لدينا حليب في الأسواق دائماً ، لكن لا يستطيع الجميع التمتع به، فكأس من الحليب يعني لحوالي 10% من الأمريكيين، 10% من قبيلة توتسي الأفريقية، 50% من الفرنسيين والإسبانيين ، و99 % من الصينيين اضطرابات في المعدة و أعراض هضمية أخرى مزعجة. في الواقع ، معظم البالغين في العالم لا يحتملون اللاكتوز lactose و لا يستطيعون هضمه ، علماً أن اللاكتوز هو السكر الأساسي في الحليب. و رغم هذا ، و بغض النظر عن أجدادنا ، بدأ معظمنا حياته بشرب الحليب بكل سعادة من القوارير أو من الثدي مباشرة ، إذاً ما الذي تغير منذ وقتها؟ لمَ يستمتع الأطفال باللاكتوز على عكس الكثير من البالغين؟
يتم هضم اللاكتوز عن طريق أنزيم اسمه اللاكتاز lactase ، و الذي يتصرف كمقص جزيئي يفصل مركب اللاكتوز إلى جزئين ، كلّ من يشرب الحليب في صغره يحمل نسخة جينية فعالة لشفرة اللاكتاز ، و في الأفراد البالغين الذين لا مشكلة لديهم مع اللاكتوز يستمر هذا الجين بالعمل بسبب طفرة ، ليصنع البروتين الذي يهضم اللاكتوز جاعلاً من أكل البوظة تجربة ممتعة. لكن في من لا يطيقون اللاكتوز يتعطل هذا الجين بعد الفطام ، و الآن و وفقاً لبحث جديد يبدو أن أجداد الأوروبيين الذين عاشوا في العصر الحجري لم يكونوا قادرين على هضم الحليب أيضاً ، إذاً كيف تحولوا من آلام المعدة إلى شاربي حليب؟ يكمن الجواب في قصتنا التطورية
أين التطور؟
أغلب الثدييات تفقد القدرة على إنتاج اللاكتاز بعد الفطام و بالتالي لا تتحمّل شرب الحليب و فقط 35% من البشر البالغين قادرين على شرب الحليب.
ينتشر تحمّل اللاكتوز في شمال أوروبا فيما يقل في جنويها ، كما ينتشر تحمل اللاكتوز في الجزيرة العربية و جنوب الصحراء الكبرى.
الطفرات التي تبقي جين اللاكتاز فعالاً شائعة مثلاً بين الأوروبيين المعاصرين ، لكن لم يكن الوضع هكذا عند أجدادهم.
في مارس من عام 2007 قام فريق من الباحثين البريطانيين والألمان بالإعلان عن سعيهم لإيجاد هذه الطفرات في بقايا بشر أوروبيين عمرها 7000 عاماً، لم تثمر هذه المحاولة حيث قام الباحثون باستخراج طول (مقطع) من الحمض النووي على علاقة بطفرات احتمال اللاكتوز من ثمانية أفراد عاشوا في العصر الحجري الحديث و واحد من العصر الحجري الوسيط ، لكن تسلسلاتهم الجينية لم تحمل الطفرة المميزة ، و تفترض هذه النتائج أن معظم الأوروبيين لم يستطيعوا هضم اللاكتوز كبالغين حتى 5،000 سنة خلت ، وأنهم لم يطوروا القدرة على هضم اللاكتوز كمجتمع إلا لاحقاً.
تبدو القدرة على هضم اللاكتوز اليوم كأفضلية واضحة ، لكنها لم تكن دائماً كذلك. حيث أن فائدتها محصورة بالمجتمعات التي تملك حيوانات منزلية تدرّ الحليب.
تدل عدة خيوط من الأدلة المأخوذة من جينات الإنسان و جينات المواشي و السجلات الأثرية على أن الشرق الأوسط و شمال أفريقيا قامو بتأهيل المواشي في الفترة بين 7500-9000 سنة خلت. و أن تلك الحيوانات جُلِبت لاحقاً إلى أوروبا.
تظهر أهمية تحمل اللاكتوز في تلك البيئة ، حيث تعتبر القدرة على شرب الحليب مباشرة دون تحويله إلى جبنة قليلة اللاكتوز أفضلية ، حيث تقدم المزيد من الغذاء و تكون مصدراً للماء أثناء الجفاف. و بعد الظهور العشوائي للطفرة (كما كل الطفرات الجينية) الذي أدى إلى تحمل اللاكتوز ظهرت معه أفضلية واضحة لأصحابه ، الذين فضلهم الانتقاء الطبيعي لتُنشر تلك الطفرة عبر سكان أوروبا القدماء و غيرهم ممن انتشرت بينهم الطفرة مع اعتمادهم على الحليب ومشتقاته ، و بعد آلاف السنين نحن نشهد الآن التأثير غير المباشر و الشهي الذي سببه نجاح تلك الطفرة..
المصادر: berkeley.edu, nature, wikipedia, nature
اقرأ أيضًا: اكتشاف أول دليل على السلوك الاجتماعي لدى الثدييات