الأساس الجيني للتطور التكيفي: ترتيبات صبغية معقدة تُحدث تغيّرات لونية في حشرات العصا

يُعد فهم الأساس الجزيئي للتطور التكيفي أحد الأهداف الجوهرية في علم الأحياء منذ عصر تشارلز داروين وحتى يومنا هذا. تُركز إحدى القضايا المحورية في النقاشات الحالية على ما إذا كان هذا النمط من التطور يحدث بفعل تراكم العديد من الطفرات الصغيرة ذات التأثيرات المتقاربة، أم أنه يعتمد على طفرة واحدة أو عدد محدود من الطفرات التي تُحدث تغيرات جوهرية في السمات المظهرية للكائنات.

تُعد الترتيبات الصبغية، التي يتم فيها قلب أو نقل أو حذف أو تكرار أجزاء كبيرة من الكروموسومات، مصدرًا محتملاً لما يُعرف بـ «الطفرات الكبرى (macromutations)». مع ذلك، كان توصيف هذه الترتيبات الصبغية باستخدام طرق تسلسل الحمض النووي التقليدية أمرًا في غاية الصعوبة.

العديد من الكائنات الحية، بما في ذلك الإنسان، ثنائية الصيغة الصبغية، إذ تمتلك مجموعتين من الكروموسومات، واحدة من كل والد. ينطبق الأمر ذاته على الحشرات العصوية، ما يجعل التعرف على الترتيبات الصبغية في هذا النوع من الكائنات تحديًا حقيقيًا عند تجميع الجينومات.

يقول زكريا غومبرت، عالم الأحياء التطوري في جامعة ولاية يوتا: «في السابق، كنا نجمع بيانات النسختين الكروموسوميتين معًا ونُنتج تسلسلًا موحدًا يمثل متوسطهما، لكن هذا النهج محدود الدقة ولا يُظهر الصورة الجينية الكاملة، لأنه يُخفي الفروقات البنيوية الدقيقة بين النسختين».

«ساعدتنا التقنيات الحديثة في علم الجينات والحوسبة، التي تتيح تجميع النسختين المختلفتين من كل كروموسوم على نحو منفصل، في الكشف عن الطريقة التي ساعدت فيها الترتيباتُ الصبغية المعقدة الحشراتِ العصوية على التكيف. لقد أصبحت هذه الحشرات قادرة على التمويه بفعالية مع نباتات مضيفة مختلفة، ما ساعدها على تجنّب الافتراس».

في النسخة الإلكترونية من مجلة ساينس (Science)، الصادرة بتاريخ 18 أبريل 2025 أفاد غومبرت وزملاؤه أن التنوّع التكيفي في الأنماط اللونية التمويهية لدى الحشرات العصوية ناتج عن حدوث ترتيبين صبغيين معقدين. وخلال هذه التغيرات، أعيد تنظيم ملايين القواعد الجينية داخل الحمض النووي، حيث انتقلت من موقع إلى آخر داخل الكروموسوم، وذلك بشكل مستقل في مجموعات سكانية من الحشرات العصوية تعيش في سلاسل جبلية مختلفة.

وشملت قائمة المؤلفين المشاركين في الورقة البحثية كلاً من باتريك نوسيل، المتعاون طويل الأمد مع غومبرت، وباحثين من المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي (CNRS)، بالإضافة إلى علماء من جامعة نوتردام، وجامعة نيفادا في رينو، ومعهد أبحاث السرطان في المملكة المتحدة. وحظي هذا البحث بدعم من المؤسسة الوطنية للعلوم (NSF) والمجلس الأوروبي للبحوث (ERC).

أجرى العلماء دراسة على عدة حشرات، من نوع تيميما كريستيني، تنتمي إلى أنماط لونية مختلفة، جُمعت من جبلين قرب مدينة سانتا باربرا في ولاية كاليفورنيا. تتميز هذه الحشرات، التي تفتقر إلى الأجنحة وتتغذى على النباتات، بقدرتها على التكيّف مع نوعين مختلفين من النباتات في بيئة الشابارال الساحلية.

يتميّز أحد النمطين بلون أخضر يتيح له التمويه والاندماج مع أوراق نبتة الليلك الكاليفورنية، في حين يظهر النمط الآخر بخط أبيض رفيع على الظهر، يجعله شبه غير مرئي بين أوراق شجيرة الشابارال إبرية الشكل.

أظهر غومبرت وزملاؤه أن هذا الاختلاف التكيفي في نمط اللون يمكن تفسيره بشكل شبه كامل بوجود أو غياب هذه الترتيبات الصبغية المعقدة الفردية.

يقول غومبرت، الأستاذ المدرس في قسم الأحياء ومركز البيئة بجامعة ولاية يوتا: «كانت تقنية تجميع الجينوم المفصول الجديدة التي استخدمناها في هذه الدراسة عنصرًا حاسمًا في مساعدتنا على فحص كيفية تطور أنماط الألوان لدى هذه الحشرات». «تشير نتائجنا إلى أن الترتيبات الصبغية قد تكون أكثر انتشارًا وتعقيدًا مما كنا نظن سابقًا».

ويضيف أن هذه الطفرات الكبيرة قد لا تُرصد أو تُلاحظ عند استخدام الطرق التقليدية في تحليل الحمض النووي، لأنها غالبًا ما تكون مخفية عن تلك الأدوات.

ويعلق: «قد يصعب اكتشاف الترتيبات الصبغية ووصفها باستخدام الأساليب التقليدية. نحن، في الواقع، نستكشف ما يُشبه ‘المادة المظلمة’ في الجينوم». ويضيف أن التغيرات البنيوية في الجينوم، بدلاً من كونها نادرة، قد تكون متاحة بشكل منتظم لتحفيز عمليات التطور. ويقول «ما زلنا في بداية الطريق». «لقد افتقرنا إلى الأدوات اللازمة لاكتشاف هذه التغيرات البنيوية، ولكن مع التقدم التكنولوجي، نُرجّح أنها تلعب دورًا أكبر في التطور مما كان يُعتقد في السابق».

 

ترجمة: علاء شاهين

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *