يتميز إنسان النياندرتال بقدراتٍ ذهنية عالية رغم ما يشاع عنهم بوصفهم سكان كهوف بدائيين. هم ليسوا من أشباه القردة، ومن المجحف بحقهم استخدام كلمة النياندرتال بوصفها إهانة كما يحدث اليوم.
يتراوح حجم أدمغة النياندرتال بين 1200 و1750 سم مكعب. هذا أكبر من متوسط حجم دماغ الإنسان الحالي بالنسبة إلى حجم الجسم. قبل نحو 30 ألف سنة، كان متوسط حجم جمجمة الإنسان العاقل أضخم مما هي عليه الآن.
كان النياندرتال ماهرين في صنع الأدوات، عرفنا ذلك عندما وجدنا رماحهم وفؤوسهم الصّوانية خلال عمليات التنقيب. طور النياندرتال تقنية حجرية مبتكرة قبل نحو 300 ألف سنة تُعرف بـ «تقنية ليفالوا».
تتضمن صقل حجارة يمكن استخدامها بتركيبها في نهاية الأدوات عند الحاجة. هذا يدل على حرية النياندرتال في الهجرة بعيدًا عن مصادر الحجارة ومناجم المعادن التي استخدموها لصنع أدواتهم، إذ استطاعوا تركيب أدواتهم متى شاؤوا.
كانت براعتهم في الصيد واضحة عند دراستنا لفرائسهم التي اصطادوها بأسلحتهم، مثل الماموث والثور الأمريكي والرنة، ما يدل على ذكائهم وقدرتهم على التواصل فيما بينهم.
وجدنا في بقاياهم عظامًا مصابة، منها ما تعافى خلال حياتهم ومنها ما بقي مشوهًا، ما يدل على محاولاتهم لاصطياد فرائس ضخمة، وهذه استراتيجية خطرة تتطلب مهارات متقدمة، وقوة وشجاعةً عظيمة.
طور النياندرتال القدرة على إشعال النار منذ 200 ألف سنة على الأقل، لأنهم احتاجوا إليها لمقاومة البيئات الصعبة. لا بد أن حياتهم كانت قاسية، إلا أن دهاءهم مكّنهم من التغلب على الظروف والأخطار.
الفروق بين النياندرتال والإنسان العاقل
عرفنا أن النياندرتال عاشوا في الكهوف لأننا وجدنا معظم بقاياهم وآثارهم فيها، وهكذا ارتبط نوعهم بتسمية رجل الكهف. لكن الإنسان الحديث عاش أيضًا في الكهوف، وأحد أشهر الأمثلة كان رجل كروماغنون الذي عُثر على بقاياه في فرنسا، ورجل شيدر في كهف غوف الذي عاش في سومرست منذ نحو 10 آلاف عام، وكلاهما من نوعنا ذاته.
أظهرت الدراسات الأثرية أن النياندرتال اعتنوا بمرضاهم ودفنوا الموتى، ما دل على أنهم اجتماعيون ومتعاطفون معًا.
هل عرف النياندرتال الفنون؟
يقول خبير التطور البروفيسور كريس سترنجر: «لا نملك دليلًا قاطعًا حتى الآن على وجود قطع فنية في مواقع النياندرتال. لكنهم دون شك أحرزوا درجةً من الرمزية الفنية بصنعهم الحلي».
في دراسة نُشرت عام 2018، وجد الباحثون دليلًا على عمل فني يعود إلى العصر الحجري القديم في إسبانيا، يرجح العلماء أن من صنعه كان من النياندرتال لأن وقت صناعته سبق مجيء الإنسان الحديث بكثير إلى تلك المنطقة، تضمنت لوحات جدارية ورسومًا بالتثقيب وأشكالًا هندسية.
يقول سترنجر: «يزعم البعض أن السلوكيات الفنية الرمزية عند النياندرتال حدثت في حقبة ما بين وجود النياندرتال ومجيء الإنسان العاقل، أي منذ 40 إلى 60 ألف سنة. أي إن تلك الأعمال قد تعود للإنسان المعاصر، أو إن للإنسان المعاصر أثر في سلوكيات النياندرتال».
تشير الأعمال الجدارية في كهوف إسبانيا إلى قدرة النياندرتال على ممارسة سلوكيات رمزية، أو على التعبير الفني. يضيف الأستاذ سترنجر قائلًا: «هذه الأعمال ضيّقت الفجوة بيننا وبين النياندرتال. ما تزال قدرة النياندرتال على إنشاء أعمال فنية مستوحاة من كائنات حقيقية كالحيوانات أو البشر غير واضحة».
ماذا كان غذاء النياندرتال؟
الصورة النمطية للنياندرتال هي أنهم كائنات مفترسة، محبة للّحم، وأنهم صيادو العصر الجليدي الذين يقتاتون على الماموث الضخم.
لكن دراسة بقايا الطعام المحفوظة في القلح «الجير المتصلب» حول أسنانهم تظهر أن النظام الغذائي للنياندرتال تضمن نباتات مختلفة، جُمعت مباشرة أو بتناول محتويات معدة الفرائس العاشبة. واتضح أنهم تناولوا الفطريات أيضًا. أما النياندرتال الذين سكنوا منطقة جبل طارق في إسبانيا، فقد تناولوا بلح البحر والفقمة الصغيرة وربما الدلفين أيضًا، وربما تناولوا لحوم الجثث التي وجدوها.
ومع أننا متيقنون من قدرتهم على استخدام النار، لم يتأكد أنهم قد استخدموها في الطهو.
هل استطاع النياندرتال الكلام؟
يصعب الجزم بقدرة النياندرتال على النطق باللغة، لأن الأنسجة المحيطة بحناجرهم تحللت. لكنهم امتلكوا أعضاء صوتية مشابهة لأعضائنا تشريحيًا، فعظام الأذن تدل على قدرتهم على الاستماع لترددات صوتية مشابهة لما نسمعه.
نظرًا إلى حياتهم الاجتماعية المعقدة، فمن المؤكد أنهم كانوا يتواصلون معًا ولو بلغة بسيطة.
لماذا انقرض النياندرتال؟
تعود أحدث مستحاثة أثرية دالة على وجود النياندرتال إلى 40 ألف سنة في أوروبا. لم يظهر لهم أي أثرٍ بعد ذلك، ما زالت بعض جيناتهم موجودة لدى الكثير من البشر اليوم رغم انقراضهم.
من المؤكد أن نوع هومونياندرتالينسيس قد انقرض، لكن ما سبب اختفائهم بعد نجاتهم في مختلف البيئات لأكثر من 350 ألف سنة؟
لا نعرف بسبب انقراضهم بعد. إحدى وجهات النظر تقول إننا السبب، إذ توافدت مجموعات البشر الحديثين إلى أوروبا منذ 40 ألف سنة. ربما لم يستطع النياندرتال مجاراة المنافسة في الحصول على الموارد مع البشر العقلاء.
بدأ العلماء استخلاص عينات الحمض النووي من مستحاثات النياندرتال سنة 1997، ما أدى إلى إعادة بناء عدة نسخ من جينوم كامل لهم. واستنتجنا أن النياندرتال الذين سكنوا المناطق الأوروبية من إسبانيا إلى سيبيريا لم يكن لديهم ذلك التنوع الجينومي المُفترض وجوده لدى الأنواع الحية في مساحة واسعة مثل أوروبا خلال 20 ألف سنة الماضية.
بدراسة جينوم أنثى نياندرتال سكنت جبال تاي، وجدنا أدلة على حدوث تزاوج بين الأقارب في الجماعة التي عاشت فيها، ما يشير إلى قلة أعدادهم وانعزال الجماعات عن بعضها.
يبدو أن التقلبات الجوية الشديدة سببت تشتت جماعات النياندرتال بين البقاع باستمرار خلال 100 ألف سنة الأخيرة لوجودهم، ما منع نشأة قبائل كبيرة والتنوع الجيني عبرها.
لم ينقرض النياندرتال من جميع المناطق في آن واحد، بل كان فناؤهم تدريجيًا، ربما كان البشر العقلاء أصلح للبقاء من النياندرتال فحلوا محلهم في المناطق التي انقرضوا منها، دون أن يكون مجيء البشر سببًا مباشرًا في هذا الانقراض.
يُعد تغير المناخ عاملًا آخر ساهم أيضًا في انقراضهم. تأثرت كمية النباتات في أراضي النياندرتال بالعوامل البيئية وباختلاف درجات الحرارة، وتأثرت أعداد الفرائس التي اصطادوها بذلك أيضًا. وهكذا، لم ينجُ إلا المخلوقات التي استطاعت المقاومة، متضمنةً البشر.
اقرأ أيضًا:
كيف يتحول التبادل المنفعي بين الأنواع إلى معارك تطورية؟
ترجمة: ليلى حمدون
تدقيق: أكرم محيي الدين
المصدر: Natural History Museum