حفرية من العصر الحجري تكشف جذور أقدم تعديل جمجمة معروف في أوروبا

إعادة بناء افتراضية لجمجمة AC12 V1 مع تحديد المعالم وشبه المعالم: (A، B) صور أمامية وجانبية يسارية لجمجمة AC12 V1 المكتملة؛ (C–E) صور أمامية مائلة وسفلية تُظهر المعالم (نقاط حمراء) وشبه المعالم (نقاط خضراء صغيرة). المصدر: دورية التقارير العلمية (2025) DOI: 10.1038/s41598-025-13561-8.
إعادة بناء افتراضية لجمجمة AC12 V1 مع تحديد المعالم وشبه المعالم: (A، B) صور أمامية وجانبية يسارية لجمجمة AC12 V1 المكتملة؛ (C–E) صور أمامية مائلة وسفلية تُظهر المعالم (نقاط حمراء) وشبه المعالم (نقاط خضراء صغيرة). المصدر: دورية التقارير العلمية (2025) DOI: 10.1038/s41598-025-13561-8.

أفاد فريق بحثي من جامعة فلورنسا بوجود دليل أوراسي مبكر على ممارسة تعديل الجمجمة الاصطناعي (ACM) لدى فرد من أواخر العصر الحجري القديم الأعلى، عُثر على رفاته في كهف أرين كانديد بإيطاليا. وقد أظهر تحليل الشكل أن العينة تنتمي إلى مجموعة تعديل الجمجمة الاصطناعي، بينما أوضح التأريخ بالكربون المشع أنها تعود إلى ما بين 12,620 و12,190 عامًا مضت.

تضرب ثقافة الجسد جذورها عميقًا في التاريخ البشري، بدءًا من أشكال الزينة وصولًا إلى التعديلات الدائمة المسجلة في السياقات الأثرية. لم تكن هذه التحولات مجرد خيارات جمالية، بل كانت تُضفي على المظهر قيمًا ثقافية ودلالات رمزية، بحيث يصبح الجسد المادي نفسه شاهدًا حيًا على الممارسات الثقافية والمعتقدات المجتمعية، وحاملًا للهوية الجماعية والقيم المشتركة.

يمثّل البحث عن مثل هذه الدلائل الثقافية في السجل الأثري تحديًا معقدًا؛ فالوشوم مثلًا لا تُكتشف إلا في ظروف استثنائية تحفظ الأنسجة الرخوة، كما في حالة «أوتسي رجل الجليد». أما الحُلي والزينة الجسدية فتزول مع تحلّل الأنسجة، في حين تبقى العلامات الهيكلية، مثل تعديل الأسنان عمدًا أو تشويه الجمجمة المتعمد، شواهد أكثر ديمومة تكشف عن الممارسات التي صاغت الهوية البشرية عبر آلاف السنين.

غالبًا ما يتميز تشويه الجمجمة المتعمد، المعروف أيضًا باسم تعديل الجمجمة الاصطناعي (ACM)، بأشكاله الواضحة والمميزة. تشمل هذه الممارسة الضغط على رأس الرضيع خلال مراحل نموه الأولى، بهدف إعادة تشكيل الجمجمة قبل التحام عظامها. ويُصنف هذا التعديل عادة إلى نوعين رئيسيين: تعديل سطحي وتعديل محيطي (حلقي).

يُنفذ النوع الأول باستخدام أدوات صلبة مثل الألواح الخشبية، وهو ما يؤدي إلى تسطيح منطقتي القذال والجبهة وتوسيع العظام الجدارية. أما النوع الثاني فيُجرى بأدوات أكثر ليونة، مثل القماش المشدود بإحكام، وينتج عنه استطالة عامة في الجمجمة العصبية.

وُثقت هذه الممارسة عبر قارات مختلفة، وامتدت لآلاف السنين من أواخر العصر الحدث الأقرب وصولًا إلى العصور التاريخية الحديثة. تبدو هذه التعديلات واضحة في الجماجم السليمة، غير أن البقايا العظمية غالبًا ما تصلنا مجزأة. لكنها، ومع ذلك، تعد كافية للكشف عن هذه الممارسة بمساعدة التحليل الإحصائي.

في دراسة بعنوان «أدلة أوروبية مبكرة على تعديل الجمجمة الاصطناعي من كهف أرين كانديد الإيطالي في أواخر العصر الحجري القديم الأعلى»، نُشرت في دورية التقارير العلمية، استعان الباحثون بأساليب الأنثروبولوجيا الافتراضية والقياسات المورفولوجية الهندسية لمقارنة شكل جمجمة الفرد المكتشَف (AC12) بعينات إيطالية تعود إلى العصر الحجري القديم الأعلى، والعصر الحجري المتوسط، والعصر الحجري الحديث، إضافة إلى عينات أظهرت تعديلات مرضية، وعينة عالمية لحالات تعديل الجمجمة الاصطناعي.

في كهف أرين كانديد على الساحل الليغوري في شمال غرب إيطاليا، وُجدت مقبرة تعود إلى ثقافة إبي-غرافيتيان، وهي ثقافة من أواخر العصر الحجري القديم الأعلى. امتد استخدام هذه المقبرة حتى عصر الدرياس الأصغر، وهو طور مناخي قصير اتسم بعودة مفاجئة للبرد القارس في ختام العصر الجليدي الأخير قبل ما يقارب 12 ألف سنة.

وُضعت جمجمة AC12 عمدًا فوق جمجمة AC15 داخل كُوَّة حجرية، وعُثر بجوارها على عناصر من الفك السفلي وبعض العظام القحفية الثانوية. وتشير تواريخ العظام غير القحفية الخاصة بـAC12 إلى فترة زمنية تتراوح بين 12,620 و12,190 سنة مضت، مع ملاحظة وجود منحنى معايرة مسطّح للتواريخ في هذه المرحلة.

ولإعادة بناء جمجمة AC12، استعان الباحثون بتقنيات الأنثروبولوجيا الافتراضية، فأجروا أربع عمليات إعادة بناء رقمية مستقلة إضافةً إلى الترميم الأصلي. وشملت هذه الإجراءات تصوير الجمجمة بالأشعة المقطعية لتوليد نموذج ثلاثي الأبعاد، وفصل الأجزاء المكونة يدويًا على الكمبيوتر، ومطابقة القطع العظمية وتجميعها باستخدام برنامج MeshLab ICP . بعد ذلك، حُددت المعالم التشريحية على الجمجمة، كما أضاف الباحثون نقاطًا رقمية على الأسطح المنحنية للجمجمة لتوضيح شكلها العام. وأُدخلت هذه البيانات في تحليل بروكرستس المعمم (GPA) لمقارنة الأشكال، وفي تحليل المكونات الرئيسية (PCA) الذي يوضح أوجه التشابه والاختلاف بين جمجمة AC12 وغيرها من العينات.

أظهر تحليل المكوّنات الرئيسية أن جميع عمليات إعادة بناء الجمجمة، إلى جانب العينة الأصلية، توافقت مع النمط المميز لحالات التعديل الحلقي للجمجمة (Annular ACM)، وابتعدت تمامًا عن توزيعات العينات الطبيعية من العصور الحجرية (العصر الحجري القديم الأعلى، والوسيط، والحديث)، وكذلك عن العينات ذات التشوهات المرضية.

أكدت النماذج الإحصائية هذه النتيجة بوضوح؛ إذ أظهرت أن احتمالية انتماء الجمجمة AC12 إلى الحالات المرضية أو الطبيعية كانت منخفضة جدًا (أقل من 0.05، أي تكاد تُستبعد إحصائيًا)، في حين ارتفعت الاحتمالية بوضوح في حالة التعديل الاصطناعي للجمجمة (ACM)، ما يدعم هذا التصنيف. كما أن نموذج الانحدار اللوجستي متعدد الحدود أثبت دقة عالية، بلغت 93.48% عند استخدام المعالم التشريحية فقط، وارتفعت إلى 100% عند دمجها مع شبه المعالم، وهو ما يؤكد أن جمجمة AC12 تندرج في جميع الاختبارات ضمن فئة التعديل الاصطناعي للجمجمة.

أظهرت تحليلات بروكروستس أن جمجمة AC12 تشبه بدرجة كبيرة الجماجم التي خضعت لتعديل اصطناعي للجمجمة، بينما لا تنطبق عليها السمات المرضية، مثل انغلاق الدروز المبكر، التي تُفسر عادةً تشوهات الشكل. وهذا يعني أن مظهرها المطوَّل والمسطَّح ناتج عن تعديل متعمَّد لا عن حالة مرضية.

وبناءً على ذلك، استنتج الباحثون أن جمجمة AC12 تمثل أقدم حالة موثقة لتعديل الجمجمة الاصطناعي في أوروبا، ما يُثبت امتداد هذه الممارسة إلى العصر الحجري القديم، ويؤكد انتشارها على نطاق عالمي. ويُشير وجودها في إطار برنامج جنائزي معقّد إلى أن هذا التعديل كان ممارسة ثقافية مقصودة، استخدمت كرمز للهوية والانتماء في مجتمعات الصيد والجمع.

اللافت أن جمجمة واحدة فقط من بين خمس جماجم سليمة في الموقع أظهرت علامات تعديل، ما يوحي بأنها كانت إشارة فرعية تخص فئة معينة داخل المجتمع، لا ممارسة شائعة على مستوى الجماعة بأكملها. مع ذلك، يجسّد هذا التشكيل الدائم الذي خضع له الرضيع انتقال الهوية عبر الأجيال من خلال الجسد الإنساني ذاته.

ترجمة: علاء شاهين

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *