رسم توضيحي يُظهر الفرق بين أنواع بكتيريا البوريليا التي تنقلها القمل وتلك التي تنقلها القراديات.
حقوق الصورة: بوجا سولي، مقتبس من سولي، ب. (2025)، مجلة ساينس.
حلل باحثون في «معهد فرانسيس كريك» وكلية لندن الجامعية حمضًا نوويًا قديمًا لبكتيريا البوريليا الراجعة، وهي نوع من البكتيريا المسببة لما يُعرف بـ «الحمى الراجعة»، فتمكنوا من تحديد الزمن الذي تطورت فيه هذه البكتيريا لتنتقل عبر القمل بدلًا من القراد، كما تتبعوا كيفية اكتسابها وفقدانها للجينات خلال هذه المرحلة من تطورها.
يُرجَّح أن هذا التحوّل في وسيلة انتقال البكتيريا قد اقترن بتحوّلات طرأت على نمط الحياة البشرية، مثل الاستقرار في مجتمعات أكثر ازدحامًا وتقاربًا، وبداية ازدهار تجارة الصوف.
تُسبب بكتيريا البوريليا الراجعة مرض الحمى المتكررة، وهي حالة تتميز بنوبات متكررة من الحُمى، وتظهر عادةً في مناطق تعاني من ضعف خدمات الصرف الصحي أو الاكتظاظ السكاني، كما هو الحال في بعض مخيمات اللاجئين. وتُعد هذه البكتيريا من أقارب البكتيريا التي تُعرف اليوم بأنها تُسبب داء لايم.
ورد في بعض السجلات التاريخية البريطانية إشارات إلى فترات تفشى فيها ما يُعرف بـ «التيفوس الوبائي» أو «داء التعرق»، ويُحتمل أنها نُجمت عن الإصابة ببكتيريا البوريليا الراجعة، إلا أن شح البيانات جعل من تحديد السبب المرجح لهذه الأوبئة أمرًا غير محسوم حتى اليوم.
لا يُعرف سوى ثلاثة أنواع من البكتيريا خضعت لتحوّل تطوّري نادر، من بينها البوريليا الراجعة، إذ انتقلت هذه البكتيريا من الاعتماد على القراديات إلى القمل كناقل رئيسي للعدوى. وقد أدى هذا التحول إلى تغير شدة المرض الذي تسببه. وحتى وقت قريب، لم يكن معروفًا متى حدث هذا الانتقال تحديدًا، ولا مدى تأثيره على طريقة انتشار المرض أو على خطورته لدى الإنسان.
حلل العلماء الشيفرة الوراثية الكاملة لأربع عينات من البوريليا الراجعة، تعود إلى ما بين 600 و2,300 عام، وتشمل أقدم جينوم معروف حتى الآن لهذا النوع من البكتيريا. ما يجعل إحدى هذه العينات أقدم جينوم معروف لهذه البكتيريا. استخرجت هذه العينات من هياكل عظمية لأشخاص كانوا مصابين بالعدوى قبل مئات السنين. والحمض النووي المستخلص منها هو بقايا للبكتيريا التي كانت تدور في دمهم ذات يوم، واحتُجزت في العظام والأسنان.
كشفت تحاليل الأسنان عن وجود آثار للحمض النووي الخاص ببكتيريا البوريليا الراجعة. واحتوت عينتان من بين العينات الأربع على كميات مرتفعة نسبيًا من هذا الحمض النووي، ما يشير إلى احتمالين: إما أن يكون هذان الشخصان قد توفيا نتيجة إصابة حادّة وشديدة، أو أن المادة الوراثية للبكتيريا حُفظت في هاتين العينتين بحالة استثنائية.
صورة جوية لكنيسة العصور الوسطى في بولتون، تشيشير. الحقوق: ستيف بوتڤان.
التكيف مع قمل الإنسان
درس الباحثون الاختلافات بين جينومات البوريليا الراجعة القديمة ونظيرتها الحديثة، بهدف تتبع تغير هذه البكتيريا عبر الزمن. وتوصلوا إلى أن البوريليا الراجعة قد انفصلت تطوريًا عن أقرب أقاربها المنقولة بالقراد، البوريليا الدوتونية، منذ حوالي 6,000 إلى 4,000 عام.
أظهرت المقارنة بين جينومات البوريليا الراجعة و البوريليا الدوتونية أن البكتيريا فقدت جزءًا كبيرًا من مادتها الوراثية خلال انتقالها من القراد إلى القمل، لكنها اكتسبت في المقابل جينات جديدة بمرور الزمن. وقد أثرت هذه التغيرات الجينية في قدرة البكتيريا على التخفي من الجهاز المناعي، وكذلك على قابليتها لتبادل الحمض النووي مع بكتيريا أخرى مجاورة، ما يشير إلى أن البوريليا الراجعة قد تطورت لتتكيف مع العيش داخل قمل الإنسان بشكل خاص.
الظروف المثالية
استنادًا إلى تسلسل الجينومات القديمة والحديثة، حدث الانفصال التطوري لبكتيريا البوريليا الدوتونية عن سلفها المنقول بالقراد خلال فترة الانتقال من العصر الحجري الحديث إلى العصر البرونزي المبكر، وهي حقبة تميزت بتحولات كبيرة في أنماط الحياة البشرية، حيث بدأ الناس بتدجين الحيوانات والعيش في مستوطنات أكثر كثافة سكانية. ويُحتمل أن تكون هذه البيئة الجديدة قد ساعدت بكتيريا البوريليا الراجعة على الانتقال بين البشر بسهولة أكبر.
صورة جوية لمقبرة أوغسطينية من أواخر العصور الوسطى في مدينة كانتربري. الحقوق: مؤسسة كانتربري للآثار.
ويرجح الباحثون أن يكون تطور تربية الأغنام لأغراض إنتاج الصوف في تلك الحقبة قد وفر ميزة إضافية للعوامل الممرِضة المنقولة عبر القمل، إذ يُهيئ الصوف بيئة مناسبة أكثر لوضع القمل لبيوضه وتكاثره.
يستنتج الباحثون أن تطور البوريليا الراجعة يُبرِز كيف يمكن للتغيرات الجينية والبيئية معًا أن تُسهل انتشار العوامل الممرضة وقدرتها على إصابة المجتمعات البشرية.
قالت بوجا سولي، زميلة أبحاث في كلية لندن الجامعية (UCL)، وطالبة دكتوراه سابقة في معهد كريك والمؤلفة الرئيسية للدراسة:
تُعد الحمى الراجعة المنقولة بالقمل من الأمراض المُهمَلة، ولا تتوفر لها جينومات حديثة كافية، ما يُعقد دراسة تنوعها الوراثي. وقد أتاح لنا إدراج أربع جينومات قديمة لبكتيريا البوريليا الراجعة في قاعدة البيانات تكوين سلسلة زمنية تطورية، مكنتنا من تتبع التغيرات التي طرأت على مادتها الوراثية عبر العصور.
وأضافت:
«يشير تسلسل الجينوم إلى وجود اتجاه نحو التدهور الوراثي خلال مرحلة تكيف البوريليا الراجعة مع قمل الإنسان كناقل، ومع ذلك تُظهر البيانات أن التطور ظل نشطًا حتى نحو ألف عام مضت، حين بدأت الجينومات تأخذ الشكل الذي نعرفه اليوم».
ريتشارد مادجويك (يسار الصورة)، وجاك راندل (وسط الصورة)، وجيسيكا بيتو (إلى يمين الصورة) داخل غرفة «بون آيدل» في كهف فيشمونغرز سوالِت. الحقوق: أديل بريكنغ.
خريطة تُظهر مواقع العينات الأربع من جينوم بكتيريا البوريليا الدوتونية والفترة الزمنية التي تعود إليها.
حقوق الصورة: بوجا سولي، (2025)، مجلة ساينس.
مخطط زمني يُبين متى تطورت البوريليا الدوتونية لتنتقل عبر القمل بدلاً من القراد.
حقوق الصورة: بوجا سولي، (2025)، مجلة ساينس.
قال بونتوس سكوجلوند، رئيس مختبر الجينوميات القديمة في معهد كريك وأحد المؤلفين المشاركين في الدراسة:
«يمكن للحمض النووي القديم أن يُعزز من فهمنا لأمراض مهمة لم تحظَ بالاهتمام الكافي، مثل الحُمى الراجعة. وقد يساعد فهم كيفية ازدياد خطورة بكتيريا مثل البوريليا الراجعة في الماضي على توقع كيفية تتغير الأمراض في المستقبل».
أشار الباحثون إلى أن الإطار الزمني الذي حددوه يُرجح أن التغيرات التي طرأت على أنماط الحياة البشرية، كاستخدام مواد جديدة في صناعة الملابس أو الانتقال إلى العيش ضمن تجمعات سكانية أكبر، قد هيأت الظروف المناسبة لبكتيريا البوريليا الدوتونية للانتقال من الاعتماد على القراد إلى القمل كوسيط في نقل العدوى، ما أسهم في زيادة شراستها. ويُعد هذا مثالًا على التفاعل التطوري المتبادل بين البشر والعوامل الممرِضة.
قالت الدكتورة لوسي فان دورب، رئيسة مجموعة بحثية في كلية لندن الجامعية والمؤلفة المشاركة في الدراسة:
«أتاحت لنا التحليلات الجينية لعدوى البوريليا الراجعة لدى بشر من العصور القديمة فرصة تتبع كيفية تغيرها وراثيًا، من خلال فقدان بعض الجينات واكتساب أخرى أثناء مسارها التطوري».
وتابعت:
«تبين أن قدرة هذه البكتيريا على الانتشار والتسبب بالمرض تعتمد على السياق، إذ يتيح لنا الحمض النووي القديم فرصة التكهن بالدور المحوري الذي لعبته أنماط السلوك البشري والتفاعلات الاجتماعية في الماضي في تهيئة الظروف الملائمة لانتشار الأمراض».
واختتمت بالقول:
«سيُساعدنا الحصول على المزيد من العينات على تضييق نطاق الأحداث التي أدت إلى هذا التحول من القراد إلى القمل، وفهم الآليات الجينية التي مكنت البكتيريا من الاستمرار والنجاح في الانتقال عبر أي من هذين الناقلَين».
ترجمة: علاء شاهين.
المصدر: phys.org