من أين جاءت أطرافك؟ سؤال يبدو للوهلة الأولى غريبًا. لكن إذا رجعنا بالزمن إلى ما قبل 390 مليون عام تقريبًا، وقت أن كان كوكبنا خاليًا من الحيوانات الفقارية التي لديها عمود فقري، التي تمشي على الأرض؛ إذ لم يكن على اليابسة وقتها سوى بعض الحشرات والعناكب، بينما كانت جميع الكائنات الحية آنذاك تعيش في المياه.
رحلة الكائنات الحية من بيئتها المائية إلى اليابسة كانت تحديًا كبيرًا استغرق ملايين السنوات. كانت الكائنات تحتاج إلى بعض الصفات التي تؤهلها للعيش على اليابسة، فاحتاج بعضها إلى وجود قشرة صلبة للبيض لحمايته من الجفاف، وجهاز تنفسي ملائم ليتنفس الأكسجين من الهواء، كما كان من المهم أيضًا وجود هيكل صلب قادر على الحركة وحمل الجسم خارج الماء. ولذا طورت بعض الأسماك مثلًا، زعانفها إلى أطراف تمكِّنها من المشي على اليابسة.
تشير دراسات سابقة إلى أن جفاف المسطحات المائية أجبر الكائنات الحية على الخروج إلى اليابسة، وأن رباعيات الأرجل الأولى tetrapods احتفظت بالعديد من السمات المائية، مثل الخياشيم وزعنفة الذيل، أما الأطراف، فربما تكون قد تطورت في الماء قبل أن تتكيف تلك الكائنات مع الحياة على الأرض.
إلا أن هناك جدلًا قائمًا حول وقت حدوث هذا الانتقال من الماء إلى الأرض، وكيف كانت رباعيات الأرجل الأرضية المبكرة حقًّا.
تطور المشي على الأرض
دراسة جديدة نُشرت في دورية نيتشر، أجراها علماء من جامعات هارفارد وكامبردج، بالإجابة عن سؤال كيف ومتى استكشفت الكائنات طريقها إلى اليابسة بعد أن كانت سبَّاحات ماهرة؟
وكيف تحولت الزعانف إلى أطراف لتظهر لنا رباعيات الأرجل كالديناصورات والزواحف والطيور والثدييات ومن ضمنها نحن البشر؟
فوفق نتائج هذه الدراسة، ربما كانت أذرعك المكونة من عظمة العضد -العظمة الممتدة من الكتف إلى الكوع- وعظمتا الساعد والكعبرة -عظمتان ممتدتان من الكوع إلى الرسغ- وعظام الرسغ والأصابع، في يومٍ من الأيام، عبارة عن زعنفة تساعد على السباحة تحت الماء.
يقول بليك ديكسون، عالِم البيولوجيا التطورية والمؤلف الرئيسي للبحث: “إن السجل الحفري لرباعيات الأرجل المبكرة التي عاشت على الأرض نادر جدًّا، لذا استعنّا ببيانات الحفريات التي تمثل مراحل انتقاليةً من الأسماك المائية إلى رباعيات الأرجل الأرضية”.
ويضيف: “تقدم دراستنا أول نظرة كمية عالية الدقة حول تطور المشي على الأرض عبر الانتقال من الماء إلى اليابسة، كما أنها توفر تنبؤًا بتوقيت وكيفية حدوث عملية الانتقال والوظائف التي كانت مهمةً فيها”.
استند العلماء في دراستهم إلى تحليل 40 نموذجًا ثلاثي الأبعاد لحفريات عظام العضد في رباعيات الأرجل البدائية التي لديها بعض الصفات المشتركة مع رباعيات الأرجل الحديثة التي تعيش على الأرض اليوم، والتي تشير إلى تأهُّلها للعيش على اليابسة قبل خروجها من الماء.
قدمت نتائج الدراسة رؤيةً أكثر شمولًا حول تطور الحركة من خلال التركيز على عظمة واحدة، هي عظمة العضد؛ إذ استغرقت أربع سنوات كاملة، وآلافًا من الساعات على كمبيوتر عملاق من أجل الحصول على نتائج التحاليل، بالإضافة إلى آلاف من الساعات الأخرى للاستنتاج والبحث.
جاء ثلث الحفريات من متحف علم الحيوان المقارن بجامعة هارفارد الأمريكية، حيث جُمعت من مناطق وبلدان مختلفة من جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى عينات رئيسية من كندا وإسكتلندا وأستراليا وعينات أخرى مكتشَفة مؤخرًا من قِبَل المؤلفين المشاركين تيم سميثسون والبروفيسور جينيفر كلاك، من جامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة، كجزء من مشروع تترابود وورلد للتطور والتنوع الحيوي المبكر، المعروف اختصارًا بـ(TW: eed)، لدراسة تطور رباعيات الأرجل وفهمه.
متى حدث ذلك؟ وكيف؟
درس الفريق كيفية تغيُّر عظام العضد مع مرور الوقت، وتأثيره على كيفية تحرُّك هذه الكائنات وانتقالها من أسماك مائية إلى رباعيات الأرجل الأرضية.
تضمنت الدراسة مجموعةً وسيطةً من رباعيات الأرجل ذات قدرات حركية غير معروفة سابقًا، إذ وجد الباحثون أن ظهور الأطراف في هذه المجموعة تَزامَن مع الانتقال إلى اليابسة، لكن رباعيات الأطراف المبكرة هذه لم تكن مؤهلةً تمامًا للمشي عليها.
وكان اختيار العلماء للعضد تحديدًا لأسباب منطقية، فهو الأكثر توافرًا في السجل الحفري، إلى جانب خاصية حفظه الجيد في الصخور، والأهم من ذلك اعتباره ممثلًا لجميع الساركوبيتريجيان sarcopterygian، ومنها الأسماك الرئوية وجميع رباعيات الأرجل.
ومن الناحية الوظيفية، فإن عظام العضد أساسية للحركة؛ إذ ترتبط بها العضلات الرئيسية التي تمتص الكثير من الضغط الناجم عن الحركة الرباعية.
يقول الباحثون إن العظام تمثل كبسولةً زمنية، يمكن من خلالها إعادة بناء تطور الحركة، إذ يمكن فحصها عبر الانتقال من الزعانف إلى الأطراف.
وتشدد ستيفاني بيرس، أحد علماء جامعة هارفارد في البيولوجيا التطورية وأحد مؤلفي البحث، في تصريح لـ”للعلم”: “يمكننا التنبؤ من خلال عظام العضد بالوقت الذي بدأت فبه رباعيات الأقدام بالتحرك على الأرض؛ إذ تحمل هذه العظام إشارات وظيفية قوية عن كون الكائن يسبح في الماء أو انتقاله إلى الحياة الأرضية، وهو أمر مثير حقًّا”.
ويُظهر التركيب التشريحي للعظام طبيعة الوظيفة التي تؤديها، إذ كانت عظام العضد في صورتها البدائية غير قادرة على تحمُّل الجسم والتحرُّك به على الأرض، وهو ما أسهم في تطورها لتتهيأ للمشي على اليابسة.
الضغوط البيئية وراء هذا التحول
عمل الفريق البحثي على دراسة الصفات الوظيفية المرتبطة بالتكيف مع البيئات المختلفة، ووجدوا أنه مع انتقال هذه الكائنات من الماء إلى الأرض، تغيَّر شكل عظام العضد، مما أدى إلى ظهور سمات وظيفية جديدة أكثر فائدةً للحياة على الأرض منها في الماء.
ومع دراسة التغيرات على الخرائط الطبوجرافية -الخاصة بتوضيح المرتفعات والمنخفضات على سطح الأرض- التي تشير إلى توزيع رباعيات الأرجل البدائية فيما يتعلق بالحياة في الماء أو القدرة على الحركة على اليابس، وجد العلماء أن هذه التغيرات كانت مدفوعةً على الأرجح بالضغوط البيئية؛ إذ تكيفت هذه المخلوقات مع الحياة الأرضية.
وأفادت الدراسة بأن رباعيات الأرجل الانتقالية كان لها عضد على شكل حرف (L)، يوفر بعض الفوائد الوظيفية للتحرك على الأرض، لكن ليس بالقدر الكافي، فطريق الكائنات من الماء إلى اليابسة طويل جدًّا، ويستلزم تطوير بعض السمات الوظيفية للحصول على أطراف قادرة على الحركة بسهولة ومهارة على الأرض.
وللحصول على هذه الصفات تطور شكل عظام العضد من شكل حرف “L” إلى شكل أكثر قوةً واستطالةً والتواءً، مما أدى إلى زيادة كفاءة المشي على الأرض، وبدوره ساعد على تنوع الكائنات على الأرض. كما ساعد في إنشاء سلاسل غذائية معقدة تعتمد على الحيوانات المفترسة والفرائس والحيوانات العاشبة والحيوانات آكلة اللحوم التي لا تزال موجودةً حتى اليوم.
التخلي من أجل الكسب
خلصت الدراسة إلى أن رباعيات الأرجل كان لها مزيجٌ فريدٌ من السمات الوظيفية، لكنها لم تتوافق مع ذروتها التكيفية، أي لم تكن بالكفاءة التي تساعدها على الحركة، ولذلك لم تستطع الحركة إلا بعد فقدان عظام العضد التي على شكل حرف (L)، مما مهّد لها الطريق على اليابسة للتنوع وإنشاء نُظُم بيئية جديدة للمعيشة، وهذا يدل على أن الحياة على اليابسة كانت وثيقة الصلة بتطور الأطراف.
يقول ديكسون: “لا يمكنك أن تكون جيدًا في كل شيء”. ويضيف: “كان على الأسماك أن تتخلى عن شيء من أجل الحياة على الأرض وتطورها إلى كائن رباعي الأرجل”.
تم نقل المقال من Scientific American بالتصرف.
اقرأ أيضًا: اكتشاف أقدم رسوم لحيوانات على جدار كهف في إندونيسيا