الطيران بالأيدي: تطور أجنحة الخفافيش

يُظهر تطور أطراف الفئران والخفافيش أنماطًا متشابهة في كيفية تشكل الأصابع، بما في ذلك موت الخلايا بين الأصابع أثناء النمو الجنيني. حقوق الصورة: نيتشر إيكولوجي أند إفوليوشين (Nature Ecology & Evolution) (2025) DOI: 10.1038/s41559-025-02780-x.

لطالما أذهل حلمُ الطيران البشريةَ جمعاء. ففي تاريخ التطور، ظهرت القدرة على الطيران ثلاث مرات فقط بشكل مستقل: لدى الطيور، والتيروصورات، وفي الخفافيش بشكلٍ فريد بين الثدييات.

تتشابه أجنحة الخفافيش هيكليًا مع أيدي البشر، فتحتوي على عظام وأوعية دموية وأعصاب وأوتار. يكمن الاختلاف الرئيسي بوجود غشاء جلدي مرن عند الخفاش يُسمى الغشاء الجناحي بين الأصابع (chiropatagium)، يمتد بين الأصابع الطويلة من الثانية إلى الخامسة. وتمتلك الخفافيش أيضًا غشاءان إضافيان، هما الغشاء بين الأطراف الأمامية والخلفية (plagiopatagium) والغشاء بين الساقين (uropatagium).

بخلاف أجنحة الطيور أو الحشرات، تتمتع أجنحة الخفافيش بمرونة تتيح لها الحركة كاليد أثناء الطيران، ما يمنحها قدرة عالية على المناورة ويجعلها من أكثر الكائنات رشاقة وكفاءة في التحليق. من الناحية التطورية، حقق هذا التكيف نجاحًا كبيرًا: إذ تُعد الخفافيش (رتبة الخفاشيات) ثاني أكثر مجموعات الثدييات تنوعًا بعد القوارض، فتضم حوالي 1400 نوع، وتتواجد في جميع أنحاء العالم، باستثناء الصحاري القاحلة والمناطق القطبية.

لطالما شكّل نشوء قدرات استثنائية عند الكائنات الحية، كالقدرة على الطيران، وما يرافقها من تحوّلات تشريحية ووظيفية وكيفية ترميزها جينيًا، لغزًا شغل علماء الأحياء منذ زمن داروين.

يُعد جناح الخفاش مثالًا صارخًا على الابتكار التطوري، ونموذجًا فريدًا لدراسة الأسس الجزيئية للصفات الجديدة والتحولات الشكلية. وبالاستعانة بأحدث التقنيات، تمكن الباحثون من الوصول إلى نتائج مذهلة حول البرامج الجينية التي تفرق بين اليد والجناح، وما يصاحبها من تغيرات في البنية.

يقول البروفيسور ستيفان موندلوس، المؤلف المراسل للدراسة: «اخترنا الخفافيش لأنها تمثل نموذجًا مثاليًا للتكيف الشكلي. فأطرافها توفر نظامًا نموذجيًا رائعًا لفهم كيف يمكن للتطور أن يُنتج أشكالًا ووظائف متنوعة. تخيل أطراف الحصان، أو زعانف الدلفين، أو أيدينا نحن، أو أجنحة الخفافيش، كلها أمثلة جوهرية على الكيفية التي يُعيد بها التطور تشكيل البنية ليمنحها وظيفة جديدة تمامًا».

في دراستهم الجديدة، المنشورة في مجلة نيتشر إيكولوجي أند إفوليوشين (Nature Ecology & Evolution)، حلل الفريق المراحل الحاسمة في نمو الأطراف عند بداية تشكل الجناح، وذلك من خلال المقارنة بين أجنة الخفافيش والفئران. وأجروا تحليلات شاملة للجينوم، بالاستعانة بتقنية تسلسل النسخ أحادي الخلية (scRNA-seq)، إلى جانب تطبيق أدوات حاسوبية متقدمة لتحليل البيانات وتفسيرها.

كان هذا العمل ثمرة تعاون بين مختبرات موندلوس (معهد ماكس بلانك لعلم الوراثة الجزيئي، برلين، ألمانيا)، وداريو ج. لوبيانيز (مركز ماكس-ديلبروك، برلين، ألمانيا، ومركز الأندلس لعلم الأحياء التنموي، إشبيلية، إسبانيا)، وفرانسيسكا م. ريال (معهد ماكس بلانك لعلم الوراثة الجزيئية، ومركز أندلس لعلم الأحياء التنموي).

تُعد مقارنة بيانات الخلية الواحدة مع بيانات الجينوم بين أنواع مختلفة تحديًا كبيرًا في هذا المجال البحثي، لا سيما عند التعامل مع كائنات غير نموذجية مثل الخفافيش. مع ذلك، تُوفر تقنية تسلسل النسخ أحادي الخلية المتقدمة فهمًا دقيقًا للنشاط الجيني داخل كل خلية في العضو النامي خلال مراحله المختلفة. ومن خلال مقارنة الأطراف الأمامية (الجناح) والخلفية (الساق) لدى الخفافيش والفئران، تمكن الباحثون من تصنيف أنواع الخلايا المشاركة في تكوين الجناح، وكشفوا عن بعض الاكتشافات غير المتوقعة.

يوضح ريال، المؤلف المراسل للدراسة: «من أكثر النتائج المفاجئة التي واجهناها أن جميع أنواع الخلايا ووظائفها في الأطراف تبدو محفوظة بين الأنواع. كنا نتوقع في البداية أن توفر هذه التقنية وتحليلاتها المتقدمة فهمًا واضحًا لبعض الخلايا الفريدة لدى الخفافيش، باعتبار أن أجنحتها تختلف اختلافًا كبيرًا عن أطراف الفئران».

كشف العلماء عن مبدأ تطوّري مهم يتجلّى خلال مراحل النمو الجنيني، ويتمثل في إعادة استخدام البرامج الجينية نفسها في خلايا مختلفة، بدلًا من ابتكار آليات جديدة بالكامل. على وجه الخصوص، تبين أن الخلايا التي تُشكل الغشاء الجناحي بين الأصابع لا تختلف اختلافًا جوهريًا عن الخلايا الأخرى في أجزاء أخرى من الأطراف. ما يتغير هو توقيت وموقع تنشيط الجينات. في أنواع أخرى، عادةً ما تُفعل هذه الجينات في مرحلة مبكرة من النمو، وفي الجزء القريب من برعم الطرف فقط. أما في الخفافيش، فتُفعل الجينات نفسها لاحقًا وفي المناطق البعيدة من الطرف النامي.

يخلص كريستيان فيريغرينو، المؤلف الرئيسي للدراسة، إلى أن «الخلايا الموجودة في الجزء القريب من الطرف تتشابه في هويتها مع الخلايا التي تُشكل الجناح لاحقًا. وهذا يعكس آلية التطور. والسؤال الأهم هو: كيف يُنظم هذا البرنامج الجيني بدقة في المكان والزمان؟ هل يُمكننا تحديد اختلافات جوهرية في الجينوم تُحفز هذه العملية برمتها منذ البداية؟».

ترجمة: علاء شاهين

المصدر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *