يمتلك عدد قليل -لكن مهم- من الأشخاص متغيرًا جينيًا قديمًا يعود إلى أشباه البشر المنقرضين، وتوصلت دراسة حديثة إلى دليل يؤكد ارتفاع احتمالية الإصابة باختلاطات خطيرة لدى مرضى كوفيد-19 الحاملين لهذا الجين، أكثر بأربعة أضعاف من احتمال تطور هذه الاختلاطات عند الأفراد غير الحاملين له.
شهد منتصف ديسمبر عام 2020 نشر اكتشاف جديد في أرشيف bioRxiv كطبعة أولية، سلطت الضوء على إنزيم دي ببتيل ببتيداز-4 (DPP4)، الذي أثبت العلماء سابقًا دوره في السماح لفيروس كورونا المسؤول عن متلازمة الشرق الأوسط التنفسية (MERS) بالارتباط بالخلايا البشرية والدخول إليها، بينما يشير التحليل الجديد للمتغيرات الجينية لبروتين DPP4 لدى مرضى كوفيد-19، إلى إسهام الإنزيم في توفير مدخل آخر لفيروس سارس-كوف-2 إلى خلايانا، إلى جانب مسار العدوى المعتاد عبر مستقبل الإنزيم المحول للأنجيوتنسين 2 (ACE2) الموجود على أسطح الخلايا.
ما يزال هذا الاستنتاج أوليًا، إذ لم تتمكن المجموعات الأخرى التي تبحث في قواعد البيانات الجينية عن العوامل المؤثرة على شدة إصابة كوفيد-19 من تحديد جين DPP4، لكنه يبقى اكتشافًا مثيرًا للاهتمام لأنه يفتح الباب أمام بعض أدوية الداء السكري التي تستهدف بروتين سطح الخلية، وعليه قد تسهم في علاج كوفيد-19.
قال سفانتي بابو، أحد المؤلفين المشاركين في الدراسة وعالم الوراثة التطورية في معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا التطورية: «نريد نشر هذه النتيجة سريعًا ليبدأ المعنيون باختبارات منهجية للتحقق من إمكانية توظيف DPP4 بمثابة هدف علاجي عند مرضى كوفيد-19».
بينما صرّح جيانهونغ لو، عالم الفيروسات في جامعة سنترال ساوث الصينية، والذي لم يشارك في العمل الجديد، قائلًا إن الطبعة الأولية «تضيف دليلًا جديدًا، يدعم النتائج التي تؤكد دور DPP4 في الإصابة بفيروس سارس-كوف-2»، ونوّه مع زملائه في دورية آي ساينس بالارتباط الوثيق المحتمل بين DPP4 وبروتينات الحسكة الموجودة على سطح فيروس سارس-كوف-2، وذلك استنادًا إلى مقارنة تسلسلات الأحماض الأمينية والهياكل البلورية الخاصة بالإنزيم والشريك الثابت لبروتينات الحسكة: ACE2. يُذكر أيضًا أن فريقًا آخر كان قد استبعد في وقت سابق تصنيف DPP4 بمثابة مستقبل لسارس-كوف-2 بعد ملاحظته عدم ارتباط الفيروس به في دراسات سلالة الخلية.
عمد بابو والمؤلف المشارك هوغو زبرغ، عالم وراثة تطوري في معهد ماكس بلانك أيضًا، إلى تسليط الضوء على DPP4 مرةً أخرى؛ إذ يمتلك معظم الأوروبيين والآسيويين والأمريكيين الأصليين حفنة من جينات إنسان نياندرتال، بنسبة تتراوح بين 1.8٪ و2.6٪ من حمضهم النووي، وذلك بفضل التزاوج بين بعض أسلافنا وإنسان نياندرتال. يُذكر أيضًا اكتشاف الباحثين سابقًا أدلة على أن وجود قسم (ذراع) كروموسومي يعود إلى إنسان نياندرتال قد يوفر حماية لأصحابه من الإصابة بكوفيد-19، في حين أن وجود قسم آخر على الكروموسوم 3 قد يزيد من شدة الإصابة.
أظهرت الدراسات التي أجريت على الحمض النووي القديم في أحافير إنسان نياندرتال اختلافًا طفيفًا بين جين DPP4 العائد لأشباه البشر والجين البشري النموذجي. اتجه بابو وزبرغ نحو التحقق من فكرة ظهور هذا المتغير الجيني لإنسان نياندرتال أو غيره من الأنواع المنقرضة في الأشخاص الذين عانوا إصابات كوفيد-19 شديدةً، بنسب أكبر من ظهوره لدى الأشخاص غير المصابين، إذ لجؤوا إلى أحدث إصدار للبيانات في أكتوبر من مبادرة الوراثة المضيفة لكوفيد-19، التي رصدت المعلومات الجينومية وحالة كوفيد-19 لدى أفراد عدّة من دراسات أو بنوك بيانات أخرى.
حصر العلماء بحثهم بهدف رصد نسخ جينات إنسان نياندرتال لدى الأشخاص الذين أبدوا تظاهرات شديدة عند إصابتهم بفيروس كورونا الجديد، ما أعطاهم طريقة سريعة للتحقق من صحة الفرضية التي تقترح تأثير هذه الجينات القديمة في آلية استجابة الأشخاص الأحياء لفيروس كورونا؛ قال زبرغ إن نسخة الإنسان البدائي من DPP4 قد ظهرت بنسب أعلى في جينومات 7885 شخصًا جرى نقلهم إلى المستشفى عقب إصابتهم إصابةً شديدة بكوفيد-19 مقارنة بمجموعة الضبط، وعليه توصلوا إلى أن امتلاك الشخص نسخة واحدة من المتغير الجيني الخاص بإنسان نياندرتال، قد يضاعف احتمال إصابته إصابةً شديدةً بكوفيد-19، أما وجود نسختين من هذا المتغير يرفع نسبة الإصابة الشديدة واختلاطاتها حتى 4 أضعاف.
يقدر الباحثون أن نسبة تتراوح بين 1٪ و4٪ من الأوروبيين والآسيويين قد ورثوا نسخة إنسان نياندرتال من جين DPP4، لينبثق السؤال الجوهري التالي: كيف تغير اختلافات إنسان نياندرتال في هذا الجين من نشاطه أو من وظيفة البروتين؟
إضافةً إلى الكشف عن الارتباط بفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، أظهرت الدراسات السابقة قدرة البروتين على تحطيم الغلوكوز أو السكريات في الخلية، ولهذا السبب أصبح DPP4 هدفًا لعقاقير الداء السكري. على أي حال، يُحتمل ألا تؤثر تغييرات إنسان نياندرتال على جين DPP4 بصورة مباشرة في شكل أو وظيفة الإنزيم، فجميع هذه التغيرات تُصنف ضمن نطاق تسلسل محفز، ومن ثم تؤثر عادةً على مكان الجين في الجسم ومدى نشاطه.
يثير هذا البحث اهتمام علماء الأحياء التطورية لأنه يُظهر أن البشر المعاصرين قد اكتسبوا بسرعة متغيرات جينية من إنسان نياندرتال قد يستمر تأثيرها في كيفية استجابة بعضنا للأمراض حتى يومنا هذا.
وجدت دراسة أجراها عالم الوراثة السكانية ديفيد إنارد من جامعة أريزونا عام 2018 أن البشر الأحياء قد ورثوا عددًا غير متناسب من متغيرات إنسان نياندرتال للجينات المناعية التي تستهدف فيروسات RNA مثل فيروسات كورونا مقارنةً بالجينات التي تستجيب لفيروسات DNA، ما يشير إلى أن إنسان نياندرتال قد أُصيب بفيروسات RNA مختلفة عن فيروسات البشر المعاصرين، وعندما تزاوج الاثنان، التقط أسلافنا مسببات الأمراض الجديدة من إنسان نياندرتال، إلى جانب اكتسابه جينات مناعية جديدة لمحاربة تلك الميكروبات.
على أي حال، يوجهنا اكتشاف DPP4 إلى أن المتغيرات الجينية «التي كانت قابلة للتكيف في الماضي قد تكون ضارة اليوم، خاصةً بعد التغيرات الحاصلة في نمط الحياة والبيئة»، وفقًا لعالم الوراثة السكانية لويس كوينتانا-مرسي من معهد باستور.
يقول إنارد إن إحدى الطرق لفهم مخاطر كوفيد-19 المرتبطة بجينات إنسان نياندرتال، هي مقارنتها بالاحتمالات الأعلى للإصابة الشديدة بسارس-كوف-2 الناتجة عن العيش في ظل الفقر وضعف الوصول إلى الرعاية الصحية، مشيرًا إلى أن هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية «تملك دورًا أقوى بكثير من أي تأثير جيني موروث من إنسان نياندرتال».
ترجمة: حسام شبلي
تدقيق: جعفر الجزيري
المصدر: sciencemag
اقرأ أيضًا:
ربما استطاعت الفقاريات الأولى المشي في أعماق المحيط قبل الانتقال إلى اليابسة