
تُعد منطقة التفاعل بين الأم والجنين نقطة التقاءٍ فريدة بين خلايا الطرفين أثناء الحمل، وقد عُرفت تقليديًا بأنها ساحة صراع؛ إذ تقوم المشيمة، وهي عضو ينتمي إلى الجنين، بغزو أنسجة الأم للحصول على العناصر الغذائية اللازمة لنموه.
تُعد هذه الظاهرة استثناءً فريدًا في علم الأحياء، فعادة ما يرفض الجهاز المناعي أي خلايا غريبة عن الجسم. مع ذلك يتقبل الجهاز المناعي للأم خلايا الجنين أثناء الحمل. وبالمقابل، تعمل خلايا الأم على ضبط هذا الغزو وتحديد مداه بحيث تبقى العلاقة في حالة من التوازن الدقيق بين التقدم والتراجع. وقد استمر هذا التفاعل المعقد، الذي يجمع بين الصراع والتعايش، بالتطور على مدى ملايين السنين.
في دراسة نُشرت حديثًا في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)، كشف فريق بحثي بقيادة كشيتيز، الأستاذ المشارك في قسم الهندسة الطبية الحيوية في كلية طب الأسنان بجامعة كونيتيكت، أن الحمل ليس مجرد صراعٍ بين الأم والجنين، بل هو نظام تطور دقيق يجمع بين التعاون والتنافس لضمان نجاح الحمل واستمراره.
شارك في إعداد الدراسة ياسر سهيل ووينكيانغ دو (باحثان بعد الدكتوراه)، إلى جانب غونتر فاغنر من جامعة ييل وجونيد أفضال من جامعة كاليفورنيا – سان فرانسيسكو.
التوازن بين الصراع والتعاون
كان غونتر فاغنر، الرئيس السابق لقسم علم الأحياء التطوري في جامعة ييل، وكشيتيز من أوائل من طرح فكرة تطلّب استمرار الحمل لتعاون تطوري متبادل بين الأم والجنين.
ومع أن معظم الأبحاث السابقة ركزت على جانب الصراع الجيني بين الطرفين، تبقى الأدلة على وجود تعاونٍ يضبط هذا الصراع محدودة للغاية.
يقول كشيتيز موضحًا: «يشبه التفاعل بين الأم والجنين، ويُعرف أيضًا بتفاعل المشيمة والرحم، حدودًا لم يُحسَم أمرها بين دولتين. فالفروق بين الأنواع في هذه المنطقة كبيرة للغاية، وهي سِمة لا نجدها في أي عضو آخر».
استعدادًا للحمل، تمر بطانة الرحم بعملية تُعرف باسم «تشكل الغشاء الساقط» (decidualization)، حيث تزداد سماكة أنسجتها في كل دورة شهرية لتُهيئ الرحم لاستقبال الجنين المحتمل.
تُسهم عملية ترسب المصفوفة خارج الخلوية في الحد من الغزو المفرط لخلايا المشيمة داخل بطانة الرحم. غير أن جونيد أفضال ووينكيانغ دو أظهرا أن خلايا المشيمة تمتلك القدرة على التأثير في خلايا الأم نفسها لتفكيك هذه المصفوفة، وهي نتيجة مدهشة قلبت الفهم السائد حول حدود الصراع بين الطرفين.
يقول فاغنر موضحًا:
«هذا الإقناع النشط الذي تمارسه خلايا المشيمة هو ما يدفع خلايا بطانة الرحم لدى الأم إلى خفض دفاعاتها عبر إفراز بروتين محدد، وهو أمر يبعث على الدهشة حقًا».
وفي جانب آخر من الدراسة، عمل ياسر سهيل على نمذجة التفاعلات الجزيئية بين خلايا المشيمة وخلايا بطانة الرحم باعتبارها نظامًا يشبه تدفق التيار الكهربائي، وتمكن من تحديد الدائرة الجزيئية الرئيسة التي تكمن وراء هذا التفاعل المعقد.
يقول سهيل:
«من النادر والمبشر حقًا أن نرى هذا المستوى من التكامل الوثيق بين النمذجة الحاسوبية والتجارب المخبرية. فقد استند نموذجي إلى بياناتٍ تجريبية واقعية، ثم جرى التحقق من نتائجه من خلال التجارب المباشرة».
صورة: المصدر: مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS)، 2025. DOI: 10.1073/pnas.2323038122.
التنافس التعاوني: رؤية جديدة للعلاقة بين الأم والجنين.
في نظرية الألعاب، يُعرف المزيج بين التعاون والتنافس بمصطلح «التنافس التعاوني (Coopetition)» وقد توصل الباحثون إلى أن الواجهة الأمومية – الجنينية تُجسد مثالًا حيًا لهذا المفهوم، إذ تشكل بيئةً نابضة بتفاعلاتٍ خلويةٍ لا تُحصى، تجمع بين المصالح المتعارضة والتنسيق المتبادل بين خلايا الأم وخلايا الجنين.
يوضح كشيتيز أن الفكرة وُلِدت من محادثة جمعته بأستاذ الاقتصاد البريطاني الدكتور أنشومان تشوتاني، الذي لفت انتباهه إلى الأدبيات الواسعة في الاقتصاد القياسي حول مفهوم «التنافس التعاوني». ويقول كشيتيز: «لقد استعرنا هذا المصطلح بسرور؛ فالأمر لا يقتصر على تعاونٍ من بطانة الرحم، بل هو تعاونٌ مُستحث بين خصمين متنافسين».
في هذه الواجهة المعقدة بين الأم والجنين، تبذل خلايا الجنين جهدًا نشطًا لإقناع خلايا الأم بالتوقف عن بناء الأنسجة الواقية، لتتمكن من غزو المشيمة بفاعلية أكبر وانتزاع العناصر الغذائية اللازمة لنمو الجنين. غير أن هذا الغزو ليس أحادي الجانب؛ إذ يتطلب استعداد خلايا الأم للاستجابة لتلك الإشارات الجزيئية الصادرة عن المشيمة.
وهذا ما يبرهن، كما يقول الباحثون، على أن غزو المشيمة هو تفاعل مزدوج يقوم على التنافس والتعاون في آنٍ واحد، لا صراعٍ مطلق كما كان يُعتقد سابقًا.
ولا يُلقي هذا الاكتشاف الضوء على الآليات الدقيقة لمضاعفات الحمل المرتبطة بخلل غزو المشيمة، مثل التصاق المشيمة (Placenta accreta) وتسمم الحمل (Preeclampsia)، فحسب، بل قد يفتح آفاقًا لفهمٍ أعمق لانتشار الخلايا السرطانية في الجسم، بالنظر إلى التشابه المدهش بين آليات غزو المشيمة وغزو الأورام للأنسجة السليمة.
ويختم كشيتيز قائلًا:
«قد تُسهم هذه الدراسة، التي أُنجزت بالتعاونٍ بين جامعة كونيتيكت للصحة وجامعة ييل وجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، في إعادة تشكيل فهمنا لما نسميه «الصراع بين الأجيال»، لا سيما عندما يكون الجنين داخل رحم أمه».
ترجمة: علاء شاهين