
تُعد حركة المواد الوراثية بين الكائنات الحية غير المرتبطة مباشرة عاملًا محوريًا في التطور، لا سيما لدى الكائنات وحيدة الخلية مثل البكتيريا والعتائق. وقد توصل فريق من الباحثين في مختبر بيغلو لعلوم المحيطات إلى أن السلالة الخلوية المتوسطة تكتسب وتحتفظ بنحو 13% من جيناتها كل مليون سنة (أي ما يعادل تبادل نحو 250 جينًا في كل لتر من مياه البحر يوميًا) عبر عملية تُعرف باسم النقل الجانبي للجينات.
وتُقدم الدراسة الجديدة، المنشورة مؤخرًا في المجلة متعددة التخصصات لعلم البيئة الميكروبية (ISME)، أول تحليل كمي لمعدلات نقل الجينات عبر ميكروبيوم بحري كامل. وتشير النتائج إلى ضرورة إعادة النظر في الحدود التصنيفية الصارمة بين الأنواع الفردية، إذ تبين أن العديد من الجينات المنقولة تمنح فوائد بيئية مباشرة، ما يُبرز الدور الحاسم لهذه العملية في تمكين الميكروبات من التكيف مع البيئات الجديدة وتزويدها بقدرات حيوية مهمة، مثل اكتساب القدرة على استغلال العناصر الغذائية الأساسية.
قال راموناس ستيباناوسكاس، كبير الباحثين في مختبر بيغلو والمؤلف الرئيس للدراسة: «خضعت جميع العمليات التي تؤديها الميكروبات على كوكبنا للتطور، ويُعد النقل الجانبي للجينات أحد محركاته الرئيسة. غير أن هذه العملية بالغة التعقيد وعصية على الرصد، ولم يتمكن أحد حتى الآن من تحديد مداها بدقة».
وأضاف: «كنا نعرف من حيث المبدأ كيف تجري هذه العملية، لكننا لم نكن نعلم إطلاقًا ما إذا كان تبادل الجينات في قطرة واحدة من مياه البحر يحدث مرة في الدقيقة، أو مرة في السنة، أو مرة كل مليون سنة. لقد كان ذلك مجهولًا تمامًا، حتى جاءت نتائجنا لتُظهر الصورة بوضوح».
يمكن أن يحدث النقل الأفقي للجينات عبر آليات متعددة، من بينها امتصاص المادة الوراثية الطافية في البيئة، أو النقل المباشر بين الخلايا، أو حقن الحمض النووي الغريب في الخلايا المضيفة بواسطة الفيروسات. مع ذلك، واجه العلماء صعوبة بالغة في قياس هذه العمليات كميًا بسبب التنوع الهائل في الكائنات الميكروبية.
فبينما تتيح مناهج الشجرة التطورية دراسة انتقال بعض الجينات المحددة على نطاق ضيق، جينًا بعد جين، فإنها غير ملائمة لدراسة نظام بيئي بأكمله. وبالمثل، تعتمد الطريقة الشائعة المعتمدة على علم الجينوم التجميعي على تجميع مجموعات من الجينات «النموذجية» المتشابهة، ما يؤدي عمليًا إلى استبعاد الجينات المنقولة النادرة أو تلك الآتية من كائنات حية بعيدة القرابة.
مع ذلك، أتاح التقدم في النمذجة الحاسوبية وجينوميات الخلية الواحدة للعلماء أخيرًا البدء في الإجابة عن هذه الأسئلة المعقدة.

استخدم الفريق جينومات 12 ألف خلية ميكروبية جُمعت عشوائيًا من سطح محيطي المنطقتين الاستوائية وشبه الاستوائية، وقد جرى تسلسلها في مركز جينوميات الخلية الواحدة (SCGC) التابع لفريق ستيباناوسكاس. وتُعد هذه المجموعة الفريدة واحدةً من أضخم مجموعات الجينومات الميكروبية التي أُنتجت حتى اليوم.
قارن الباحثون توزيع الجينات المشتركة في هذه البيانات الواقعية بنموذجٍ حاسوبي افترض أن الجينات تُورث فقط عموديًا بين الآباء والأبناء دون أي انتقال أفقي.
وقال سيافاش ميراراب، الأستاذ بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو والمؤلف المشارك في الدراسة، الذي قاد فريقه تطوير النموذج الحاسوبي: «لقد كانت هذه الدراسة فرصةً مثيرةً لإعادة التفكير في كيفية قياس عملية تطورية أساسية وغامضة في نفس الوقت، وتُشكل البنية الميكروبية للنظم البيئية في العالم بأسره».
أكد هذا المنهج أن معظم الجينات تتبادل بين خلايا ذات قرابة تطورية وثيقة، لكن الأمر يتعدى ذلك. فبعض الجينات التي تحمل أهمية بيئية كبيرة قادرة على الانتقال بنجاح بين ميكروبات بعيدة الصلة، بمقدار بعد علاقة الإنسان عن الكنغر.
فعلى سبيل المثال، اكتشف الباحثون أدلة على أن الميكروبات في بحر سارجاسو الفقير بالفوسفور اكتسبت جينات جديدة تمكنها من امتصاص مصادر بديلة للفوسفور. كما كشفت النتائج عن تبادل جينات مسؤولة عن الحمض النووي الريبوزي الريبوسومي (rRNA)، وهي المكونات الخلوية التي تؤدي دورًا أساسيًا في تصنيع البروتين.
وأوضح راموناس ستيباناوسكاس أن هذا الاكتشاف كان مفاجئًا، لأن هذه الجينات تُستخدم عادةً كمؤشرات قياسية للتنوع الحيوي، إذ كان يُعتقد سابقًا أنها محصنة ضد النقل الجانبي للجينات.
في المرحلة المقبلة، يطمح الفريق إلى توسيع نطاق هذا النهج ليشمل بيئاتٍ مختلفة، مع تحليل الفروق بين السلالات وآليات النقل والنظم البيئية. ويرى الباحثون أن لهذه الجهود انعكاسات كبيرة على مجال التكنولوجيا الحيوية، إذ يمكن أن تساعد في فهم كيفية قيام الطبيعة بـ«هندسة» الخلايا بسرعة وكفاءة لتتكيف مع ظروف وعمليات متنوعة.
ولتحقيق ذلك، يعمل مركز جينوميات الخلية الواحدة (SCGC) باستمرار على تطوير أدواته التحليلية وتوسيع قدراته التقنية لتمكين الدراسات واسعة النطاق المطلوبة لمثل هذه الأبحاث.
وقال سيافاش ميراراب: «أصبح من الممكن اليوم الإجابة عن هذه الأسئلة. لكنّ ذلك يتطلب مواصلة تطوير أدوات النمذجة لدينا وتحسينها».
وأضاف راموناس ستيباناوسكاس: «أرى أن ما توصلنا إليه ليس سوى البداية».
وتابع موضحًا: «لدينا أخيرًا بيانات كافية لإجراء هذا النوع من التحليل الكمي، لكننا لا نزال بحاجة إلى التعمق أكثر لمعرفة مدى تكرار هذه الظواهر في أنواع مختلفة من الميكروبات، والعمليات الكامنة وراءها، وكيف يمكن توظيف هذا الفهم لخدمة البيئة والاقتصاد الحيوي».
ترجمة: علاء شاهين