كانت الشمس ساطعةً صبيحة ذلك اليوم الصيفي القائظ، تُلقي بأشعتها الحارقة على أدمغة فريق ميداني مُكون من 30 باحثًا وعالِمًا من جنسيات مختلفة، جاءوا لتلك البقعة الصحراوية القاحلة بمنتصف المملكة العربية السعودية. ووسط سيلِ من عَرَق، تجمعوا فوق مساحة لا تزيد عن 10 أمتار مُربعة، عثروا فيها على ما يُشبه أصبعًا بشرية، وبفرشاة مُخصصة لإزالة الرمال، أزاح رئيس الفريق الأتربة عن “العظمة الكنز”، وبعناية فائقة، قام بتغلفيها، ووضع عليها رقمًا كوديًّا خاصًّا تمهيدًا لفحصها.
الزمان، السنة الثامنة عشرة في الألفية الثالثة، أما المكان فهو صحراء النفود Nefud، الواقعة في قلب المملكة السعودية، والتي تترامى أطرافها لتصل إلى حدود الأردن والعراق والشام، تُعرف تلك الصحراء بجفافها الشديد، لكن؛ وقبل 90 ألف عام من الآن، كان الحال غير الحال.
فقد قالت دراسة بحثية نُشرت اليوم في مجلة “نيتشر إيكولوجي آند إيفولوشن”، إن الإنسان العاقل استوطن تلك البقعة قبل نحو 85 ألف سنة، بعد أن عثر باحثون على عظام من أصبع واحدة، لها الصفات التشريحية ذاتها لأصابعنا نحن البشر.
ووفق الدراسة، لم تكن صحراء النفود السعودية في ذلك التوقيت كما هو حالها الآن، بل كانت عبارة عن واحة وارفة، تحدها بحيرة شاسعة من المياه العذبة، عزَّزت وجود الإنسان الحديث، وأمدته بالظروف المواتية للحياة.
نقطة مرجعية جديدة
ويُعد ذلك الاكتشاف هو الأول من نوعه الذي يُشير إلى وجود الإنسان العاقل (الأول) في الجزيرة العربية قبل نحو 85 ألف سنة.
ويمثل الاكتشاف نقطة مهمة في تتبُّع المسارات الجغرافية التي سلكها البشر الأوائل، ما يُمثل نقطةً مرجعيةً جديدةً لمراحل الانتشار السكاني للإنسان العاقل في العالم أجمع.
ونفَّذ البحث فريق علمي مُتعدد الجنسيات، يشمل باحثين من معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية والهيئة السعودية للسياحة والتراث الوطني وهيئة المساحة الجيولوجية السعودية، علاوةً على جامعة الملك سعود ومتحف التاريخ الطبيعي بالولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى جامعة أكسفورد وعدد آخر من المؤسسات العلمية الدولية.
بدأت عمليات التنقيب عن الحفريات قبل 6 سنوات، حين دعت الهيئة العامة للسياحة والآثار بالمملكة العربية السعودية الباحثين من كل أنحاء العالم للقدوم إلى المملكة والمساعدة في اكتشاف الحفريات الموجودة في صحراء النفود، بعد أن أشارت الدراسات العلمية إلى أن شبه الجزيرة العربية كانت عبارة عن شبكة متقاطعة من الأنهار في الماضي، إذ وصل عدد البحيرات فيها إلى أكثر من 10 آلاف بحيرة، ما يدل على أن البشر الأوائل، وخصوصًا نوعنا المعروف بالهومو سابينس –الإنسان الحديث- (Homo Sapiens) هاجروا إلى تلك المنطقة خلال الفترات الممطرة، حين كانت هناك مراعٍ وفيرة، وحيوانات كثيرة.
وبالفعل؛ تمكنت الفرق البحثية المختلفة من الكشف عن مجموعة من الأحافير تُشير إلى وجود أفيال وأفراس نهر ومها وحيوانات آكلة للحوم في تلك المنطقة، إلا أن “الكأس المقدسة” –المتعلقة باكتشاف آثار لإنسان عاقل- ظلت عصيةً على المنال.
وفي مطلع 2016، أعلن رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار السعودية “علي الغبان” اكتشاف أقدم عظام بشرية في المملكة، بعد أن تمكَّن الفريق البحثي من إيجاد بقايا الأصبع البشرية، وأشار “علي” في مقابلة صحفية متلفزة مع قناة سكاي نيوز إلى أن تلك العظام قد يعود تاريخها إلى نحو 90 ألف سنة.
“بمجرد العثور على الأصبع بدأنا عمليات الفحص”، يقول “مايكل بيتراجيليا”، من قسم علوم الإنسان بمعهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية في ليبزيج بألمانيا، والباحث المُشارك في الدراسة، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن عملية فحص الأصبع استغرقت شهورًا لحين التأكد من كونها تخص الإنسان الحديث، ثم استغرقت الدراسة نحو عام ونصف العام لتراجع نتائجها وتُصبح جاهزةً للنشر العلمي.
استخدم الفريق البحثي تقنيات التحليل المورفولوجي القائم على تكنولوجيا التصوير المقطعي المحوسب Micro-CT لبناء نموذج ثلاثي الأبعاد لعظمة الأصبع التي عُثر عليها، ثم قاموا بمقارنة النموذج مع عدد من العينات التى عُثر عليها في أوقات سابقة لبقايا إنسان حديث في أماكن مختلفة من العالم، ليتأكدوا من كونها تنتمي لإنسان حديث عاش في ذلك الموقع قبل آلاف السنوات.
ولتحديد عمر العظمة، قام الخبراء بحفر عدد من الثقوب في العينة بقطر 460 ميكروميترًا، باستخدام إحدى التقنيات الليزرية، لإجراء فحوصات النظائر وحساب متوسطات أعمارها، ليجدوا أن عمرها يرجع لنحو 85 ألف سنة.
عام فارق
كان عام 1974 فارقًا في علوم الحفريات، حين عثر الباحثان “دون جوهانسون” و”موريس تايب” على هيكلٍ عظميٍّ غير كامل لمخلوق معروف باسم “لوسي” عاش قبل 3.6 ملايين سنة في منطقة عفار الإثيوبية. جسم لوسي كان مؤهلاً بدرجة كافية للسير على قدمين، أما أصابعها فكانت أطول من أصابعنا وأصغر من أصابع الغوريلا، وكانت عظام الفخذ مائلةً إلى الداخل عند الركبة. اعتقد العلماء أنها أقدم أشباه البشر، وظل الاعتقاد سائدًا حتى عثر “تيم هوايت” وفريقه البحثي على عظام نوع أقدم عاش في المنطقة نفسها قبل نحو 4.4 ملايين عام.
ومن وقتها، بدأ الإنسان القديم في التطور ضمن الحدود الجغرافية للمنطقة ذاتها، حتى فجر نشأة الإنسان الحديث في شرق القارة الأفريقية قبل نحو 200 ألف عام، وظل العلماء يعتقدون أن ذلك الإنسان المعروف باسم “هومو سابينز إيدالتو” بدأ هجرته من “النقطة صفر” الواقعة في منطقة “هيرتو بوري” بإثيوبيا إلى باقي أنحاء العالم قبل 60 ألف سنة فقط.
وفي إبريل من العام 2015، عززت دراسة علمية نُشرت في دورية “جورنال أوف جيولوجي” تلك الادعاءات، بعد أن قالت إن الإنسان الحديث وصل إلى الجزيرة العربية من أفريقيا في أثناء فترة هطول أمطارٍ موسمية قبل نحو 60 ألف سنة، وأشار الباحثون إلى أن ذلك الإنسان كان يعيش على حرفة الصيد من المراعي التي ازدهرت في ذلك التوقيت بشبه الجزيرة العربية.
إلا أن الدراسة الحديثة تثبت أن الإنسان الحديث وصل إلى الجزيرة العربية قبل 25 ألف سنة –على الأقل- أبكر مما كان يُتوقع سابقًا.
لا يتعلق الكشف العلمي الجديد بتوقيت سكن الإنسان الحديث للجزيرة العربية فحسب، بل يتعلق أيضًا بجغرافية السكن، وفق بيتراجيليا، الذي يقول في تصريحاته لـ”للعلم” إن اكتشاف الحفرية جاء في وسط الجزيرة العربية، وليس على طول الخط الساحلي، والذي كان يُنظر إليه تقليديًّا على أنه المسار الأكثر احتمالًا الذي سلكه الإنسان الحديث في أثناء هجرته البشرية خارج أفريقيا.
فهم جديد
ويرى “هو جروكوت”، الباحث الرئيسي في الدراسة، والذي يعمل في قسم علوم الإنسان بجامعة أكسفورد، أن النتائج الجديدة تُغير من فهمنا للتاريخ البشري المبكر، مشيرًا في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إلى أن العلماء توقعوا أن الإنسان الحديث سلك الطريق إلى بقية العالم عبر مسارين: “المسار الأول الرئيسي هو مصر، أما المسار الثاني فهو ما يُعرَف حاليًّا ببلاد الشام”، يقول جروكوت: وهي مسارات برية في الأساس، فكيف عبر الإنسان الحديث البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية؟
“لم يجرِ التأكد من تلك المعلومة بعد” يقول جروكوت، مشيرًا إلى أن طريق الوصول إلى عمق الجزيرة العربية تم على الأرجح عبر الطرف الجنوبي من البحر الأحمر عند مضيق باب المندب؛ “ففي ذلك التوقيت لم يكن عرض المضيق أكبر من عرض نهر كبير، كما كانت هناك منطقة ضحلة ربما خاضها الإنسان الحديث سيرًا على الأقدام وصولاً إلى الغابات الرطبة بوسط السعودية”.
ويؤكد جروكوت أن نتائج الورقة البحثية الجديدة تُشير إلى أن الإنسان انتقل إلى موائل مختلفة، من ضمنها أراضي ما يُعرف حاليًّا بالمملكة العربية السعودية.
ماثيو تليفر، الباحث في مجال الجغرافيا الفيزيائية بكلية علوم الأرض والبيئة بجامعة بليموث، يرى أن الاكتشاف الجديد “مثير”، مشيرًا في تصريحات لـ”للعلم” إلى أن الورقة العلمية “تضع لَبِنةً جديدةً في جدار غموض الرحلة.. رحلة استعمار الإنسان لكوكبنا الأزرق”.
اقرأ أيضًا: هل تدعو نظرية التطور إلى الإلحاد؟
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.