من الممكن أن تكشف حفريات بعض الحيوانات الصغيرة الهشة عن التاريخ المبكر للزواحف العملاقة الطائرة
على مدار ما يزيد على 160 مليون عام، كانت التيروصورات تحلِّق فوق الأرض. شكلت التيروصورات جزءًا مهمًّا من عصر الزواحف، بقدر ما كانت الديناصورات، وهي أولى الفقاريات التي طارت عن طريق الرفرفة بأجنحتها. لكن كيف تطورت هذه الكائنات ذات الأجنحة الجلدية على نحو يمكِّنها من الطيران في الأساس؟ لقد ظل هذا السؤال يحيِّر علماء الحفريات على مدار ما يزيد على قرن من الزمان، وبفضل بعض الأدلة الأحفورية الجديدة من بعض الأماكن المتباعدة للغاية مثل نيو مكسيكو والأرجنتين، بدأت أسلاف التيروصورات تتضح أخيرًا.
لا يزال شكل هذه الأسلاف غير مؤكد على الإطلاق حتى الآن. وعن ذلك يقول ستِرلينج نِسبيت، عالِم الحفريات في جامعة فيرجينيا للتقنية: “تظهر التيروصورات في السجل الأحفوري باعتبارها تيروصورات”، دون أن يوجد توافق في الآراء بشأن الزواحف التي تطورت منها. يتمثل جزء من المشكلة في أنَّ التيروصورات وأسلافها كانت رقيقةً للغاية؛ إذ تصفها عالِمة الحفريات نتاليا جاجيلسكا، من جامعة إدنبرة في إسكتلندا، والتي لم تكن من المشاركين في البحث الجديد: “إنَّ التيروصورات هشة للغاية”، علاوةً على ذلك فإنَّ التكيُّفات المتعلقة بالهيكل العظمي والتي كانت مهمة للطيران، ومنها العظام الجوفاء فائقة الخفة، قد جعلت التيروصورات وأسلافها عرضةً بصفة خاصة للتضرُّر بفعل القوى التي تنطوي عليها عملية التحفُّر، مما قد يدمر أجزاءً من الهيكل العظمي ويسطِّح العظام المحفوظة. بعض الظروف البيئية الخاصة للغاية، واللطيفة نسبيًّا، هي فقط التي سمحت للتيروصورات بالتحفُّر على نحوٍ واضح بما يكفي لدراستها.
ثمة دراسة تحليلية جديدة نشرها نِسبيت ومارتن إسكورا وزملاؤهما يوم الأربعاء في دورية Nature تقترح أنَّ مجموعةً من الزواحف النحيفة الرشيقة تُعرف باسم اللاجربيتيدات (Lagerpetids) تربطها قرابة وثيقة بالتيروصورات. تظهر في أحافير هذه الحيوانات الغريبة عديمة الأجنحة بعض السمات التي تشترك فيها مع تلك الزواحف الطائرة، راسمةً بذلك ما يعتبره الباحثون صورةً تقريبيةً للشكل الذي كانت تبدو عليه أسلاف التيروصورات.
تُعد اللاجربيتيدات، التي وُصِفت للمرة الأولى في سبعينيات القرن العشرين وشُبِّهَت ببعض الزواحف مثل اللاجربِتون (Lagerpeton) في الأرجنتين ودرومومِرون (Dromomeron) في نيو مكسيكو، من الحيوانات التي يحيط بها قدرٌ كبيرٌ من الغموض؛ إذ يعتقد العلماء منذ فترة طويلة أنها ترتبط بأصول الديناصورات، أو ترتبط على الأقل بالمجموعة الكبرى التي ينتمي إليها كلٌّ من الديناصورات والتيروصورات. وبناءً على اكتشافات جديدة لبقايا الجماجم، إضافةً إلى صور الأشعة المقطعية عالية الدقة، يقترح نِسبيت والمؤلفون المشاركون في الدراسة أنَّ اللاجربيتيدات شديدة القرابة من التيروصورات. ومن ثَمَّ فإنَّ هذه الزواحف، التي عاشت قبل فترة تتراوح بين 237 و201 مليون عام، تقدم لنا نبذةً عن الشكل الذي ربما كانت عليه أسلاف التيروصورات. يوضح نِسبيت قائلًا: “من المرجح أن اللاجربيتيدات كان لديها البنية الجسدية الأساسية وتشريح الجمجمة اللذَين نعتقد أنَّهما كانا لدى السلف المشترك للتيروصورات واللاجربيتيدات”، ويضيف أيضًا: “إنَّ اللاجربيتيدات بصفة أساسية هي تيروصورات ليس لديها القدرة على الطيران”.
تقول عالِمة الأحفوريات ليز مارتن-سيلفرستون، من جامعة بريستول في إنجلترا، وهي ليست من المشاركين في الورقة البحثية: “أعتقد أنَّ الدراسة والفرضية الجديدتين قد أصابتا الهدف بلا شك”؛ فالفرضية لا تتوافق مع التوقيت الذي لا بد أن تكون التيروصورات قد تطورت فيه فحسب، بل إنَّ التفاصيل التشريحية التي تظهر في جميع أجزاء الهيكل العظمي للاجربيتيدات تتسق مع سمات التيروصورات المبكرة.
لا تتوقف الصلات عند الهيكل العظمي فقط، بل تتشارك اللاجربيتيدات والتيروصورات أيضًا في بعض السمات التشريحية المميزة في الدماغ والأذن الداخلية، مما يشير إلى أنَّ القدرات المهمة للطيران -مثل التنسيق بين حركات الرأس والعين والرقبة- قد تطورت في حين كانت أسلاف التيروصورات لا تزال تسير على الأرض. فمثلما يقول إسكورا، عالِم الأحفوريات في متحف برناردينو ريفادافيا للعلوم الطبيعية بالأرجنتين وجامعة برمينجهام في إنجلترا: “إنَّ وجود السمات التشريحية العصبية -التي ارتبطت من قبل ببداية الطيران لدى التيروصورات- في أدمغة اللاجربيتيدات يشير إلى أنها قد ظهرت قبل اكتساب القدرة على الطيران واستخدمتها التيروصورات لاحقًا، مما أتاح لها غزو السماء”.
تتمثل المهمة التالية في البحث عن بقايا التيروصورات المبكرة وعن أحافير لكائنات كانت تتمتع بسمات انتقالية بين اللاجربيتيدات والتيروصورات، إنَّ الدراسة الجديدة من شأنها أن تغير ما سيبحث عنه الخبراء؛ إذ تقول جاجيلسكا إنهم كانوا قبل ذلك يبحثون عن الزواحف الصغيرة التي لها أذرعة تتسم بالاستطالة أو سيقان تبدو أنها كانت ستتطور إلى أجنحة. أما الآن، فبعد النظر إلى اللاجربيتيدات باعتبارها من أقارب التيروصورات، تغير شكل التيروصورات الذي يتوقعه علماء الأحافير؛ فقد صارت الأهداف الجديدة هي زواحف رشيقة حادة البصر، تتمتع بالقدرة على تحريك رؤوسها بسرعة. تعلق جاجيلسكا قائلةً: “إنَّ هذه الورقة البحثية تغيِّر الرؤية الراهنة وتحسِّن من فهمنا للأنماط التطورية في العصر الترياسي”.
واستنادًا إلى الفرضية الجديدة، كانت هناك فجوة بين اللاجربيتيدات والتيروصورات المبكرة تبلغ 18 مليون عام على وجه التقريب. وتقول مارتن-سيلفرستون إنه بالرغم من أنَّ علماء الأحافير كانوا يبحثون في هذه النافذة الجيولوجية منذ وقت طويل، فإنَّ هذه الدراسة ستغير على الأرجح أنواع الحيوانات التي يفحصونها داخل نطاق هذه النافذة، يضيف نِسبيت: “إنَّ البقايا الجديدة التي حصلنا عليها من اللاجربيتيدات تتميز بكونها ثلاثية الأبعاد ومحفوظة على نحو جيد”، وليست مسطحة، هذه البقايا توفر أساسًا قياسيًّا أفضل للاكتشافات المستقبلية، وربما يكشف العمل الميداني في المستقبل عن هذه الكائنات، وهو ما سيوفر الدليل الحاسم الذي ستستند إليه هذه الفرضية في انطلاقتها.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: أول وصف تفصيلي لفتحة المَجمَع لدى الديناصورات غير الطيرية