عزلة غريبة: اكتشاف نوع جديد من الفراشات
في قلب جبال روكي الكندية، ظلّت فراشة متواضعة المظهر لكنها لافتة في خصائصها، تحلّق بهدوء بعيدًا عن أنظار العلماء لسنوات. وبجناحين يتراوح باعهما بين بوصة وبوصة ونصف (أي عرض الجناحين معًا عند فردهما يتراوح بين 2.5 سم و3.8 سم تقريبًا)، مع لون بني في الأعلى وبني رمادي مرقّط بالبقع السوداء في الأسفل، اعتُقد لفترة طويلة أنّ هذه المجموعة تنتمي إلى فراشة «نصف القمر» (Satyrium semiluna).
لكن تعرف العلماء أخيرًا على الفراشات المعزولة من نوع «هيستريك» في منطقة بلاكيستون فان بمنتزه واترتون ليكس الوطني في ألبرتا كنوع مستقل: «ساتيريوم كوريزولوس» (Satyrium curiosolus)، أو «الهيستريك المعزولة بشكل فضولي».
وقد كُشف عن التاريخ التطوّري الفريد لهذا النوع في دراسة حديثة لفريق علمي دولي نُشرت في مجلة «ZooKeys». وأظهرت النتائج أن «ساتيريوم كوريزولوس» قد ظلت معزولة تمامًا عن أقرب أقربائها لفترة قد تصل إلى 40 ألف سنة، مما جعلها أكثر تفرّدًا على المستوى الوراثي والبيئي.
العلم الكامن خلف الاكتشاف
يقول المؤلف المشارك زاك ماكدونالد، الباحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه في معهد البيئة والاستدامة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس: «أظهر تسلسلنا الكامل لجينوم S. curiosolus تنوعًا وراثيًا منخفضًا بشكل مذهل ومستويات عالية جدًا من زواج القربى التاريخي، مقارنةً بأقرب تجمعات S. semiluna في كولومبيا البريطانية ومونتانا، والتي تبعد أكثر من 400 كيلومتر».
وعلى الرغم من صغر حجم تجمعها، توحي البيانات الوراثية بأنّ S. curiosolus قد حافظت على وجودها كسلالة مستقلة مستقرة على مدى عشرات آلاف السنين. يضيف ماكدونالد: «على غرار ثعلب جزيرة القنال، ربما أُزيلت بعض الطفرات الضارة المتنحية لدى S. curiosolus عبر تاريخ طويل من التزاوج الداخلي التدريجي، مما سمح لها بالبقاء كجماعة صغيرة ومعزولة تمامًا حتى اليوم».
وتعيش S. curiosolus في موئل فريد لا يشبه أي موئل معروف لأنواع S. semiluna الأخرى. فبينما تعيش أقرباؤها في بيئات السهوب المليئة بالمريمية، تتواجد S. curiosolus في مروحة غرينية واحدة يمكن وصفها بدقة بأنها سهول عشبية، حيث ترتبط بنباتات وأنواع نمل مختلفة. وتعتمد بشكل حصري على نبتة اللوبيليا الفضية (Lupinus argenteus) لنمو اليرقات، وهي نبتة لم تُسجّل كغذاء في تجمعات S. semiluna في كولومبيا البريطانية.
يقول جيمس غليزير من معهد وايلدر/حديقة حيوانات كالغاري، الذي كان جزءًا من الدراسة أيضًا: «اكتشفنا مؤخرًا أن يرقات S. curiosolus تقيم علاقات تبادلية مع نوع معين من النمل يُدعى Lasius ponderosae، وهو أمر لم يُلاحظ في تجمعات S. semiluna الأخرى».
وتُقدّم يرقات S. curiosolus إفرازًا سكريًا يُعرف بـ«الندى العسلي» لتغذية نمل Lasius، بينما يحميها النمل من الطفيليات والمفترسات. وتنسحب اليرقات إلى ممرات النمل عندما تشعر بالتهديد أو عند ارتفاع درجات الحرارة، ولوحظت إناث الفراشات البالغة تضع بيضها قرب مداخل مستعمرات النمل تحت نبتات اللوبيليا الفضية.
لماذا يُعدّ هذا مهمًا؟
إنّ الاعتراف بـ S. curiosolus كنوع مستقل يحمل دلالة كبيرة، إذ يُبرز مسارها التطوري المتفرّد ويؤكد على الحاجة الماسة إلى استراتيجيات حماية مصمّمة خصيصًا لها.
تواجه هذه الفراشة تحديًا نادرًا نسبيًا: فقد أدى عزلها الطويل الأمد إلى انخفاض شديد في تنوعها الوراثي، ما يقلل من قدرتها على التكيّف مع التغيرات المناخية. ورغم أنّ علماء الحفاظ على البيئة يلجؤون غالبًا إلى ما يُعرف بـ«الإنقاذ الوراثي»، أي إدخال أفراد من تجمعات قريبة لرفع التنوع الوراثي — فإنّ التفرّد الجيني لـ S. curiosolus يثير القلق بشأن احتمال حدوث ما يُعرف بـ«اكتئاب التهجين الخارجي» عند مزجها مع S. semiluna.
ويُحتمل أن تكون الأنواعَين غير متوافقتين حتى من الناحية التناسلية، مما يعني أنّ S. curiosolus قد تكون وحدها تمامًا. ولذلك، يجب أن تأخذ الجهود المستقبلية بالحسبان استراتيجيات جديدة، مثل تأسيس تجمعات إضافية من النوع ذاته، لمساعدته على الاستمرار في وجه تغيّرات المناخ التي تُهدد النظام البيئي في بلاكيستون فان.
دراسة حالة في علم الجينوم والحفاظ على التنوع
قال المؤلف المشارك جوليان دوبويس، الأستاذ المساعد في قسم علم الحشرات بجامعة كنتاكي: «يمثّل اكتشاف S. curiosolus دليلًا قويًا على الكيفية التي يُغيّر بها علم الجينوم مجال التصنيف البيولوجي والحفاظ على الكائنات».
ويُضيف: «في حين تعتمد الأساليب التصنيفية التقليدية غالبًا على الشكل الخارجي وحده، تُبرز دراستنا أهمية الدمج بين البيانات الجينية والبيئية لكشف التنوع الخفي. ومع تصاعد استخدام أدوات الجينوم، يجري التعرف على أنواع غير معروفة سابقًا مثل S. curiosolus، مما يستدعي وضع استراتيجيات حفظ تأخذ في الاعتبار هذا التنوع الخفي».
التعاون من أجل الحماية
ويضيف ماكدونالد: «أظهرت دراساتنا حول S. curiosolus و S. semiluna أهمية التعاون بين العلماء الأكاديميين والمنظمات غير الربحية ومديري برامج الحماية. إذ أُنجز كل هذا العمل بفضل الشراكات بين باحثين أكاديميين، و«باركس كندا»، ومعهد وايلدر/حديقة حيوانات كالغاري».
«ومن خلال الجمع بين الخبرة في علم الجينوم وبيئة الحقل وإدارة الحماية، استطعنا الوصول إلى نتائج لا تُعيد فقط تشكيل فهمنا للتنوع الحيوي، بل تقدّم رؤى قابلة للتطبيق في مجال حماية الأنواع.
ومع تقدم العمل، ستكون هذه الشراكات متعددة التخصصات ضرورية لمواجهة التحديات المعقدة في مجال الحماية، وضمان البقاء طويل الأمد لأنواع مثل S. curiosolus».
مستقبل فراشة ساتيريوم كوريزولوس
يؤكّد الباحثون أنّ الاعتراف بـ S. curiosolus كنوع مستقل ليس سوى البداية. ويجب أن تُركّز الأبحاث المستقبلية على دراسة تطوّرها وتفاعلاتها مع الأنواع الأخرى كالنباتات والنمل. كما سيكون من الضروري تنفيذ برامج مراقبة طويلة الأمد من قبل «باركس كندا» ومعهد وايلدر/حديقة حيوانات كالغاري، لتقييم كيفية تكيّف هذا النوع مع تغيّرات المناخ، وتحديد الإجراءات المناسبة للحفاظ عليه.
ويختم الباحثون بالقول: «تذكّرنا فراشة الهيستريك المعزولة بشكل فضولي بأن حتى أصغر الأنواع وأكثرها خفاءً قد تحمل أهمية علمية وحفظية غير عادية».
صورة 1:
أ–د) السطوح الظهرية والبطنية لأجنحة فراشات من النوع الجديد «الهيستريك المعزولة بشكل فضولي». وقد استُخدمت أجسام هذه العينات لاستخراج المادة الوراثية (الحمض النووي). وتُذكر المعلومات التفصيلية الخاصة بكل عينة تحت بند «العينات النموذجية».
هـ) صور مركبة لفراشات مثبّتة بدبابيس (الأنثى على اليسار، والذكر على اليمين)، تُظهر في الجهة اليسرى السطح العلوي للأجنحة الأمامية والخلفية، وفي الجهة اليمنى السطح السفلي للأجنحة الأمامية والخلفية.
و) يرقات الفراشة الجديدة وهي تُرعى من قبل نوع معين من النمل يُعرف بـ«لاسيوس بونديروسا»، حيث يقوم هذا النمل بحمايتها مقابل الحصول على سائل سكري تفرزه اليرقات.
ز) فراشة خرجت حديثًا من شرنقتها وهي تقف على نبتة اللوبيليا الفضية.
ح) صورة لمنطقة بلاكيستون فان في مقاطعة ألبرتا بكندا، حيث تعيش هذه الفراشة.
ط) لوحة لونية مرجعية للتعديل اللوني في الصور، صُوّرت باستخدام نفس الإعدادات التي استُخدمت في تصوير عينات الفراشات.
ترجمة: ولاء سليمان.
المصدر: phys.org