أسفر تعاون علمي دولي بين أربعة باحثين من جامعات ماينز، وفالنسيا، ومدريد، وزيورخ، عن نشر هذا البحث، الذي سلّط الضوء على ما يُعد أعظم قفزة في تعقيد الكائنات الحية: نشأة الخلايا حقيقية النواة، في مجلة وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم (PNAS).
تُعدّ نظرية التعايش الداخلي من الفرضيات المقبولة على نطاق واسع لتفسير نشأة الخلايا حقيقية النواة، غير أن المدى الزمني الهائل، الممتد لمليارات السنين، الذي يفصلنا عن لحظة اندماج خلية من العتائق مع البكتيريا، أدى إلى اختفاء الحلقات التطورية الوسيطة من شجرة النسب. لا تزال هذه الفجوة تمثل ثقبًا أسودًا في علم الأحياء، وتثير تساؤلات علمية جوهرية لم تُحسم بعد.
جاء ذلك على لسان الدكتور إنريكي م. مورو، ممثل جامعة يوهانس غوتنبرغ في ماينز (JGU) ضمن هذا المشروع البحثي، وأضاف: «تمثل الدراسة الجديدة مزيجًا من الأساليب النظرية والرصدية وتسعى لفهم كيف تحوّلت البنية الجينية للحياة بشكل كمي سمح بحدوث هذه الزيادة الهائلة في التعقيد».
ازدياد أطوال البروتينات والجينات المشفرة لها
كشفت الدراسة المنشورة في مجلةPNAS أن أطوال البروتينات والجينات المشفرة لها تتبع نمطًا إحصائيًا يُعرف بالتوزيع اللوغاريتمي الطبيعي، وهو نمط شائع في الظواهر الناتجة عن عمليات تضاعفية تدريجية كالنمو والتطور، عبر شجرة الحياة بأكملها. وللوصول إلى هذه النتيجة، حلّل الباحثون 9,913 محتوى خلوي بروتوني (بروتيوم) مختلف إلى جانب 33,627 جينومًا، ما مكّنهم من رصد قانون مشترك يحكم توزيع الأطوال الجينية في مختلف أشكال الحياة.
استنادًا إلى مبدأ «شفرة أوكام»، اعتمد الباحثون نمذجة تطور أطوال الجينات باعتباره عملية تصادفية تضاعفية، فقاموا بمحاكاة التأثير التراكمي لمجموعة العوامل الجينية المرتبطة بطول التسلسل الجيني.
وانطلاقًا من فرضية LUCA (السلف الشامل الأخير)، الذي يُعتقد أنه الأصل الذي انبثقت منه نطاقات الحياة الثلاث: البكتيريا، والعتائق، وحقيقيات النوى، ومن خلال اعتماد التحليلين النظري والرصدي توصل الباحثون إلى أن متوسط أطوال الجينات قد نما بانتظام وفق منحنى أُسي على امتداد الزمن التطوري لأنواع متعددة.
اكتشف الباحثون أيضًا آلية نمو جيني تتّسم بخاصية «ثبات النسبة على مختلف المقاييس (scaling-invariant)»، حيث ترتبط التباينات في أطوال الجينات ارتباطًا مباشرًا بمتوسط طول البروتين، وتُلاحظ هذه الظاهرة على امتداد شجرة الحياة بأكملها.
من خلال تحليل البيانات الجينومية لـ33,627 نوعًا مختلفًا، نجح الفريق في التحقق رصديًا من صحة تنبؤاتهم، بل وأظهروا أن متوسط طول الجينات يُعد مؤشرًا قويًا على مدى تعقيد الكائن الحي.
وفي عرض يُجسّد مبادئ علم الأحياء الكمي، أوضح الدكتور بارتولو لوكي من جامعة البوليتكنيك في مدريد: «بمجرد معرفة متوسط أطوال الجينات المشفرة للبروتينات في كائن معين، يمكننا اشتقاق التوزيع الكامل لأطوال الجينات في ذلك الكائن بدقة».
عند تتبع تطور متوسط أطوال البروتينات ومقارنتها بأطوال الجينات المسؤولة عن تشفيرها لدى مجموعة واسعة من الكائنات الحية، يُلاحظ وجود نمط نمو متزامن في بدائيات النوى، نتيجة لغياب التسلسلات غير المشفرة تقريبًا في جينوماتها.
لكن، يختل هذا التزامن عندما يتجاوز متوسط طول الجين عتبة 1,500 نيوكليوتيد، حيث تنفصل أطوال البروتينات عن النمط التضاعفي الذي تتبعه الجينات. ومع ظهور الخلايا حقيقية النواة، يستقر متوسط طول البروتين عند نحو 500 حمض أميني، وهي نقطة فاصلة تُعد مؤشرًا واضحًا على التحول الجذري في تاريخ الحياة: نشأة الخلية حقيقية النواة.
منذ تلك اللحظة، وعلى خلاف البروتينات التي حافظت على متوسط طول ثابت، واصلت الجينات النمو الطولي بنفس النمط التصاعدي الذي ميز بدائيات النوى، ويُعزى ذلك إلى إدماج تسلسلات غير مشفرة داخل بنية الجينات.
تحول خوارزمي في البنية الفيزيائية
كشفت دراسة الظواهر الحرجة عن حدوث تحول فيزيائي في الطور، مشابه للتحولات المعروفة في فيزياء المواد المغناطيسية، عند وصول متوسط طول الجين إلى قيمة حرجة تبلغ 1,500 نيوكليوتيد.
وقد شكّل هذا التحول نقطة الانطلاق لنشأة الخلايا حقيقية النواة (eukaryogenesis)، وقسّم تاريخ تطور الحياة إلى مرحلتين مميزتين: مرحلة الترميز الجيني المكثّف، الممثّلة ببدائيات النوى (prokarya) ومرحلة احتواء الجينات على تسلسلات غير مشفّرة، كما هو الحال في حقيقيات النوى (eukarya).
وخلال هذا التحول، رُصدت خصائص مميزة لظواهر الطور، من أبرزها ما يُعرف بـ «التباطؤ الحرج»، وهو حالة تصبح فيها ديناميكيات النظام محصورة ضمن عدد من الحالات شبه المستقرة عند النقطة الحرجة.
وأوضح الدكتور فرناندو باليستيروس من جامعة فالنسيا: «يتجلّى هذا السلوك بوضوح في الطلائعيات والفطريات البدائية».
وأضاف البروفيسور جوردي باسكومبتي من جامعة زيورخ: «كان تحوّل الطور ذا طبيعة خوارزمية». ففي مرحلة الترميز، أي في سيناريو قريب من السلف الشامل الأخير (LUCA)، ومع وجود بروتينات قصيرة، كان من السهل من الناحية الحوسبية توليد جينات أطول تنتج بروتينات أطول. لكن مع استمرار ازدياد أطوال البروتينات، أصبحت مهمة البحث عن بروتينات أطول أكثر تعقيدًا إلى درجة جعلت العملية غير قابلة للحوسبة عمليًا.
هذا التوتر، الناجم عن استمرار نمو الجينات بنفس الوتيرة السابقة بينما لم تعد البروتينات قادرة على مواكبة ذلك، تم حله بشكل تدريجي ومفاجئ بنفس الوقت، من خلال إدخال تسلسلات غير مشفّرة داخل الجينات.
وبفضل هذا التحول البيولوجي، انخفضت درجة التعقيد الحسابي في عملية البحث عن بروتينات جديدة بشكل ملحوظ، إذ أصبحت الخوارزمية المسؤولة عن هذه العملية غير خطية.
وقد تحقق هذا التحوّل من خلال ظهور آليتين أساسيتين: آلية جسيم التضفير(spliceosome) والنواة الخلوية، واللتين ساهمتا في فصل مرحلتي النسخ والتضفير (إنتاج الRNA ) عن مرحلة الترجمة (إنتاج البروتين).
وقع هذا التحوّل عند لحظة فاصلة تغيّرت فيها بنية الخلية ووظائفها بشكل جذري ومفاجئ. فقد ظهرت آنذاك سمات بنيوية وتنظيمية أكثر تعقيدًا، مثل تشكّل النواة، إلى جانب آليات جديدة مثل التضفير الجزيئي، وهي تغيّرات تؤرخها هذه الدراسة بحدوثها قبل نحو 2.6 مليار سنة، باعتبارها نقطة انطلاق الخلايا حقيقية النواة.
لا تجيب الدراسة على أسئلة أساسية فحسب، بل تمثل نموذجًا لتكامل التخصصات، إذ تجمع بين علم الأحياء الحاسوبي، وعلم الأحياء التطوري، والفيزياء. ووفقًا للدكتور مورو من معهد التطور العضوي والجزيئي بجامعة ماينز: «تمتلك هذه الدراسة القدرة على جذب جمهور واسع من مختلف المجالات، ويمكن أن تشكّل أساسًا لمجموعات بحثية أخرى لاستكشاف مسارات علمية متنوعة، مثل نظرية الطاقة أو المعلومات».
نشأت الخلية حقيقية النواة، التي تُعدّ أكبر قفزة في تعقيد الحياة عبر تاريخ تطورها، نتيجة تغيّر مفاجئ في بنية النظام الجيني عند نقطة حرجة في طول الجينات، بصورة شبيهة بالتحولات المعروفة في فيزياء المادة، ومهّد هذا التحول الطريق لسلسلة من التحوّلات الكبرى، مثل التعدد الخلوي، والتكاثر الجنسي، والتفاعل الاجتماعي، والتي أسهمت في تشكيل الحياة على الأرض كما نعرفها اليوم.
ترجمة: علاء شاهين.
المصدر: phys.org