اكتشاف آثار أقدام أحفورية تكشف عن تعايش نوعين من أشباه البشر المنقرضة قبل 1.5مليون سنة

تُثير آثار الأقدام البشرية الخيال، فهي تحفزك على تتبعها والتكهن بما كان يفعله صاحبها وإلى أين كان يتجه. وينطبق الأمر ذاته على الآثار الأحفورية المحفوظة في الصخور، إذ تُسجل هذه الآثار أحداثًا من حياة كائنات حية منقرضة متنوعة، تعود بنا إلى أقدم المخلوقات التي مشت على أربعة أقدام قبل 380 مليون سنة.

تقدّم الاكتشافات في شرق أفريقيا لآثار أقدام خلّفها أسلافنا من أشباه البشر لعلماء الأحياء القديمة ولنا رؤى جديدة عن سلوك أنواع أشباه البشر التي كانت تمشي على قدمين وتشبهنا في الشكل، لكنها لم تكن بشرًا كما نحن عليه اليوم.

يتمحور بحثنا الحالي حول دراسة آثار أقدام فريدة، تُظهر بشكل لافت وجود نوعين مختلفين من أشباه البشر يسيران جنبًا إلى جنب على امتداد شاطئ البحيرة الكينية في نفس الوقت، منذ ما يقرب من 1.5 مليون سنة.

تُسهم دراسة الآثار القديمة من هذا النوع في إكمال جوانب مُهمة من قصة التطور البشري، لأنها تقدم دلائل على سلوك أشباه البشر وأنماط حركتهم، وهي معلومات لا يستطيع العلماء استخلاصها من العظام الأحفورية وحدها.

العثور على أولى الآثار لأقدام أحفورية في كينيا

حدث أول اكتشاف لآثار أقدام أشباه البشر الأوائل في منطقة بحيرة توركانا في كينيا صُدفةً في عام 1978. كان الفريق، بقيادة أحد أفراد نوعنا (بهرنسمير)، وعالم البيئة القديمة ليو لابورت، يُجري دراسات حول جيولوجيا وحفريات السجل الأحفوري الغني لشرق توركانا.

انصب تركيز الفريق على دراسة الحيوانات والبيئات التي وُجدت في فترة زمنية محددة، تعود إلى حوالي مليون ونصف المليون سنة، والتي تُمثلها طبقة واسعة من الرواسب.

جمعنا الأحافير من السطح وحفرنا خنادق جيولوجية مُتدرَّجة لتوثيق الطبقات الرسوبية التي حفظت هذه الأحافير. كشفت الجدارية الخلفية لأحد الخنادق عن انخفاضات عميقة في طبقة من الطين المُتصلِّب، والتي ظننا أنها قد تكون آثار أقدام أفراس النهر.

قررنا بدافع الفضول العلمي استكشاف شكلها من الأعلى، وهو ما يُعرف في الأوساط العلمية بـ «المسقط الأفقي»، ولذلك قررنا الكشف عن متر مربع واحد من سطح البصمة بجوار الخندق.

عند عودتي من جولات مسح إضافية للعظام الأحفورية، كان كيمولو مولوا، أحد خبراء المساعدين الميدانيين الكينيين في المشروع، قد نقّب بعناية فائقة الجزء العلوي من طبقة الحجر الطيني، وعلى وجهه ابتسامة عريضة. قال: «موتو! – وتعني (شخص) – وأشار إلى طبعة ضحلة شبيهة بأثار قدم بشرية وسط آثار أقدام فرس النهر العميقة».

بالكاد صدقتُ ذلك، لكن أجل، كان بالإمكان تمييز أثر قدم شبيهة بقدم الإنسان بوضوح على السطح المنقّب. بل كان هناك المزيد من آثار أقدام أشباه البشر، تظهر لنا من الطبقات الرسوبية. لقد كان شعورًا مهيبًا أن ندرك أننا نتواصل مع لحظة من حياة أحد أشباه البشر الذين ساروا هنا قبل مليون ونصف المليون سنة.

كشفنا المزيد من الطبقات السطحية، لنعثر في النهاية على سبعة آثار أقدام متتابعة، ما يدل على أن هذا النوع من أشباه الإنسان قد سار إلى الشرق من منطقة طينية رخوة إلى أرض أكثر صلابة، يُرجح أنها قليلة العمق.

وفي لحظة ما، انزلقت القدم اليسرى لهذا الكائن في أثر قدم فرس النهر، فاستند الكائن على قدمه اليمنى ليحفظ توازنه ويمنع سقوطه—وقد بدا ذلك جليًا على طول مسار الحركة.

حتى يومنا هذا، على ضفاف بحيرة توركانا الحديثة، من السهل الانزلاق في آثار أقدام فرس النهر، خاصة إذا كانت المياه عكرة بعض الشيء. وقد عبّرنا، على سبيل الدعابة، عن أسفنا لعدم تعثّر هذا الكائن ليسقط على يديه أو وجهه، كي يتسنى لنا توثيق هذه الأجزاء من جسده أيضًا.

سلسلة آثار جديدة

بعد مرور أكثر من أربعة عقود، في عام 2021، كانت عالمة الأحياء القديمة لويز ليكي تنقب مع فريقها البحثي الكيني بحثًا عن أحافير أشباه البشر المكتشفة في المنطقة نفسها، عثر ريتشارد لوكي، وهو أحد أعضاء الفريق، على جزء من سلسلة آثار أقدام أخرى تعود لأشباه البشر.

وبسبب خبرتنا السابقة في العمل على مواقع حفظ آثار أقدام أشباه البشر، وجهت ليكي دعوة لأحدنا (هاتالا) ولعالم الأنثروبولوجيا القديمة نيل روش لإجراء دراسة حول هذا المسار الجديد، بما في ذلك أعمال التنقيب.

أجرى الفريق، الذي ضمّ عشرة باحثين ميدانيين كينيين متخصصين تحت إشراف سيبريان نيتي، أعمال حفر سطحية، ووثّقوا المسارات باستخدام تقنية التصوير الفوتوغراميتري ثلاثي الأبعاد. تُعتبر هذه الطريقة الأفضل لجمع بيانات أسطح المسارات، نظرًا لعدم تماسك الرسوبيات بدرجة كافية- أو ما يُصطلح عليه جيولوجيًا بالتحجّر- الأمر الذي يسمح باستخراجها من الموقع بشكل آمن ونقلها إلى متحف.

يعود تاريخ الآثار المُكتشفة حديثًا إلى ما يُقارب 1.5 مليون عام. وتوجد هذه الآثار في طبقة جيولوجية أقدم من تلك التي عُثر عليها في عام 1978، وهي أقدم بحوالي مائة ألف عام، وذلك بناءً على تحديد تاريخ الترسبات البركانية في الطبقات الصخرية بمنطقة شرق توركانا.

من كان يمر من هنا؟ 

تكتسب هذه الآثار أهمية خاصة، إذ يُظهر التحليل التشريحي والوظيفي الدقيق لأشكالها أن نوعين مختلفين من أشباه البشر قد تركا آثارهما على ضفاف البحيرة نفسها، وذلك خلال فترة زمنية لا تتعدى بضع ساعات أو أيام، بل ربما دقائق معدودة!

نعلم أن الفترة الزمنية لآثار الأقدام هذه كانت متقاربة جدًا، بسبب التجارب التي أُجريت على ضفاف بحيرة توركانا الحديثة، والتي أظهرت أن السطح الطيني القادر على الاحتفاظ بالآثار بشكل دقيق لا يصمد طويلًا قبل أن تدمّره حركة الأمواج و أو يتشقق تحت تأثير أشعة الشمس.

للمرة الأولى على الإطلاق، تمكّن العلماء من تأكيد تعايش نوعيّ أشباه البشر، الإنسان المنتصب -أحد أسلافنا المحتملين-، وإنسان كسارة البندق -القريب الأكثر بعدًا- جنبًا إلى جنب في نفس الحقبة الزمنية ونفس الموقع الجغرافي. وقد كانا، مع أنواع عديدة من الثدييات، جزءًا من مجتمع حيوي قديم استوطن حوض توركانا.

علاوة على ذلك، وباستخدام الآثار الجديدة كمرجع، تشير تحليلاتنا إلى أن آثار أشباه البشر الأخرى الموصوفة سابقاً في المنطقة نفسها تدل على تعايش هذين النوعين في حوض توركانا لمدة لا تقل عن 200 ألف عام، حيث كانا يتركان آثارهما بشكل متكرر على ضفاف البحيرات الضحلة.

تُثير هذه الآثار أفكارًا وتساؤلات جديدة حول أسلافنا الأوائل. هل كانوا يتناولون النباتات التي تنمو على ضفاف البحيرات؟ طرح بعض علماء الأحياء القديمة هذا الاحتمال بشأن نوع بارانثروبوس بويزي (إنسان كسارة البندق) الضخم، لأن التركيب الكيميائي لأسنانه يشير إلى نظام غذائي عشبي متخصص يعتمد على نباتات شبيهة بالأعشاب والقصب.

تُظهر الاختبارات الكيميائية نفسها على أسنان الهومو إريكتوس (الإنسان المنتصب) -النوع السلف للإنسان العاقل (هومو سابينس)- نظامًا غذائيًا مختلطًا يُحتمل أنه اشتمل على البروتين الحيواني بالإضافة إلى النباتات.

وفرت بيئة ضفاف البحيرة مصادر غذائية متعددة، من بينها نباتات القصب وذوات الصدفتين والأسماك والطيور، بالإضافة إلى الزواحف مثل السلاحف والتماسيح. مع ذلك، شكل هذا الموطن خطورة على الرئيسيات ثنائية القدم التي يتراوح طولها بين (1.2 و 1.5) مترًا.

حتى في العصر الحالي، يتعرض السكان القاطنون على طول الشواطئ لهجمات التماسيح بين الحين والآخر، كما يُعرف فرس النهر المحلي بسلوكه العدواني. لذا، فإن أي عامل جذب دفع أشباه البشر إلى شاطئ البحيرة لا بد أنه كان يستحق تحمل هذه المخاطر.

يستحيل في الوقت الحالي تحديد طبيعة التفاعل بين هذين النوعين على وجه الدقة. وقد تُسفر الحفريات المستقبلية، التي تهدف للكشف عن المزيد من مسارات الأقدام، عن معلومات جديدة تلقي الضوء على سلوكهما. مع ذلك، فإنه لمن المثير للتأمل تصور هذين «القريبين» من أشباه البشر يتعايشان كجيران متقاربين لمئات الآلاف من السنين.

بقايا أقدام بشرية قديمة متاحة للزيارة

يجري تطوير أعمال التنقيب السابقة لمسارات أقدام أشباه البشر بالقرب من قرية تُدعى إيليريت، الواقعة على بُعد 40 كيلومترًا (25 ميلًا) شمال موقعنا الجديد، لتصبح متحفًا من خلال مشروع تُشرف عليه المتاحف الوطنية في كينيا. سيتيح هذا المشروع للعامة، وأفراد مجتمع الداسانيش المحلي، والوفود التعليمية، والزوار فرصة معاينة مجموعة كبيرة من آثار أقدام أشباه البشر التي تُقدر أعمارها بنحو 1.5 مليون سنة على مساحة سطحية واحدة تم التنقيب عنها.

تحتفظ هذه الطبقة بآثار أقدام تعود لما لا يقل عن ثمانية أفراد من أشباه البشر، ونعتقد الآن أنها تمثل أفرادًا من كل من نوعي هومو إريكتوس و بارانثروبوس بويزي. من بين هذه الآثار، تبرز مجموعة من البالغين ذوي الأحجام المتقاربة الذين ساروا معًا على امتداد ضفة البحيرة، تاركين وراءهم شهادة حية على تاريخ وجودهم.

يُعدّ المتحف المبني فوق موقع الآثار بمثابة حاجز وقائي يهدف إلى منع تآكل الموقع وحمايته من تأثيرات الأمطار الموسمية. يهدف مركز التواصل المجتمعي والتعليم المُلحق بالمتحف إلى إشراك المجموعات التعليمية المحلية والشباب في عمليات التعلّم والتعليم، ونشر الوعي حول هذا السجل الاستثنائي لتاريخ الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، والذي حُفظ في محيطهم. من المقرر افتتاح المتحف الجديد في يناير 2025.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *