تغطي أعماق البحار حوالي 65% من سطح الأرض، ولطالما اعتُبرت صحراء بيولوجية. في هذه البيئة القاسية، خاصة في منطقة الأخاديد القاعية العميقة على أعماق تزيد عن 6,000 متر، تتحمل الكائنات الحية ضغوطًا هائلة تتجاوز 1 طن لكل سنتيمتر مربع، ودرجات حرارة قريبة من درجة التجمد، ومستويات منخفضة من الأكسجين، وظلامًا دائمًا.
مع التقدّم المتسارع في تكنولوجيا استكشاف أعماق البحار الصينية، تبيّن للباحثين أن الأخاديد السحيقة في قاع المحيط ليست مجرد هاويات قاحلة كما كان يُعتقد، بل تمثّل مهدًا لعجائب تطورية مذهلة. فكائنات مثل سمكة الحلزون السحيقة Pseudoliparis amblystomopsis) لا تكتفي بالبقاء في هذه الظروف القاسية، بل تسهم أيضًا في تشكيل أنظمة بيئية فريدة من نوعها تزدهر في أحلك أعماق الأرض.
في دراسة نُشرت في مجلة خلية Cell، كشف فريق البروفيسور هي شونبينغ من معهد علم الأحياء المائية (IHB) التابع للأكاديمية الصينية للعلوم (CAS)، بالتعاون مع باحثين من معهد علوم وهندسة أعماق البحار التابع للأكاديمية، وجامعة البوليتكنيك الشمالية الغربية، وفرع معهد الجينوم في مدينة تشينغداو، عن التاريخ التطوري والآليات الجينية التي تمكّن أسماك أعماق البحار من البقاء في أقسى البيئات على سطح الأرض.
تسلّط الدراسة الضوء على كيفية تكيّف الكائنات الحية مع البيئات المتطرفة، مبيّنة قدرتها على تحمّل الضغط الهائل، والظلام الدائم، ونقص الأكسجين في أعماق المحيط السحيقة.
استندت الدراسة إلى عمليات أخذ عينات مكثفة أجرتها سفن: الأم تانسو ييهاو (الاستكشاف الأول)، وتانسو إرهاو (الاستكشاف الثاني)، المجهزة بالغواصات المأهولة: شينهاي يونغشي (محارب أعماق البحار) وفيندوزه (المكافح)، على التوالي.
شملت عمليات أخذ العينات منطقة واسعة تمتد من غرب المحيط الهادئ إلى وسط المحيط الهندي، وغطّت تضاريس جيولوجية متنوعة مثل الخنادق، والأحواض، ومناطق الكسور، والفتحات الحرارية المائية. كما شملت تقريبًا النطاق الكامل لأعماق مواطن أسماك أعماق البحار (1,218–7,730 مترًا)، ونتج عنها تسجيل 11 نوعًا من هذه الأسماك تنتمي إلى ست مجموعات رئيسية.
من خلال تحليل البيانات الجينية لأسماك أعماق البحار، أعاد الباحثون بناء تاريخها التطوري، ما كشف عن الكيفية التي استعمرت بها الفقاريات هذه البيئات السحيقة، عبر عمليات وآليات متميزة، وهو ما أعاد تشكيل فهمنا لآليات التكيّف مع أعماق المحيطات.
وفي سياق هذا التحليل، أكد الباحثون فرضية عمرها قرن من الزمن، تفترض وجود مسارين تطوريين لأسماك أعماق البحار. يشير المسار الأول إلى «الناجين القدامى»، وهي سلالات استعمرت الأعماق قبل الانقراض الجماعي في العصر الطباشيري، بينما يمثّل المسار الثاني «المهاجرين الجدد»، الذي يمثل غالبية الأنواع الحديثة التي ظهرت بعد ذلك الانقراض، قبل نحو 60 مليون سنة. ويقدّم هذا النموذج ثنائي المسار رؤى معمقة حول كيفية تكيف الفقاريات مع البيئات العميقة عبر آليات تطورية متباينة.
أظهرت إحدى نتائج هذه الدراسة أن الفرضية التقليدية بشأن دور مركب ثلاثي ميثيل أمين أكسيد (TMAO) في تكيف الأسماك مع أعماق البحار قد لا تنطبق على جميع الأعماق. فبينما ترتفع مستويات هذا المركب تدريجيًا لدى الأسماك التي تعيش بين سطح البحر وعمق 6,000 متر، إلا أن الارتفاع بمستوى المركب لا يستمر في الأسماك التي تعيش في أعماق تتجاوز 6,000 متر، ما يشير إلى وجود آليات تكيف مختلفة في المناطق الأشد عمقًا.
حدد الباحثون طفرة تقاربية محفوظة بشكل استثنائي في جين rtf1 لدى جميع أنواع أسماك أعماق البحار التي تعيش على أعماق تتجاوز 3,000 متر، ووجدوا أن هذه الطفرة تعزز كفاءة النسخ الجيني، ما يشكل آلية جينية مكتشفة حديثًا تُسهِم في التكيف مع الضغط الهائل في الأعماق السحيقة.
علاوة على ذلك، كشف الباحثون عن وجود تركيزات مرتفعة من مادة ثنائي الفينيل متعدد الكلور (PCBs) في أنسجة كبد سمكة الحلزون السحيقة التي جُمعت من خندق ماريانا وحوض بحر الفلبين. وقد وصلت هذه الملوّثات الصناعية إلى أعمق خنادق كوكب الأرض، ما يعكس الانتشار الواسع لتأثير النشاط البشري، ويثير مخاوف جدية بشأن الحفاظ على البيئة البحرية في الأعماق السحيقة.
أُجريت هذه الدراسة في إطار برنامج استكشاف خنادق أعماق البحار العالمي (Global TREnD)، وتمثل تحقيقًا شاملاً لتكيف أسماك أعماق البحار، يمتد من المستويات الجينية إلى البيئية. لا تكشف الدراسة عن الآليات الرئيسية التي تمكّن الحياة من الازدهار في البيئات القاسية فحسب، بل تؤسس أيضًا نموذجًا جديدًا متعدد التخصصات لدراسة التكيف مع أعماق البحار، ما يمهد الطريق للبحوث المستقبلية في مجالات علم الأحياء والبيئة والحفاظ على بيئة أعماق البحار.
ترجمة: علاء شاهين
المصدر: phys.org