تشرح نظرية التطور كيف وصلت جميع الكائنات الحية إلى هذه المرحلة، متضمنةً البشر، ومن السهولة تخيّل أن آلية التطور تتمثل في إضافة ميزات جديدة للكائنات الحية وزيادة تعقيدها تدريجيًّا نتيجة لذلك. طوّرت بعض الأسماك أرجلًا وبدأت تسير على اليابسة، وحصلت بعض الديناصورات على أجنحة وأصبحت قادرة على الطيران، وطور بعضها الآخر أرحامًا وأصبحت تلد صغارها.
يُعَد هذا المفهوم عن التطور من التصورات الخاطئة الشائعة، إذ حافظت العديد أشكال الحياة على بساطتها مثل البكتيريا، أو قللت من تعقيدها مثل الطفيليات، وهي بخير حال.
يقارن بحثنا المنشور في مجلة Nature Ecology and Evolution بين الجينوم الكامل لأكثر من 100 كائن حي (أغلبها حيوانات) لدراسة تطور مملكة الحيوان جينيًّا. أظهرت نتائج البحث أن أصول مجموعات كبيرة من الحيوانات، متضمنةً الفئة التي ينتمي إليها الإنسان، ترتبط بنقص كبير في أجزاء من الجينوم، لا بإضافات إليه.
كان العالم البيئي التطوري جاي غولد من معارضي فكرة مسيرة التطور، وهي الفكرة القائلة بأن التطور يؤدي دائمًا إلى زيادة تعقيد الكائنات الحية. استخدم غولد في كتابه Full House (1996) نموذج مشية السكّير لشرح الموضوع.
يغادر السكيّر الحانة قرب محطة القطار ويمشي مشيةً خرقاء على رصيف المحطة جيئة وذهابًا بين القضبان والحانة، في النهاية يقع السكيّر في السكة ويعلق هناك. يمثل رصيف المحطة مقياس التعقيد في الكائنات الحية، والحانة هي أدنى درجات التعقيد أما السكة فهي أعلى مستوياته.
بدأت الحياة في الحانة بأدنى مستويات التعقيد، تتجه أحيانًا نحو السكة (أي تتطور أشكال الحياة إلى أشكال أعقد) وتعود أحيانًا أخرى إلى الحانة (أي إلى مستوى أقل من التعقيد). وليس لأحد الخيارين أفضلية على الآخر، فالبقاء بنفس مستوى البساطة أو التقليل من التعقيد قد يكون أكثر فائدةً للنجاة من أن يتطور الكائن الحي إلى أشكال أعقد، اعتمادًا على البيئة المحيطة.
مع ذلك تُطور بعض الأنواع أحيانًا ميزات معقدة ضرورية لعمل أجهزتها، فلا تستطيع أن تفقد هذه الجينات لتصبح أقل تعقيدًا، أي تصبح عالقةً على السكة الحديدية. فمثلًا لا تعود الكائنات متعددة الخلايا لتصبح وحيدة الخلية.
إذا ركزنا على الكائنات العالقة على السكة سنجد تحيزًا واضحًا لفكرة سير التطور في طريق مستقيم من الأبسط إلى الأعقد، وبات الاعتقاد بأن أشكال الحياة الأقدم دائمًا كانت الأبسط والأشكال الجديدة هي الأعقد. لكن الطريق إلى التطور متعرج جدًّا.
بحثنا، بالتعاون مع بيتر هولاند من جامعة أوكسفورد، كيفية تطور التعقيد الجيني في الحيوان، وقلنا إن إضافة جينات جديدة هو أساس التطور الباكر في مملكة الحيوان، فهل للتطور المتأخر نفس السبب؟
يمكن تصنيف أكثر الحيوانات إلى سلالات كبرى، بوصفها فروع شجرة الحياة التي تُظهر تطور الحيوانات من أسلاف مشتركة. للإجابة عن سؤالنا درسنا كل سلالة من الحيوانات المتوافر تسلسلها الجيني، والعديد من السلالات المنحدرة من كائنات أخرى سوى الحيوانات للمقارنة.
إحدى السلالات هي ثانويات الفم deuterostomes، التي تتضمن البشر والفقاريات الأخرى، وتتضمن نجم البحر وقنفذ البحر. سلالة أخرى هي الانسلاخيات ecdysozoans التي تتضمن مفصليات الأرجل (الحشرات والروبيان والعناكب والديدان الألفية) وغيرها مثل الديدان المدورة. آخر سلسلة هي العجلانيات العرفية lophotrochozoans التي تتضمن حيوانات مثل الرخويات (الحلزون مثلًا) والديدان الحلقية (دودة الأرض) وغيرها.
درسنا هذه التشكيلة المنوعة من الكائنات الحية، وبحثنا كيفية ارتباطها في شجرة الحياة، والجينات المشتركة والمختلفة فيما بينها، فإذا وجدنا جينًا في كائن قديم لم يظهر في الكائنات الجديدة في السلسلة نفسها استنتجنا أنه فُقد، أما إذا ظهر جين في الكائنات الحديثة لم يكن موجودًا في الكائنات الأقدم فهذا يعني أنه جين جديد.
أظهرت النتائج أرقامًا غير مسبوقة في عدد الجينات المفقودة والمكتسبة، الأمر الذي لم تظهره الدراسات السابقة. ظهر فقد الجينات بوضوح في سلسلتي ثانويات الفم (من ضمنها الإنسان) والانسلاخيات (من ضمنها الحشرات). أما سلسلة العجلانيات العرفية فأظهرت توازنًا بين الجينات المفقودة والمكتسبة.
تؤكد نتائجنا فكرة غولد، إذ ظهرت الحياة الحيوانية جينيًّا عبر مغادرة الحانة والقفز إلى السكة (أي إلى التعقيد). لكن بعد هذه القفزة الكبيرة عادت بعض السلالات للاقتراب من الحانة بفقد الجينات، واقتربت غيرها من الكائنات أكثر نحو السكة عبر اكتساب جينات جديدة.
المصدر: sciencealert
اقرأ أيضًا: