الذكاء الاصطناعي يفك شيفرة 400 مليون سنة من تطوّر الإنزيمات

الشكل ثلاثي الأبعاد لإنزيم الخميرة Erg11، كما ولدته خوارزميةAlphaFold2 . تُثبِط مركبات الأزول، وهي فئة متخصصة من مضادات الفطريات أنزيم الخميرة. غير أن أي تغير في بنية الأنزيم قد يمنح الفطريات قدرة على مقاومة تلك الأدوية. المصدر: Charité | Markus Ralser.
الشكل ثلاثي الأبعاد لإنزيم الخميرة Erg11، كما ولدته خوارزميةAlphaFold2 . تُثبِط مركبات الأزول، وهي فئة متخصصة من مضادات الفطريات أنزيم الخميرة. غير أن أي تغير في بنية الأنزيم قد يمنح الفطريات قدرة على مقاومة تلك الأدوية. المصدر: Charité | Markus Ralser.

الإنزيمات هي جزيئات بروتينية تحفز التفاعلات الكيميائية داخل الكائنات الحية، وهي ضرورية لجميع وظائف الحياة. ولتحليل كيف تطورت هذه الإنزيمات عبر الزمن، استخدم باحثون من مستشفى شاريتيه الجامعي في برلين خوارزمية AlphaFold2 المدعومة بالذكاء الاصطناعي، ما أتاح لهم دراسة أنماط تطور الإنزيمات على نطاق واسع وبصورة لم تكن ممكنة من قبل.

في دراسة نُشرت في مجلة نيتشر (Nature)، استعرض الباحثون الأجزاء من بنية الإنزيمات التي تتغير بصورة سريعة نسبيًا، مقابل تلك التي تحتفظ بثباتها عبر الزمن. وتكتسب هذه النتائج أهمية بالغة في مجالات عدة، مثل تطوير مضادات حيوية جديدة على سبيل المثال.

تشبه الإنزيمات في وظيفتها كيميائيي الطبيعة المصغرين؛ فهي جزيئات بروتينية نانومترية، لكنها تضمن حدوث التفاعلات الكيميائية داخل كل خلية وفي جميع الكائنات الحية. ومع أننا لا نشعر بوجودها، فتأثيرها حاضر في تفاصيل حياتنا اليومية، إذ تُمكن أجسامنا، وأجسام الكائنات الدقيقة، من هضم الطعام والاستفادة منه.

ومن دونها، لما كان هناك خبز، ولا جعة، ولا جبن. وتدخل الإنزيمات كذلك في عدد كبير من التطبيقات الصناعية، أبرزها صناعة الأدوية والمنظّفات، فضلًا عن دورها الجوهري في فاعلية وآلية عمل العديد من العقاقير الطبية.

يقول البروفيسور ماركوس رالسر، مدير معهد الكيمياء الحيوية في مشفى شاريتيه ورئيس فريق البحث: «كان هدفنا فهم القواعد التي تتحكم في تغير البنية ثلاثية الأبعاد للإنزيمات مع مرور الزمن.

فإذا تمكنا من تحديد هذه القواعد، سنكون قادرين على التنبؤ، مثلًا، بكيفية اكتساب البكتيريا للمقاومة ضد المضادات الحيوية وتوقيت حدوثه».

تُوجَه العديد من المضادات الحيوية ومضادات الفطريات ضد إنزيمات مُحددة لمسببات الأمراض التي تستهدفها. وإذا طرأ تغير على بنية هذه الإنزيمات في المواقع التي يرتبط بها الدواء، فقد تنخفض فاعليته أو تزول تمامًا.

وينطبق هذا المبدأ على العديد من الأدوية الأخرى، من بينها بعض العلاجات المضادة للسرطان، التي تستهدف إنزيمات داخل الخلايا الورمية. وقد تُغير هذه الإنزيمات بنيتها أثناء فترة العلاج، ما يؤدي إلى تراجع فاعلية الدواء أو فقدانها بالكامل.

كان استخدام الذكاء الاصطناعي الوسيلة الوحيدة للإجابة عن أسئلة البحث

ليس من السهل تحديد المبادئ التي تحكم تطور الإنزيمات، إذ يتطلب الأمر مقارنة الشكل ثلاثي الأبعاد لعدد هائل من الإنزيمات. غير أن هذا النوع من المعلومات لم يكن متاحًا في السابق لمعظم الإنزيمات، لأن تحديد البنية الفراغية لإنزيم واحد باستخدام الأساليب التجريبية التقليدية قد يستغرق عدة أشهر من العمل المختبري المكثف.

يقول رالسر: «بدلًا من ذلك، استعنا بخوارزمية AlphaFold2 وتمكنا من التنبؤ بالبنية ثلاثية الأبعاد لما يقرب من 10,000 إنزيم خلال بضعة أشهر فقط».

تعتمد خوارزمية AlphaFold2 على الذكاء الاصطناعي، وتستنتج البنية ثلاثية الأبعاد للإنزيم بالاعتماد على تسلسل الأحماض الأمينية، أي تركيبته الكيميائية فقط. وأثبتت هذه الخوارزمية دقة استثنائية في التنبؤ.

في عام 2020، نالت AlphaFold2 إشادة عالمية بوصفها إنجازًا علميًا غير مسبوق، وفي العام الماضي، أي بعد أربع سنوات فقط، مُنح مطوروها جائزة نوبل في الكيمياء.

حوسبة فائقة لتتبع مسار التطور

يتطلب تشغيل AlphaFold2 قدرة حوسبية هائلة، وهو ما وفره الفريق عبر الاستعانة بالحاسوب العملاق «بيرزيليوس» في السويد، وفقًا لما أوضحه الدكتور أوليفر ليمكه، الباحث في مختبر رالسر وأحد المؤلفَين الرئيسيين للدراسة.

يُدار هذا الحاسوب، الذي تبلغ قدرته 300 بيتافلوب، من قبل المركز الوطني للحوسبة الفائقة في جامعة لينشوبينغ، ويُتاح لفِرَق البحث الدولية عند الطلب.

في مشفى شاريتيه، عمد الباحثون إلى تحليل أوجه التشابه والاختلاف بين نحو 11,300 إنزيم، وفحصوها في سياق التفاعلات الأيضية التي تشارك فيها. شملت الدراسة ما يقرب من 10,000 بنية ثلاثية الأبعاد ولدها الفريق بنفسه باستخدام خوارزمية AlphaFold2، إلى جانب نحو 1,300 بنية أخرى كانت قد توقعتها الخوارزمية سابقًا وأُتيحت للعموم.

ركزت الدراسة على إنزيمات الخمائر، وهي فطريات وحيدة الخلية تشمل الخميرة المستخدمة في الخبز، على سبيل المثال.

يوضح الدكتور بنجامين هاينيكه، المؤلف الرئيسي الثاني للدراسة من مختبر رالسر: «تُعد خمائر الفطريات من أكثر الكائنات الحية التي دُرست علميًا حتى اليوم. وتعد البيانات المتوفرة عنها، سواء في ما يتعلق بجينات الإنزيمات أو بالمسارات الأيضية، من بين الأوسع والأدق على الإطلاق». شمل التحليل في هذه الدراسة إنزيمات تعود إلى 27 نوعًا مختلفًا من الخمائر، تطورت على مدى زمني يُقدر بنحو 400 مليون سنة.

الكيمياء هي العامل الحاسم في تغير الإنزيمات

توصل فريق البحث إلى عدد من القواعد التي تنظم الكيفية التي تتطور بها الإنزيمات عبر الزمن. فقد تبين أن التغيرات تحدث بوتيرة أسرع على سطح الإنزيم مقارنةً بجزئه الداخلي.

أما ما يُعرف باسم «المركز النشط»، أي الموقع الذي تتم فيه التفاعلات الكيميائية، فيبقى مستقرًا إلى حد كبير عبر فترات زمنية طويلة. وإذا كان الإنزيم يحتاج إلى الارتباط بجزيئات أخرى عبر سطحه لأداء وظيفته، فإن هذه المناطق أيضًا تبقى مستقرة ولا تتغير بسهولة.

يقول رالسر: «باختصار، يمكن القول إن الإنزيمات تميل إلى التطور في المناطق التي لا تؤثر على سير التفاعل الكيميائي. وهذا يعني أن الأيض نفسه يؤدي دورًا أساسيًا في تطور بنية الإنزيمات».

تكتسب نتائج هذه الدراسة أهمية بالغة في تطوير وتحديث العمليات البيوتكنولوجية، إلى جانب تصميم جزيئات دوائية جديدة أكثر فاعلية.

وبالعودة إلى مثال المضادات الحيوية، يوضح رالسر: «في بعض الأحيان تظهر سلالات مقاومة بعد وقت قصير من طرح مضاد حيوي جديد في الأسواق».

«ويعود ذلك إلى أن الإنزيمات البكتيرية التي تستهدفها العوامل الدوائية الفعالة تتغير بوتيرة سريعة، ما يُفقد الدواءَ تأثيره. يمكن استخدام البيانات التي جمعناها في تحديد أجزاء الإنزيم التي تبقى ثابتة ولا تتغير بسهولة. ومن المحتمل أن تحتفظ المضادات الحيوية الجديدة التي تستهدف هذه المناطق بدقة بتأثيرها لفترة أطول».

ترجمة: علاء شاهين

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *