كائنات غامضة: دليلنا لفهم أصول التخصص وتقسيم العمل بين الحيوانات والبشر

لطالما اعتمدت المجتمعات البشرية على تقسيم العمل لضمان ازدهارها. فإذا تجولنا في أي مدينة، سنجد بلا شك خبازين يخبزون الخبز وسائقي شاحنات ينقلونه إلى الأسواق وبائعي البقالة يبيعونه للجمهور.

تكشف دراسة حديثة أجراها علماء الأحياء القديمة في متحف جامعة كولورادو للتاريخ الطبيعي عن آليات تطور أنظمة تقسيم العمل المعقدة لدى الكائنات المستعمرة، مثل النمل والنحل، قبل ملايين السنين. تشير نتائج الفريق إلى أن الكفاءة في مشاركة الموارد، مثل الغذاء، داخل المستعمرة قد أتاحت لبعض الأفراد تطوير صفات لم يسبق لها مثيل.

كشفت دراسة جديدة نُشرت في مجلة بي إن إيه أس نيكسوس عن وجود دافع مشترك يجمع بين أصغر الكائنات الحية والبشر، حسبما أفادت المؤلفة الرئيسية للدراسة، سارة ليفنثال.

وأضافت: «نلاحظ أن تقسيم العمل ظاهرة شائعة في كل مكان حولنا، ولكن قبل هذه الدراسة، لم يسبق أن استكشف هذا المفهوم بشكل عميق من خلال السجل الأحفوري». الباحثة ليفنتال حاصلة حديثًا على درجة الدكتوراه في العلوم الجيولوجية من جامعة كولورادو بولدر.

كبسولات عابرة للزمن

تسلط هذه الدراسة الضوء على مجموعة غامضة من الحيوانات المائية تعرف باسم الحيوانات الطحلبيّة. تتميز هذه الكائنات بحجمها الصغير وشكلها الهلامي الذي يشبه قطرات مخاطية عائمة في الماء. كما تنمو على شكل صفائح رقيقة تغطي أسطح الكائنات الأخرى، مثل المرجان، والأرصفة. ومن الجدير بالذكر أن الحيوانات الطحلبية ليست كائنات فردية، بل تتكون من مجتمعات كبيرة تضم آلاف الأفراد المجهرية «الزُويدات» التي تعمل ككائن واحد متكامل.

جمع الفريق في هذا البحث حفريات تغطي فترة قصيرة ومهمة جدًا في تاريخ تطور هذه الحيوانات الطحلبية من جنس ويلبيرتوبورا، وهي الفترة التي عاشت فيها الديناصورات، أي قبل حوالي 103 إلى 96 مليون سنة.

لاحظ الباحثون أن بعض الزُويدات في هذه المستعمرات بدأت تفقد قدرتها على الحصول على غذائها بنفسها لكنها لم تمت بل استفادت على الأرجح من التعاون مع بقية أفراد المستعمرة التي شاركتها غذائها. وبفضل هذا التعاون، تمكنت هذه الأفراد من تطوير قدرات جديدة لم يسبق لها مثيل.

تُشير ليڤنثال: «حتى مع فقدان هذه الأفراد قدرتها على التغذية، تمكنت المستعمرة من إعالتهم دون أن يُثقل كاهلها. يسمح هذا الأمر للنحل بالقيام بمهام أخرى مثل رعاية الصغار وحماية الخلية».

مستعمرة حيوانية طحلبية متحجرة كما تظهر تحت المجهر. كل شكل بيضاوي كان يومًا ما حيوانًا مفردًا. حقوق الصورة: سارة ليڤينثال

التخصص في الأعمال

لاحظت ليفنثال أن معظم الزُويدات التي تعيش معًا في مستعمرات الحيوانات الطحلبية تشبه بعضها البعض تمامًا، فهي كصناديق الأحذية الصغيرة ذات الفتحة الدائرية أعلاها. ولكن هناك بعض الزُويدات الغريبة في هذه المستعمرات، تسمى «الأفيكولاريا»، لها شكل مختلف تمامًا.

تطورت لدى بعض الأنواع، مثل الأفيكولاريا، زوائد تشبه رأس طائر الفلامنجو. تستخدم هذه الزوائد للدغ الحيوانات التي تقترب بشكل مفرط من مستعمراتها.

لاحظت ليڤنثال أن بعض المستعمرات الكاريبية تستخدم زوائد الأفيكولاريا للزحف في قاع البحر لتجنب الدفن تحت الرمال.

إلى الآن، عجز العلماء عن تقديم تفسير شامل لكيفية نشوء مثل هذا التقسيم للأعمال في المجتمعات الطبيعية. يستند أحد التفسيرات الشائعة إلى مفاهيم من علم الاقتصاد البشري. ففي المجتمعات البشرية البدائية، كان الأفراد يقومون بمجموعة واسعة من المهام حتى لو كانت محدودة، بما في ذلك توفير الغذاء، وإعداد الطعام، والجمع وغيرها الكثير.

بمرور الوقت، أصبح بعض الأفراد متخصصين في وظيفة واحدة (مثل الصيد)، بينما قام آخرون بأعمال أخرى (مثل الطهي). وبالمثل، ربما طوّرت الحيوانات القديمة وظائف متميزة من خلال التخصص في مهام كانت تقوم بها أسلافها بالفعل.

في بحثها الجديد، قررت ليڤنثال وزملاؤها التحقق من صحة هذه الفرضية.

جمع الفريق نحو 120 أحفورة لمستعمرات حيوانية طحلبية من متحف التاريخ الطبيعي الوطني التابع لمؤسسة سميثسونيان. وقد شارك ستيوارت إيدي من مؤسسة سميثسونيان أيضًا في تأليف هذه الدراسة الجديدة.

تُظهر مستعمرات الحيوانات الطحلبية تنوعًا كبيرًا في أشكالها، والذي ينعكس بدوره على شبكات اتصالها الفسيولوجية. حقوق الصورة: مجلة بي إن إيه أس نيكسوس (2024)

 

المشاركة تعني الاهتمام

توضح  ليڤنثال إلى أن الحيوانات الطحلبية بدأت في تطوير أعضاء الأفيكولاريا منذ حوالي 103 مليون سنة. ولكن في لمح البصر، من منظور زمني تطورّي، بدأت الثقوب في قمة هذه الزُويدات في اكتساب أشكال وأحجام لم تشهدها أسلافها (بعضها تحول، على سبيل المثال، إلى شكل ملعقة بدلاً من الشكل الدائري). كما فقدت العديد من هذه الزُويدات الجديدة قدرتها على التغذية.

ببساطة، لم تطوّر هذه الكائنات تخصصًا بالطريقة المتوقعة، بل تحولت إلى كائنات جديدة تمامًا.

«لقد بدا الأمر وكأنها اكتشفت فجأة إمكانيات لم تكن معروفة من قبل، فاستغلتها على أكمل وجه للبقاء»، بحسب تصريح كارل سيمبسون، أحد مؤلفي الدراسة، وأمين قسم علم أحياء اللافقاريات القديمة في متحف جامعة كولورادو للتاريخ الطبيعي، والأستاذ المساعد في قسم العلوم الجيولوجية».

طوّرت الدكتورة ربيكا موريسون، الأستاذة المساعدة في علوم الحاسوب بجامعة كولورادو بولدر والمؤلفة المشاركة في الدراسة، مجموعة محاكاة حاسوبية لتحاكي كيفية تدفق العناصر الغذائية والموارد الأخرى داخل هذه المستعمرات الطحلبية القديمة.

توصل الباحثون إلى أن الزويدات العادية كانت قادرة على جمع كمية كافية من العناصر الغذائية لتغذية مستعمراتها بأكملها، بما في ذلك الأفكولاريا التي لا تتغذى. وقد يكون لهذه الأفكولاريا دور مهم في عملية هضم الطعام في المستعمرة.

لا يستطيع الباحثون الجزم بمدى تماثل المسارات التطورية التي أدت إلى ظهور تقسيم العمل في الحيوانات المستعمرة الأخرى، مثل النمل والنحل. ومن جانبه، تعاون سيمبسون مؤخرًا مع فريق من علماء الآثار لدراسة كيفية نشوء وتطور تقسيم العمل في مجموعة حيوانية مختلفة تمامًا: البشر.

يختتم سيمبسون قائلًا: «نجتمع معًا ونعرب عن دهشتنا من أننا جميعًا ندرس نفس المشكلة بالضبط».

ترجمة: علاء شاهين.

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *