حفريات عُثر عليها في كلٍّ من مصر وكينيا تكشف وجود أنساب لقردة في مدغشقر هاجرت عبر قناة موزمبيق واستوطنت الجزيرة قبل ملايين الأعوام.
بوجهٍ يُشبه قطًّا منزليًّا، ويدين سوداوين لهما أصبع عظمية طويلة ، وأذنين يُشبهان أذني خفاش، يتسلق ذلك الكائن الشجيرات المنتشرة في براري تلك الدولة الأفريقية المنعزلة جغرافيًّا عن كتلة اليابسة الرئيسية، ينبش بأصبعهِ الوسطى لحاء الشجر بحثًا عن الجذور والفواكه، ولحسن طالعه، يجد المخلوق ضالته، حشرةً صغيرةً تقع بين يديه لجزء من ثانية، وتتنقل في الجزء الثاني إلى فَمٍ مُطعَّم بأسنان تُشبه أسنان القوارض، تنمو على مدار عمره، يبدأ البحث مُجددًا عن ضحيته القادمة لاستكمال وجبته الليلية.
يُعرف هذا الكائن الحي باسم “أي أي Aya- Aya”، وهو كائن ليلي يُعَد من فصائل قردة الليمور المُهدد بالانقراض، بسبب الصيد الجائر وتدمير موائله الطبيعية. يواجه “الأي أي” باستمرار حملات ممنهجة تستهدف قتله؛ إذ يعتقد السكان المحليون أن مجرد رؤيته تجلب الحظ السيئ.
في الوقت الراهن، تعيش قردة الليمور حصرًا في جزيرة مدغشقر. تنتمي تلك القردة إلى رتبة الرئيسيات التى ينتمي إليها الإنسان، غير أنها -وعلى عكس البشر- تتركز سكانيًّا في تلك الجزيرة فحسب، إلا أن ماضيها يبدو أنه كان مفعمًا ببيئات أكثر تنوعًا، حسبما أشار بحث جديد نُشر اليوم في دورية “نيتشر كومينكيشن”.
تقول الدراسة إن لتلك القردة جدودًا أو أنسابًا، عاشت في القارة الأفريقية أيضًا، وهاجرت إلى مدغشقر في توقيت لم يُعرف بعد، في رحلتين منفصلتين. ووفق الورقة البحثية، عاش الجدود في منطقتين معروفتين حاليًّا باسم دولتين شهيرتين، هما مصر وكينيا.
فالحفرية بروبوتو لياكي leakeyi Propotto التي يُعتقد على نطاق واسع أنها لنوع من الخفافيش، تَبيَّن باستخدام تحليل شجرة النشوء والتطور، أنها إحدى فصائل كيروميفورم ليمور lemur chiromyiform ذات الصلة بحيوان الأي أي من مدغشقر، وفقًا لدراسة نيتشر كومينكيشن.
يقول أستاذ العلوم التشريحية التكاملية بمدرسة كيك للطب بجامعة جنوب كاليفورنيا “إريك سيففرت” -وهو المؤلف الرئيسي للدراسة-: إن الدراسة غيرت من الفهم السائد الذى ظل مُسيطرًا على العلماء طيلة عقود، “كان العلماء يعتقدون أن هجرة الليمور إلى مدغشقر بدأت قبل 50 إلى 55 مليون سنة قبل وقتنا الحاضر، غير أن تحليلاتنا وجدت أن الهجرة حدثت بعد ذلك بكثير، ربما قبل 34 إلى 23 مليون سنة”.
ويقول “إريك” في تصريحات خاصة لـ”للعلم” إن خطوط الأدلة التي جرى استخدامها لإعادة تقييم الحفريات الـمُكتشفة شملت تحليلًا كاملًا للأسنان، ووجدت خصائص مشتركة بين تلك الكائنات التي عاشت في الماضي والليمور من النوع “أي أي”، الذي يعيش في مدغشقر في الوقت الحالي.
التحليل، الذي استمر أكثر من عامين، يعني أن السلف المشترك لجميع الليمورات الموجودة في مدغشقر في الوقت الحالي لم يكن موجودًا في تلك الجزيرة إبان العصر الأيوسيني، بل كان منتشرًا في قارة أفريقيا، ويأمل “إريك” أن تُسطر تلك الفرضية أدلةً جديدةً تُسهم في كشف المزيد عن تاريخ تلك الرئيسيات وتطورها.
إعادة الأصول
وتبدأ قصة هذا البحث الخاص بجدود الليمور قبل عدة أعوام، حين درس عالِم الحفريات بمركز دراسة الليمور التابع لجماعة دوك الأمريكية “جريج جونيل” حفريةً قديمةً اكتشفها أحد أشهر علماء الحفريات في القرن العشرين وأكثرهم تأثيرًا “جورج جايلورد سيمبسون” عام 1967، في كينيا.
وصف “سيمبسون” الحفرية التي تعود إلى العصر الميوسيني المبكر (حوالي 23 إلى 16 مليون سنة) بكونها تنتمي إلى نوع جديد من الرئيسيات يُدعى بروبوتو لياكي، إلا أنه سرعان ما هوجم من المجتمع العلمي الذي أصر على كون الحفرية تنتمي إلى نوع من الخفافيش، معروف بخفاش الفاكهة، وطيلة أكثر من نصف قرن، ظل هذا التفسير سائدًا.
غير أن “جونيل” قرر تحدي ذلك الفهم، وتوجه بنموذج بلاستيكي من الحفرية إلى مصر، وعرضها على الباحث في مجال الحفريات بجامعة المنصورة “هشام سلام”، ليتفقا معًا على كون تلك الحفرية لا تنتمي إلى جنس الخفافيش على الإطلاق.
أجرى “سلام” مجموعةً من الفحوص على نموذج الحفرية –الذي يُعد طبق الأصل من الحفرية الأصلية الـمُكتشفة في كينيا- عبر إجراء تصوير بالأشعة المقطعية، أكد وجود قاطع من القواطع تحت أسنان العينة، ذلك القاطع لا يُمكن أن يُوجَد في الخفافيش على الإطلاق، وبفحصه ومقارنته بالرئيسيات، وجد “سلام” أن ذلك القاطع يُشبه نظيره عن حيوان واحد فقط، هو الـ”أي أي” المدغشقري.
“حين رأيت العينة أول مرة، عرفت أنها تُشبه البلاستوباكتيس، وهو نوع من أسلاف الليمور عاش في الفيوم”، يقول “سلام” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”.
البلاستوباكتيس Plesiopithecus، حفرية جرى اكتشافها في مصر عام 1992 بمنطقة الفيوم، استُخرجت تلك الحفرية من المحجر المعروف للعلماء تحت اسم L41، اكتشف الحفرية العالم “ألوين سيمونز”. وبفحصها، تَبيَّن وجود أسنان متضخمة ومتناسقة لها مجموعة من الخصائص القابلة للمقارنة مع سمات “أي أي”، مما يوحي بعلاقة وثيقة محتملة، ويقدم فرضيةً لاحتمالية هجرة أسلافه من الفيوم إلى جزيرة مدغشقر.
في عام 2010، وجد العلماء جمجمةً شبه كاملة للبلاستوباكتيس في مصر، كانت تلك الحفرية بمنزلة كنز حقيقي؛ إذ أضافت الكثير والكثير من فهم سلوك وشكل ذلك الحيوان المنقرض، تنبأ العلماء بأن الحيوان –تمامًا كـ”أي أي” كما أشارت أسنانه إلى أنه كان يثقب الخشب بحثًا عن الحشرات والغذاء– مثله تمامًا، وتشابه شكل أسنانه مع ما هو متوقع لسلف الكائن المدغشقري، إلا أنه كان يفتقر إلى القواطع دائمة النمو الموجودة لدى “أي أي”.
الحفرية الكينية التي لا يزيد عمرها عن 23 مليون سنة، تتشابه مع الحفرية المصرية -التي يتجاوز عمرها 34 مليون سنة- على نحو مُذهل، وفق الباحث المشارك في الدراسة “هشام سلام”، الذي يقول إن الفريق البحثي قرر دراسة الحفرية الكينية على نحو دقيق، عبر إجراء فحوص لتضاريس الأسنان.
تضاريس الأسنان عند الثدييات كبصمة اليد، وهي تختلف من ثديي إلى آخر، لا تكشف تلك التضاريس عن العمر فحسب، بل عن جنس الحيوانات، وبيئتها، والكثير من المعلومات حولها.
عمل الفريق البحثي على دراسة مواقع البروز المختلفة في تضاريس الأسنان، كل بروز أو تجويف في الأسنان له اسم محدد في علم التشريح، وكلما اختلفت من حيوان إلى آخر، دلت على كون جمجمة الحيوان الخاضع للفحص جمجمةً لمخلوق جديد كُلِّيًّا.
وجد الفريق البحثي أن الحفرية الكينية تتشابه في تضاريس الأسنان مع الحفرية المصرية، كما أنها قريبة أشد القرب من تضاريس أسنان كائن الـ”أي أي” الذي يعيش الآن في مدغشقر.
سلف مصري كيني
تُعد دولة مدغشقر رابع أكبر جزيرة في العالم، يفصلها عن دولة موزمبيق مسافة بحرية مُقدرة بـ400 كيلومتر كامل، انفصلت تلك الجزيرة بالكامل عن القارة الأفريقية قبل نحو 160 مليون سنة، وعن الهند قبل 88 مليون سنة، فإذا كان الـ”أي أي” له سلف مصري كيني، فكيف وصلت تلك الكائنات إلى الجزيرة؟
الإجابة يُقدمها “سلام”، الذي يقول إنه يظن أن الانتشار الجغرافي كان عبر قناة موزمبيق، تقع تلك القناة في المحيط الهندي بين جزر مدغشقر وساحل جنوب أفريقيا الـمُطل على جمهورية موزمبيق، ويفترض “سلام” أن أسلاف الليمور تمكنت من عبور القناة وصولاً إلى الجزر قبل ملايين السنوات.
تتحدى النتائج وجهة النظر طويلة الأمد التي تقول إن جميع الليمورات انحدرت من أصل واحد واستعمرت مدغشقر في هجرة واحدة من مكان واحد، وتقدم سيناريو بديلًا ومثيرًا للاهتمام يقول إن أنساب الليمور انتشرت عبر هجرتين مختلفتين من مكانين منفصلين على الأقل في أفريقيا.
في سبتمبر من العام الماضي، توفي “جريج جونيل” مُصمم الدراسة، في أثناء علاجه من مرض الليمفوما، عن عمر يناهز الـ63 عامًا، وهو الأمر الذي أربك حسابات الفريق البحثي المكون من علماء من مصر ممثلةً في كلية العلوم بجامعة المنصورة، والولايات المتحدة الأمريكية ممثلةً في جامعة ديوك ووست فوريست ومتحف التاريخ الطبيعي وجامعة جنوب كاليفورنيا، غير أن اللحظات المُربكة لم تدم كثيرًا بعد أن قرر الباحثون إكمال الدراسة ووضع اسم “جريج” بوصفه أول الـمُشاركين، تخليدًا لذكراه.
“وضعنا ورقة جديدة في شجرة أنساب الرئيسيات”، يقول “سلام”، مشيرًا إلى أن أهمية الدراسة تعود إلى كونها وجدت احتماليةً لوجود هجرات غير معروفة تمت في جذور التاريخ.
تضم مدغشقر العديد من الكائنات الفريدة، أشهرها الليمور، ولعقود طويلة، درس الباحثون الأصول التطورية لتلك القردة البدائية، غير أن ماضيهم ظل غامضًا إلى حدٍّ كبير، بسبب ندرة الحفريات، ما يجعل تتبُّع أصولها أمرًا في غاية الصعوبة.
في أي اتجاه هاجرت
في عام 2001، نشر مجموعة من الباحثين بجامعة مونبيليه بحثًا يقول إن لليمور جذورًا آسيوية، بعد أن فحصوا حفريةً عُثر عليها في تلال بوغتي بباكستان، اقترح الباحثون وقتها أحد احتمالين اثنين: إما أن الليمور هاجرت بين مدغشقر والهند قبل نحو 88 مليون سنة، حين كانت الهند ومدغشقر قطعةً واحدة، وإما أن تلك القردة استعمرت مدغشقر ثم شقت طريقها جنوبًا إلى آسيا، عبر انجرافها على قوارب من الغطاء النباتي، إلا أنهم ظلوا غير متأكدين من اتجاه الهجرة، فهل هاجرت تلك الليمورات من آسيا إلى مدغشقر، أم هاجر أسلافها في الاتجاه المعاكس؟
ربما تسهم تلك الورقة البحثية الجديدة في حسم الجدل الدائر حول ذلك الأمر، إلا أن “سلام” يقول إن هناك المزيد من الأبحاث التي سوف تُجرى في المستقبل لحسم الجدل الدائر حول أصول الليمور. يشدد “سلام” على أن الفجوة الزمنية بين الحفريات كبيرة، ولن نتمكن في الوقت الحالي من حسم ذلك الأمر.
يرى “سلام” أن التطور هو الحياة، فدراسة الماضي مفتاح الحاضر؛ “فحين نستكشف تطور الكائنات سنعرف حتمًا يومًا ما الإجابة عن تساؤل مَن نحن؟ وما أصلنا؟.. أصل الإنسان”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.