عندما خط راي ديفيس من فرقة الكينكس للروك لحن أغنية «اخر القاطرات البخارية» رمزت هذه لحنينٍ إلى حياة إنكليزية أكثر بساطةً. ولكن بالنسبة لعالم إحاثيات من جامعة كنساس، استبدال القاطرات البخارية بمحركات الديزل والكهرباء وكذلك بالنسبة للسيارات والشاحنات قد يساعد في تشكيل نموذجاً يساعدنا على فهم كيفية انقراض بعض الأجناس في السجل الأحفوري.
سعى بروس ليبرمان – أستاذ علوم البيئة والبيولوجيا التطورية وكبير أمناء قسم الإحاثيات اللافقارية في معهد التنوع البيولوجي ومتحف التاريخ الطبيعي التابعين لجامعة كنساس – إلى استعمال تاريخ محرك البخار لاختبار فوائد «الإقصاء التنافسي» وهي فكرة سائدة في علم الإحاثة تقول بتسبب بعض الأجناس بانقراض بعضها الأخر بالتنافس.
وجد ليبرمان، بالتعاون مع باحث ما بعد الدكتوراه السابق في جامعة كنساس لوك ستروتز (والمدرس حالياً في جامعة الشمال الغربي في شيان في الصين)، بأن السجل الأحفوري يفتقر بدرجة كبيرة إلى معطيات مفصلة تؤيد الإقصاء التنافسي في تاريخ المحرك البخاري. إذ يقول، «من الصعب العثور على أي دليل عن لعب التنافس أي دور أساسي في التطور».
نشر الباحثان نتائج بحثهما في ورقة معنونة «نهاية السكة: الإقصاء التنافسي وانقراض الكيانات التاريخية» وذلك في مجلةRoyal Society Open Science .
يضيف ليبرمان، «طالما ساد الاعتقاد المتحيز في الأوساط العلمية بأن التنافس هو قوة أساسية تقود التطور وبأن له الدور الأكبر في عملية الانقراض. وهي فكرة مستمدة من مجالات بحثية متعددة، بما فيها السجل الأحفوري. إلا أنه علينا، كعلماء إحاثة، الغوص عميقاً في المعطيات المتوفرة وتحليلها».
فكيف يمكن أن يبدو «السجل الأحفوري» للقاطرات البخارية؟ اكتشف الباحثان كنز معطيات عن المحركات البخارية، بما فيها تلك الخاصة باندثارها في لوكوبيس (وهي قاعدة بيانات عن القاطرات البخارية التي جمعها ويشرف عليها ستيف لانزو، والمتاحة على steamlocomotive.com، وهو موقع يديره وس باريس).
يقول ليبرمان، «طالما سحرتني المحركات البخارية كونها المعادل التقني للديناصورات. فهي ضخمة الحجم. نفترض بأن الديناصورات سببت الكثير من الضجيج، ونحن نعرف بأن هذه كانت حال القطارات البخارية المندثرة».
وجد ليبرمان وستروتز في قاعدة بيانات القطارات نمط البراهين التي يحتاجها علماء الإحاثة لاستنتاج أن اندثار بعض الأجناس يعود للإقصاء التنافسي أو للتنافس المباشر مع غيرها من الأجناس.
يقول ليبرمان، «حاولنا إيجاد نموذج من التكنلوجيا يساعدنا على القول بأننا عثرنا على دليل جيد عن الدور الحاسم للتنافس. نعرف متى ظهرت تقانات معينة، مثل الإنتاج الواسع للسيارات ولقطارات الديزل، وهي حالة قد تساعدنا على معاينة ما حدث نتيجةً للتنافس. دعونا إذاً مراجعة السجل الأحفوري ومحاولة إستعمال هذه التكنولوجيا كمثال عما علينا إيجاده فيما لو رغبنا حقاُ بإظهار بأنه كان للتنافس دور في الانقراض».
نظر باحثا جامعة كنساس إلى تاريخ الحقبة السابقة لتعرض قطارات المحرك البخاري للمنافسة من التكنولوجيا الناشئة التي قامت بأداء المهام ذاتها التي قامت بها تلك القطارات. ركزا الباحثان على فائض جهد الجر الناتج عن محركات البخار مقارنة مع المحركات الجديدة التي ستستبدلها لاحقاً.
يقول ليبرمان، «تبدأ بملاحظة هذه التحديات التنافسية الجديدة للقاطرات البخارية. فهناك أولاً كهربة المحركات في ثمانينات القرن التاسع عشر ومن ثم تطوير السيارة. فلم يعد فعالاً لسكك الحديد إستخدام قاطرات بخارية للجر. تتحول بعدها هذه إلى مزيد من التخصص ولا يمكنها النمو إلا في نطاق أو بضعة نطاقات، حيث تقوم بجر أشياء ثقيلة ربما لمسافات أطول».
وجد الباحثان في التخلص التدريجي من القاطرات البخارية دليلاً على «استجابة اتجاهية مباشرة لأول ظهور لمنافس مباشر، قاد بعدها ظهور منافسين لاحقين إلى تقليص النطاق الذي اختصت به القاطرات البخارية، وصولاً إلى المآل المحتوم – الانقراض».
إلا أن الدراسة وجدت بأنه يمكن ربط الانقراض مباشرة بالتنافس بين الأجناس في ظل ظروف محددة فقط، «عندما يكون تداخل نطاق التخصص بين لاعب حالي ومنافسيه شبه مطلق وعندما يستحيل على السابق التحول إلى منطقة تكيف جديدة».
كيف لهذا أن يتجلى في العالم الطبيعي؟ يذكر ليبرمان ثلاثة أمثلة عن اعتقاد علماء الإحاثة بتسبب التنافس المباشر بين الأجناس بانقراض بعض المنافسين. دُحضت في بعض الحالات الفكرة القائلة بدورٍ للإقصاء التنافسي. وفي حالات أخرى، لا يرقى البرهان على الإقصاء التنافسي أبداً إلى دقة المعطيات المتوفرة عن اندثار المحركات البخارية.
أضاف، «أحد الأمثلة يتعلق بالثديات والديناصورات غير الطائرة، حيث يقول المنظور التقليدي بأن الأولى، بحكم تفوقها ذكاءً وسرعةً، قادت الثانية إلى الانقراض. ألا أننا نعرف الآن بأن مسبب هذا الضرر البيئي الهائل كان حجراً ضخماً سقط من السماء، والأشياء الأضخم حجماً هي أكثر عرضةً لهذا الضرر. المثال الثاني الشهير يتعلق بالمفصليات ثلاثية الفصوص والقشريات، والمثال الأخير يرتبط بالزلفيات وعضديات الأرجل».
يقول باحث جامعة كنساس بأن المعطيات الخاصة بالقاطرات البخارية تلقي ظلالاً من الشك على المفهوم القائل بأن القدرة على التكيف لدى جنس ما هي سمة للنجاح التطوري. على خلاف هذا، تعزز الدراسة من الدليل القائل بأن الأجناس تتأقلم مع أدوار وبيئات جديدة من باب اليأس.
فيقول ليبرمان، «للفترة التي غاب فيها منافسو تقنية القاطرات البخارية، نجدها تتبدد وتتنوع من دون أية جهة محددة».
ويضيف، «ولكن مع بروز القاطرات الجديدة، نلاحظ تحولاً عميقاً لانتقاء طبيعي نشط وتأقلم من قبل القاطرة البخارية. غالباً ما يٌظن بأن التكيف هو سمة جيدة للمجموعات، إلا أننا نحاجج بأن التكيف والتحول الاتجاهي ليسا تقليدياً بالأمر التطوري الجيد للمجموعات. لا بل نقول بأنها علامة بأن المجموعة قد تكون عرضة للقسر والضغوط من أشياء أخرى».
يقول ليبرمان بأن الفهم الأفضل لمسببات وظروف وتواتر الإقصاء التنافسي قد يمكن من التنبؤ بهوية الأجناس المعرضة للانقراض في السنوات القادمة في ظل التغير المناخي المحفز بشرياً وتأثيره على مواطن الأجناس حول العالم، سواء عن طريق التغيير أو التقليص.
يقول ليبرمان، «ما أردناه ليس الرجوع إلى الماضي فحسب بل القدرة على التنبؤ بالتنافس. هل يمكننا النظر إلى مجموعات محددة موجودة حالياً لبناء تنبؤات مستقبلية والقول بأن هذه المجموعات تظهر إشارات بأنها في دائرة الخطر بالفعل؟ إن جاز هذا، أمكننا التنبؤ إن كانت آيلة للانقراض أم لا».
ترجمة: حاتم زيداني
المصدر: phys.org