كيف استخدمنا الذكاء الاصطناعي لتتبّع تطوّر البكتيريا على كوكب الأرض؟

تُعدّ البكتيريا من أكثر الكائنات الحية تنوّعًا على كوكب الأرض، ويصعب تحديد عدد أنواعها بدقة نظرًا لضخامته وتعقيده. كما تُعدّ من أقدم أشكال الحياة المعروفة على هذا الكوكب. ولأنها كائنات دقيقة أحادية الخلية، لا تمتلك عظامًا أو تراكيب كبيرة تترك بصمات واضحة في السجل الجيولوجي. وعلى خلاف الكائنات الضخمة التي يدرسها علماء الحفريات، يعد تتبع تاريخها التطوري المبكر تحديًا كبيرًا.

مع ذلك، أتاحت تقنيات التعلّم الآلي لنا اليوم سُبلًا جديدة لسدّ العديد من الثغرات في التاريخ الغامض للبكتيريا. ويكشف بحثنا الجديد، المنشور اليوم في مجلة ساينس Science، أن بعض أنواع البكتيريا طوّرت القدرة على استخدام الأوكسجين قبل فترة طويلة من تشبّع الغلاف الجوي به، أي قبل نحو 2.4 مليار سنة.

حدث مفصلي في تاريخ الأرض

قبل نحو 4.5 مليار سنة، تكوّن القمر في ظروف عنيفة إثر اصطدام جسم ضخم بحجم كوكب المريخ بالأرض، ما أدى إلى انصهار سطح الأرض وتحوّله إلى بحر من الصخور السائلة. وأي شكل محتمل للحياة قبل هذا الاصطدام، يُرجّح أنه قد اندثر بالكامل بفعل النتائج الكارثية للاصطدام.

في أعقاب هذا الحدث، بدأت الحياة من جديد، وظهرت الأسلاف الأولى لكل الكائنات الحية المعاصرة: كائنات دقيقة وحيدة الخلية. وقد سيطرت هذه الميكروبات المجهرية على الأرض طوال 80% من تاريخ الحياة عليها.

وكما قال عالم الأحياء التطورية الشهير ثيودوسيوس دوبجانسكي عام 1973: «لا يمكن فهم أي شيء في علم الأحياء إلا في ضوء التطور». لكن يبقى السؤال: كيف تطوّرت الحياة خلال المراحل الأولى من تاريخ الأرض؟

يتيح لنا تحليل تسلسلات الحمض النووي (DNA) للكائنات الحية المتنوعة التي نراها اليوم، تتبّع الروابط التطورية بينها. فعلى سبيل المثال، نحن البشر أقرب وراثيًا إلى الفطريات منّا إلى أشجار التفاح. وبالطريقة نفسها، تمكّننا هذه المقارنات من فهم العلاقات التطورية بين سلالات البكتيريا المختلفة.

لكن مقارنة تسلسلات الحمض النووي لا يمكنها أن تأخذنا إلى أبعد من ذلك. فهي لا تخبرنا متى وقعت الأحداث التطورية في تاريخ الأرض. في لحظة معينة، أنجب كائن حي اثنين من الأبناء؛ أحدهما أدى نسله إلى الفطريات، والآخر إلى البشر (وإلى العديد من الأنواع الأخرى أيضًا). لكن متى عاش ذلك الكائن بالضبط؟ قبل كم سنة؟

أحد الدروس التي نتعلمها من الجيولوجيا هو وجود حدث مفصلي آخر في تاريخ الأرض، حدث قبل نحو 2.4 مليار سنة.

في ذلك الوقت، شهد الغلاف الجوي للأرض تغيّرًا جذريًا. فقد ابتكرت مجموعة من البكتيريا، تُعرف باسم بـالبكتيريا الزرقاء (Cyanobacteria) خدعة ستغيّر مسار الحياة إلى الأبد: البناء الضوئي.

من خلال جمع الطاقة من أشعة الشمس، حصلت خلاياها على ما تحتاجه من طاقة لتعمل وتنمو. لكن، خلّف هذا التفاعل الكيميائي ناتجًا مزعجًا: غاز الأوكسجين.

على مدى ملايين السنين، بدأ الأوكسجين يتراكم تدريجيًا في الغلاف الجوي. وقبل الحدث المعروف باسم «الحدث الأوكسجيني العظيم (Great Oxidation Event)» كانت الأرض شبه خالية من الأوكسجين، ولم تكن الحياة مهيّأة للتعامل معه.

في واقع الأمر، وبالنسبة للبكتيريا التي لم تكن معتادة عليه، كان الأوكسجين غازًا سامًا، ومن المرجّح أن إطلاقه في الغلاف الجوي أدى إلى انقراض جماعي.

أما البكتيريا التي نجت من هذا التحوّل الهائل، فانقسمت إلى مجموعتين: الأولى طوّرت آليات للاستفادة من الأوكسجين واستخدامه في عملياتها الحيوية، أما الثانية فقد انسحبت إلى أعماق الأرض ومناطق معزولة لا يصل إليها الأوكسجين، لتواصل حياتها بعيدًا عن العنصر الجديد الذي انتشر في الغلاف الجوي.

شجرة الحياة البكتيرية

يُعد «الحدث الأوكسجيني العظيم» محطة بارزة في تاريخ الأرض، ليس فقط لما تركه من أثر بالغ في مسار الحياة، بل لأنه من الأحداث النادرة التي يمكن تأريخها بدقة علمية. فقد حدث قبل نحو 2.4 مليار سنة، ونعلم أن معظم سلالات البكتيريا التي استطاعت التأقلم مع الأوكسجين ظهرت بعد هذا التحوّل الجوي الهائل.

أتاح لنا هذا الحدث، بصفته مرجعًا زمنِيًا واضحًا، فرصة ثمينة لإدراج تواريخ تقديرية ضمن شجرة الحياة البكتيرية، بما يساعد في رسم صورة أكثر وضوحًا لتطور هذه الكائنات الدقيقة عبر الزمن.

بدأنا بتدريب نموذج ذكاء اصطناعي (AI) على التنبؤ بما إذا كانت البكتيريا تعيش في بيئة تحتوي على الأوكسجين أم لا، بالاعتماد على الجينات التي تمتلكها.

تعتمد الكثير من أنواع البكتيريا المعاصرة، مثل البكتيريا الزرقاء وغيرها من الكائنات الدقيقة التي تعيش في المحيط، على الأوكسجين. لكن هناك أنواعًا عديدة لا تعتمد عليه، كتلك التي تعيش في أمعاء الإنسان.

وبالنسبة لمهام التعلّم الآلي، كانت هذه المهمة مباشرة نسبيًا، لأن الخصائص الكيميائية للأوكسجين تُحدث تغييرات واضحة في جينوم البكتيريا. فعندما يُنظَّم التمثيل الغذائي للخلية حول استخدام الأوكسجين، تظهر علامات مميزة في الجينات يمكن رصدها بسهولة في البيانات.

بعد ذلك، استخدمنا نماذج التعلم الآلي التي قمنا بتدريبها للتنبؤ بأنواع البكتيريا التي كانت قادرة على استخدام الأوكسجين في الماضي. وقد أصبح ذلك ممكنًا بفضل التقنيات الحديثة التي تتيح لنا تقدير العلاقات التطورية بين الأنواع الحالية، إلى جانب التعرف على الجينات التي كانت موجودة في الأسلاف عبر مراحل الزمن المختلفة.

من خلال الاستفادة من «الحدث الأوكسجيني العظيم» بوصفه حدثًا جيولوجيًا عالميًا محدد التاريخ كنقطة معايرة تُشبه الأحافير، تمكّنّا من بناء خط زمني دقيق لتطور البكتيريا. وبدمج معطيات من الجيولوجيا، وعلم الحفريات، وعلم السلالات الوراثية، وتقنيات التعلم الآلي، نجحنا في رفع دقة التقديرات الزمنية لتاريخ التطور البكتيري بدرجة كبيرة.

وقد أسفرت نتائجنا عن مفاجأة لافتة: إذ تبين أن بعض السلالات البكتيرية القادرة على استخدام الأوكسجين كانت موجودة قبل الحدث الأوكسجيني العظيم بنحو 900 مليون سنة.

وهذا يشير إلى أن هذه البكتيريا كانت قد طوّرت القدرة على استخدام الأوكسجين في وقتٍ كان وجوده في الغلاف الجوي لا يزال محدودًا للغاية.

ومن اللافت أيضًا إشارة النتائج إلى أن البكتيريا الزرقاء كانت قد طوّرت القدرة على استخدام الأوكسجين حتى قبل أن تكتسب آلية البناء الضوئي نفسها.

لا يعيد هذا الإطار البحثي رسم خريطة تطور البكتيريا فحسب، بل يُظهر أيضًا كيف تطورت قدرات الحياة استجابة للتغيرات البيئية الكبرى على الأرض.

ترجمة: علاء شاهين

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *