فإن دراسة المزيد من هذه القردة العليا قد تكشف عن شيء مماثل للمعايير الاجتماعية لدى البشر».
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: sciencenews