تحتوي جميع الكائنات الحية على مخطط أساسي يوفره الحمض النووي (DNA) الموجود في كل خلية من خلاياها. ومع ذلك، تختلف كمية الحمض النووي في كل خلية والتي نشير إليها بحجم الجينوم بشكل مذهل عبر شجرة الحياة.
في الحيوانات، يتراوح حجم الجينوم من الجينوم الصغير للطفيلي البحري الذي يشبه الدودة إنتوشيا فاريابيلي Intoshia variabili، وهو أصغر بمئتي مرة من الجينوم البشري، إلى الجينوم الضخم لسمكة الرخامية بروبتيروس أتيوبيكوس Protopterus aethiopicus، والذي يُقدّر بأنه أكبر بأكثر من 40 مرة من الجينوم البشري. وتظهر النباتات تنوعاً مشابهاً، إذ تحمل إحدى النباتات، وهي السرخس المتشعب تميسبتريس أوبلانكيولاتا Tmesipteris oblanceolata، الرقم القياسي لأكبر جينوم، وتحتوي كل خلية فيها على حمض نووي أكثر بـ50 مرة مما تحتويه الخلية البشرية.
يبرز هذا التنوع في حجم الجينوم التنوع الرائع للحياة على الأرض، ولكنه يثير أيضاً سؤالاً تطورياً محيراً. فبينما تمكّن الجينومات الأصغر النباتات والحيوانات من النمو بسرعة وكفاءة أكبر، لماذا تمتلك بعض الأنواع جينومات أكبر بكثير؟
يتطلب نمو الكائنات الحية تكاثر الحمض النووي لإنتاج خلايا جديدة، وهو أمر أساسي للنمو. الجينومات الأصغر أكثر كفاءة لأنها تحتاج إلى وقت أقل لتكرار كمية أقل من الحمض النووي خلال انقسام الخلايا، وتتطلب مغذيات أقل، لا سيما مكونات الحمض النووي مثل النيتروجين والفوسفور.
بفضل هذه المزايا، ليس من المفاجئ أن معظم الأنواع تمتلك جينومات صغيرة. لكن وجود الجينومات الكبيرة يشير إلى أن تكاليف النمو المرتبطة بها يمكن التغلب عليها، بل وقد توفر مزايا في ظروف معينة.
أجرى فريق بحثي مؤخراً دراسة عن الفوائد المحتملة لامتلاك جينوم أكبر لدى أنواع الحشائش. تُعتبر الحشائش عائلة نباتية واسعة الانتشار، وتوجد في جميع القارات وتسيطر على البيئات المفتوحة بدءاً من التندرا القطبية إلى الأراضي العشبية المعتدلة والسافانا الاستوائية. تمتلك الحشائش أحجام جينومات متنوعة، مما يجعلها مجموعة مثالية لدراسة ما إذا كانت الجينومات الأكبر تقدم فوائد فريدة.
في أبحاثنا، التي نُشرت في مجلة New Phytologist، درسنا سرعة نمو أنواع مختلفة من الحشائش في ظروف تجريبية مصممة لمحاكاة بيئاتها الطبيعية، مثل درجات الحرارة المرتفعة، نقص المغذيات في التربة، والجفاف. ثم دمجنا هذه البيانات مع معلومات عن حجم الجينوم لكل نوع.
وجدنا أنه بينما كانت الأنواع ذات الجينومات الصغيرة تؤدي أداءً أفضل في معظم الظروف البيئية، كانت هناك حالتان بدا فيهما أن الجينومات الأكبر تقدم مزايا. في كلتا الحالتين، تعود الفوائد على الأرجح إلى حقيقة أن الجينومات الأكبر تحتوي على خلايا أكبر لاستيعاب الحمض النووي الإضافي.
في التربة الغنية بالمغذيات، حيث تتوفر الموارد اللازمة لتكرار كميات كبيرة من الحمض النووي، ازدهرت الأنواع ذات الجينومات الكبيرة. فقد أبطأت المستويات المنخفضة من المغذيات نمو هذه الأنواع، ولكن تفوقت على الأنواع ذات الجينومات الأصغر عندما كانت المغذيات وفيرة.
الخلايا الأكبر ذات الجينومات الكبيرة يمكنها إنتاج المزيد من الكتلة الحيوية، مثل الأوراق، مقارنة بالخلايا ذات الجينومات الأصغر. ورغم أن هذا يتطلب موارد إضافية، لكن تزيد هذه الميزة من نموها بشكل أسرع في البيئات الغنية بالمغذيات، متفوقة على جيرانها الأصغر.
في المناطق ذات مواسم النمو الباردة، مثل المناطق المعتدلة، قدّمت الجينومات الكبيرة ميزة أخرى. لفهم ذلك، يجب التطرق إلى مراحل نمو النباتات:
انقسام الخلايا: يحدث هذا في مناطق معينة من النبات تُعرف بـ«القمم النامية» الموجودة في أطراف السيقان والجذور.
تمدد الخلايا: تمتلئ الخلايا الجديدة بالماء، مما يؤدي إلى استطالة الأوراق أو السيقان أو الجذور.
تؤدي درجات الحرارة الباردة إلى إبطاء انقسام الخلايا بشكل كبير، مما يعني إنتاج خلايا جديدة بمعدل أبطأ. لكن تمدد الخلايا يتأثر بدرجة أقل، مما يسمح للخلايا الكبيرة ذات الجينومات الكبيرة بالنمو بسرعة أكبر خلال التمدد، حتى في ظل البرودة.
يفسر هذا التمدد السريع النمو السريع لنباتات مثل النرجس البري وزهور الجرس في أوائل الربيع، إذ تكون قد أنهت انقسام خلاياها في الصيف السابق، ولا تمنعها البرودة من التمدد. الأمر ذاته ينطبق على الحشائش المعمرة ذات الجينومات الكبيرة، مما يفسر وجود معظمها في البيئات الباردة.
رغم أن الجينومات الصغيرة تمنح كفاءة أعلى في النمو، لكن الجينومات الكبيرة والصغيرة تقدم مزايا مختلفة حسب البيئة. التنوع في أحجام الجينومات بين الحشائش يُعد أحد الأسباب التي تفسر نجاحها وانتشارها في جميع أنحاء العالم، مما يبرز أهمية التنوع الجيني في بقاء الحياة على الأرض ونجاحها.
أما بالنسبة للبشر، فإن الدور الذي لعبه حجم جينومنا المتوسط في نجاحنا العالمي غير واضح تماماً. لكن قد تساعدنا قدرتنا على التنقل للحصول على الموارد التي نحتاجها، على عكس الحشائش التي درسناها في تجاوز التكاليف الغذائية المرتبطة بامتلاك جينوم أكبر.
ترجمة: ولاء سليمان
المصدر: phys.org