هل يكشف ذباب الفاكهة أسرار تطور الدماغ؟

هل يكشف ذباب الفاكهة أسرار تطور الدماغ؟ اكتشاف جديد يغير النظرة التقليدية

يمتلك ذكور ذباب الفاكهة عدة طرق للبحث عن الشريك، حيث يمكنهم استشعار الفيرومونات في الظلام أو الاعتماد على الإشارات البصرية في الضوء. والآن، تكشف أبحاث جديدة أن هذه المخلوقات الصغيرة تستخدم شبكة مرنة من الدوائر العصبية الدماغية المتعددة للتكيف بسرعة مع إشارات التزاوج المختلفة.

نشرت هذه الدراسة في مجلة «Nature»، وهي الأولى من نوعها التي تصف كيف تدخل الأنواع المختلفة من ذباب الفاكهة مدخلات حسية جديدة، مثل الفيرومونات، في مجموعة من الدوائر الدماغية الأساسية من دون الحاجة إلى تطوير مسارات عصبية جديدة من الصفر. وتوفر هذه النتائج إطارًا أوسع لفهم كيفية تغيّر أسلاك الدماغ لتعزيز تطور السلوك.

تقول فانيسا روتا، رئيسة مختبر علم الأعصاب والسلوك: «تنوع السلوكيات في المملكة الحيوانية هائل، ولكن آليات تشكيل الأنظمة العصبية عبر التطور كانت دائمًا صعبة الفهم». وأضافت: «لقد اكتشفنا هنا ما نعتقد أنه آلية عصبية رئيسية تمنح دوائر الدماغ المرونة اللازمة لإعادة التوصيل عبر الأنواع».

التوصيل والتشغيل

تعد كيفية تكيف الدوائر الدماغية بسرعة مع التغيرات الاجتماعية التي تطرأ على الأنواع المتنوعة من أعظم أسرار تطور السلوكيات، مما يمكّن الأفراد من العثور على الشركاء المثاليين. فمثلًا، تتطور سلوكيات المغازلة بسرعة، ما يجعل من الصعب تصور أن دماغ الذبابة يعيد ابتكار نفسه تمامًا في كل مرة يدخل فيها فيرومون جديد إلى مجموعة إشارات «دروسوفيلا».

ولكن حتى الآن، لم يكن من الممكن تحديد أين يعمل التطور في الجهاز العصبي لتعديل السلوك، لذا بقيت المزايا الرئيسية التي تجعل هذه الدوائر قابلة للتكيف لغزًا. لجأ فريق روتا إلى دراسة ذباب الفاكهة، إذ تشترك الأنواع ذات القرابة الوثيقة في أدمغة متشابهة لكنها تعتمد على إشارات مختلفة بشكل كبير في طقوس التزاوج.

فمثلًا، يعتمد نوع دي سيمولانس D. simulans بشكل أساسي على الإشارات البصرية للعثور على شريك، في حين طوّر نوع دي ياكوبا D. yakuba قدرة جديدة لاستخدام الفيرومونات للعثور على شريك حتى في الظلام التام. وقد أتاح هذا التنوع فرصة لدراسة كيفية استجابة الأدمغة المتشابهة لإشارات اجتماعية مختلفة.

يقول روري كولمان، الباحث الرئيسي في الدراسة وزميل ما بعد الدكتوراه في مختبر روتا: «بدأنا بالبحث عن أجزاء في الدماغ قد تكون مهيأة للمرونة. كنا نبحث عن خصائص تجعل الدائرة قابلة للتكيف جوهريًا، نقاط ساخنة تطورية قد تدفع التنوع السلوكي».

وبعد مقارنة دوائر استشعار الفيرومونات عبر أنواع متعددة باستخدام اختبارات سلوكية وأدوات جينية وتقنيات تصوير عصبي وتحرير الجينوم بتقنية كريسبر، استطاع الفريق في النهاية تحديد الخلايا العصبية الحسية في الأرجل الأمامية للذكور وخلايا P1 في الدماغ العلوي كعناصر أساسية لتعديل سلوك المغازلة عبر الأنواع.

ووجد الفريق أن البنى العصبية الأساسية لسلوكيات التزاوج لدى الذكور، مثل خلايا P1، موجودة في جميع الأنواع، لكن يمكن توصيل إشارات حسية مختلفة إلى هذه العقدة بمرونة، مما يسمح لأنواع الذباب بتطوير استراتيجيات تزاوج مختلفة من دون الحاجة إلى إعادة توصيل أدمغتها بالكامل.

وجد الباحثون أن خلايا P1 تتنشط استجابة لأنواع مختلفة من الفيرومونات في كل من دي ميلانوغاستر D. melanogaster ودي ياكوبا D. yakuba، لكن دور خلايا P1 في بدء عملية التزاوج ظل محفوظًا عبر كلا النوعين.

تقول روتا: «أحد الاكتشافات المهمة من عملنا هو أن هناك عقدًا محددة داخل أدمغة كل من هذه الأنواع يمكنها دمج أنواع حسية جديدة بمرونة». وتضيف: «تسمح هذه المرونة لعقد مثل خلايا P1 بمواصلة بدء المغازلة عبر الأنواع المختلفة، ولكنها تستجيب لإشارات فريدة من نوعها لكل منها».

دماغ اجتماعي

تندرج هذه الأبحاث ضمن إطار عمل مركز برايس فاميلي للدماغ الاجتماعي في معهد روكفيلر، وهي مبادرة تركز على فهم الأسس العصبية والخلوية والجزيئية للسلوك الاجتماعي. وإضافة إلى تسليط الضوء على المرونة في مواجهة المدخلات الحسية الجديدة، تعرض هذه الدراسة أيضًا نهجًا تجريبيًا لدراسة كيفية تطور السلوكيات الاجتماعية عبر الأنواع.

تقول روتا: «تثبت نتائجنا أن دروسوفيلا هي نظام قوي لدراسة تطور السلوكيات».

من خلال فحص كيفية تشكيل التغيرات في الدوائر العصبية للسلوكيات مثل التزاوج، يأمل الفريق في تعزيز فهمنا للتفاعل المعقد بين وظيفة الدماغ والسلوكيات الاجتماعية، وتوفير إطار لفهم كيفية بناء الدوائر الاجتماعية لإنتاج سلوكيات تكيفية في دماغ الإنسان.

وعلى الرغم من أن بنى أدمغة الذباب والبشر تختلف اختلافًا كبيرًا، من المحتمل أن بعض المبادئ الأساسية حول كيفية تطور الدوائر العصبية وتكيفها قد تكون محفوظة عبر الأنواع.

يقول كولمان: «نأمل أن تكشف دراسات التطور المقارن مثل هذه عن القواعد الأساسية التي تشكل كيفية بناء الدوائر العصبية عبر المملكة الحيوانية، بما في ذلك البشر».

وتضيف روتا: «يعتقد أن العديد من الاضطرابات العصبية تنشأ من عدم توصيل الدوائر بشكل صحيح». وتستطرد قائلة: «من خلال دراسة الدوائر العصبية من منظور التطور، نأمل في تسليط الضوء على الأنماط العصبية التي يمكن أن تتغير وكيفية تعديلها، ليس من خلال أمراضٍ تؤدي إلى اختلالات، بل كنتيجة للانتقاء التطوري».

ترجمة: ولاء سليمان

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *