لغز العشاء الأخير «لملك العصر الإيوسيني»

دراسة حديثة تكشف عن النظام الغذائي لحوت عملاق عاش قديمًا في منطقة وادي الحيتان بمصر.. الحوت المكتشفة بقاياه يقدر طوله بـ15 مترًا

ربما يكون هذا هو آخر مكان على الأرض يمكنك أن تعتقد أنه كان في يوم من الأيام بحرًا من الماء.. هنا “وادي الحيتان”، حيث الصحراء تمتد مع امتداد البصر إلى الأفق. زخم من الأدلة العلمية التي تتراكم عامًا بعد آخر لتؤكد لنا أنه كان هناك قبل حوالي 37 مليون سنة بحرٌ واسعٌ كان يغطي قطاعًا كبيرًا من أرض مصر، هو البحر المتوسط الكبير أو “بحر تيثيس” حيث كان يعيش الحوت “باسيلوسورس إيزيس” Basilosaurus Isis، أحد المفترسات البحرية القديمة التي احتلت قمة الهرم الغذائي آنذاك.

ووفقًا لدراسة حديثة نُشرت في مجلة “بلوس وان” PLOS ONE اليوم الأربعاء، كشف فريق مكون من باحثين دوليين عن النظام الغذائي للـ”باسيلوسورس إيزيس”؛ إذ عُثر على حفائر لمعدته وفيها بقايا أسماك قرش وحيتان صغيرة من نوع “دورودن”، بالإضافة إلى بعض بقايا عروس البحر، وعليها آثار عض من أثر قواطع وأسنان هذا الحوت العملاق الذي كان يتغذى على غيره من الأسماك والحيتان الصغيرة.

يُقَدر طول الحوت المكتشفة بقاياه بـ15 مترًا، ويُعد من الحيتان الضخمة؛ إذ يتراوح طول حيتان هذا النوع بين 15 و18 مترًا. وتشير الدراسة إلى أنه عاش في عصر “الإيوسين” المتأخر في الفترة بين (38 إلى 34 مليون سنة خلت).

ووُجدت بقايا “باسيلوسورس إيزيس” أيضًا في الجزء الجنوبي من منطقة المتوسط الحالي في كلٍّ من جنوبي المغرب وشرقي الأردن. كما وُجدت بقايا أنثى “باسيلوسورس” المعروفة باسم “باسيلوسورس سيتويدس B. Cetoides” في رواسب غرب المحيط الأطلنطي المتاخمة لخليج المكسيك، بالإضافة إلى رواسب بحر “تيثيس” في منخفض القطارة في غرب مصر، وفق دراسة سابقة نُشرت في الجمعية الجيولوجية الأمريكية عام 2011.

الباحثون في أثناء عملية التنقيب والبحث عن هيكل الباسيلوسورس Credit: Nature Conservation Sector, Egyptian Environmental Affairs Agency
الباحثون في أثناء عملية التنقيب والبحث عن هيكل الباسيلوسورس Credit: Nature Conservation Sector, Egyptian Environmental Affairs
Agency

مفاجأة سارة

بدأ العمل على الدراسة الحالية منذ عام 2009، إذ جرى البحث في بعض المواقع لمعرفة ما هي الكائنات التي كان يتغذى عليها حوت “باسيلوسورس إيزيس”، لكن مفاجأةً سارةً كانت في انتظار الفريق البحثي حين اختاروا موقعًا عشوائيًّا لبعض هياكل الحيتان، عُثر فيه على معدة الباسيلوسورس آكل اللحوم، وفق “محمد سامح”، مدير إدارة الجيولوجيا والحفريات بقطاع حماية الطبيعة بوزارة البيئة المصرية، والباحث المشارك في الدراسة، في تصريحات لـ”للعلم”.

وتقول “مانجا فوس”، الباحثة بمتحف التاريخ الطبيعي في ألمانيا، والباحث الرئيسي في الدراسة، في تصريح لـ”للعلم”: إن الدراسة تقدم -ولأول مرة- دليلًا على النظام الغذائي لحوت الباسيلوسورس، وتستكمل ما توصل إليه الباحثون السابقون في دراسة هذا النوع من الحيتان القديمة، ما يعزِّز من فهم هذا التراث البيئي وحمايته.

ويضيف “سامح” أن العمل على الدراسة “استغرق حوالي 8 سنوات”. وعن مراحل الدراسة، تقول “فوس”: إنه كانت هناك عدة مراحل، إذ قضى الباحثون ثلاثة أسابيع عمل في شهر ديسمبر عام 2010 في الدراسات الحقلية (الميدانية)، وأُجريت دراسة أخرى في صيف عام 2016 تناولت محتوى المعدة ومقارنته بنماذج أخرى للباسيلوسورس والدورودن، وأنهت الباحثة كتابة البحث في مطلع عام 2018.

وتوضح “مانجا”: “تمثل ورقتنا البحثية إنجازًا علميًّا، ورغم ذلك لا تزال في معرفتنا –دائمًا- ثغرات لم يجرِ سدها، ما يحتاج إلى مزيد من المشاريع والأبحاث”.

وأضافت: على سبيل المثال، في دراستنا هذه نحن ندعم فرضية أن الحيوانات المفترسة العليا هي في الغالب أكبر الحيوانات من نوعها، لكننا نشدد على أن الكثير لا يزال غير معروف حول الحيتان كمفترسات عليا، خلال معظم زمن عصور الحياة القديمة، ما يجعل من الضروري إجراء مزيد من الدراسات حول دور الحجم كميزة رئيسية لمفترسات القمة (قمة الهرم الغذائي).

بقايا متحجرة لمحتويات معدة الباسيلوسورس Credit: Nature Conservation Sector, Egyptian Environmental Affair Agency
بقايا متحجرة لمحتويات معدة الباسيلوسورس Credit: Nature Conservation Sector, Egyptian Environmental Affair Agency

العشاء الأخير

يقول سامح في تصريح لـ”للعلم”: “إن تنوُّع الأسنان المكتشفة يشير إلى أن “باسيلوسورس إيزيس” كائن لاحم متنوع التغذية، ينتمي إلى فصيلة “الأركيوسيد” وهي من الحيتان البدائية”، مضيفًا أن “هذا الحوت يُعَد الأكبر حجمًا بعد حوت “الباسيلوسورس سيتويدس B. Cetoides” المكتشَف بواحة سيوة، ويبلغ طوله 20 مترًا”.

عثر الباحثون داخل معدة “باسيلوسورس إيزيس” على جزء من جمجمة حوت “الدوردون”، وجزء آخر من فقرات الرقبة، وجزء من عروس بحر، وفك سمكة عظمية، ومن هذه العينة توصل الباحثون إلى نتيجة مفادها أن غذاء حوت الباسيلوسورس كان يتكون من كل هذه الأشياء مجتمعة.

وكان يُعتقد في السابق أن بقايا عظام حوت “الدورودن” -وهو من الحيتان الصغيرة التي لا يتجاوز حجمها خمسة أمتار- كانت قد وُجدت في موقع “باسيلوسورس إيزيس”؛ نظرًا إلى أن الحوت الصغير كان يعبث بجثة الكبير بحثًا عن الغذاء، لكن وبالفحص تبين أن آثار العض على جمجمة ورقبة “الدورودون” أشارت إلى أنه لم يكن إلا جزءًا من وجبة العشاء الأخير للمفترس الأكبر حجمًا الذي كانت منطقة الرأس هي المفضلة له في الهجوم على فريسته؛ إذ تؤدي إلى الموت السريع للفريسة.

ويتميز باسيلوسورس بأنه مزود بساقين خلفيتين صغيرتين لهما شكل مثالي، كما كان أول حوت قديم يمتلك أطرافًا خلفية مكتملة التطور تحتوي على ركبة وكاحل وقدم وأصابع قدم، بخلاف الحيتان الحديثة التي لم تعد تمتلك شيئًا أكثر من بقايا عظام الحوض، وفق إحدى الدراسات الأولى التي تناولت حفريات وادي الحيتان، ونُشرت في عام 1990 وأعدها “فيليب جنجريتش”، الباحث في الفقاريات في جامعة “ميتشيجن” الأمريكية، وهو باحث مشارك أيضًا في الدراسة الحالية.

ملك العصر الإيوسيني

يشيد “هشام سلام”، مدير مركز جامعة المنصورة للحفريات الفقارية -غير مشارك في الدراسة- بالنتائج التي توصلت إليها الدراسة، ويوضح في تصريح لـ”للعلم” أن منطقة وادي الحيتان تتميز بعدم التعقيد في توزيع الحفريات، معتبرًا نتائج الدراسة إنجازًا حقيقيًّا؛ إذ توصلت بأدلة ملموسة إلى نوعية النظام الغذائي لأضخم الحيتان التي عاشت في فترة الإيوسين المتأخر. ويصف “سلام” “باسيلوسورس إيزيس” بأنه “ملك العصر الإيوسيني بلا منازع”.

ويضيف أن “باسيلوسورس إيزيس” كان يعيش في المياه الضحلة، ويستدل على ذلك بوجود حيوان “الكابوريا” في موقع البقايا المتحجرة؛ إذ كان يعيش في خليج يُعَد امتدادًا لبحر “تيثيس”، ويعتقد أنه كان يتزاوج في تلك المنطقة، رغم عدم العثور على صغار له حتى الآن.

ويتفق “مارك دي أوهن” -الأستاذ بجامعة “جورج ماسن”، والمتخصص في الثدييات البحرية والتاريخ الطبيعي- مع ما ذهب إليه “سلام” في التثمين من نتائج الدراسة. ويقول “أوهن” في تصريح لـ”للعلم” إن هذه الدراسة التي بين أيدينا تستمد أهميتها من كونها توفر أكثر دليل مباشر على النظام الغذائي للباسيلوسورس.

“إنها تؤكد الشكوك التي كانت لدينا في السابق من أن الباسيلوسورس كان يتغذى على الدوردون الأصغر في الحجم، ومن المحتمل أن مصر كانت مكانًا مثاليًّا لعيش الدوردون”، يوضح “أوهن”. ويضيف أنه من النادر أن نتمكن من العثور على دليل على السلوك في سجل الحفريات، ولكن هنا لدينا دليل مباشر على النظام الغذائي لحوت أحفوري من “رموز” العصر الإيوسيني.

تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *