الزراعة والجينات: القصة غير المروية لتحول البشرية

الزراعة والجينات: القصة غير المروية لتحول البشرية

تشير دراسة أجريت مؤخرًا إلى أن الزراعة سرّعت تطور الجينوم البشري للحصول على الطاقة من الأطعمة النشوية

على مدى الـ12 ألف سنة الماضية، زادت قدرة البشر في أوروبا بشكل ملحوظ على هضم الكربوهيدرات، فقد ارتفع عدد الجينات المسؤولة عن إنتاج الإنزيمات التي تكسر النشويات من متوسط ثمانية إلى أكثر من 11، وذلك وفقًا لدراسة جديدة أجراها باحثون من الولايات المتحدة وإيطاليا والمملكة المتحدة. يتعلق هذا الارتفاع في عدد الجينات التي ترمز لهذه الإنزيمات بانتشار الزراعة عبر أوروبا من الشرق الأوسط، مما أدى إلى زيادة النشويات في النظام الغذائي البشري، معتمدًا على أطعمة غنية بالكربوهيدرات مثل القمح والحبوب الأخرى.

عادةً ما يؤدي وجود نسخ أكثر من الجين إلى زيادة في مستويات البروتين الذي ينتجه الجين، والإنزيم الذي دُرس في هذه الحالة هو إنزيم الأميلاز الذي يُنتج في اللعاب والبنكرياس لتحطيم النشويات إلى سكريات تمد الجسم بالطاقة. نُشرت الدراسة في مجلة «Nature»، وقدم الباحثون فيها طريقة جديدة لتحديد أسباب الأمراض التي تتعلق بجينات متعددة النسخ في الجينوم البشري، مثل جينات الأميلاز.

قاد هذا البحث بيتر سودمانت، الأستاذ المساعد في علم الأحياء التكاملية بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وإريك غاريسون من مركز العلوم الصحية بجامعة تينيسي في ممفيس.

قال سودمانت: «إذا وضعت قطعة من المعكرونة الجافة في فمك، ستلاحظ أنها تصبح حلوة بعد فترة. هذا بسبب إنزيم الأميلاز اللعابي الذي يحول النشويات إلى سكريات. يحدث ذلك عند جميع البشر وعند بعض الرئيسيات الأخرى».

تحتوي الجينومات الخاصة بالشمبانزي والبونوبو والنياندرتال جميعها على نسخة واحدة فقط من الجين الموجود على الكروموسوم الأول، الذي يرمز لإنزيم الأميلاز اللعابي، والمعروف باسم «AMY1». وينطبق الشيء نفسه على جيني الأميلاز البنكرياسي، «AMY2A» و«AMY2B». وتوجد هذه الجينات الثلاثة بالقرب من بعضها في منطقة معينة من الجينوم الرئيسي تُعرف باسم «موضع الأميلاز».

لكن الجينوم البشري يحتوي على أعداد مختلفة تمامًا من كل جين أميلاز.

قال نيكولاس لو، زميل ما بعد الدكتوراه بجامعة كاليفورنيا في بيركلي وأحد المؤلفين الرئيسيين للورقة: «وجدت دراستنا أن كل نسخة من الجينوم البشري تحتوي على ما بين نسخة واحدة إلى 11 نسخة من جين «AMY1»، وما بين صفر إلى ثلاث نسخ من جين «AMY2A»، ومن نسخة إلى أربع نسخ من جين «AMY2B». يرتبط عدد النسخ بالتعبير الجيني ومستويات البروتين، وبالتالي القدرة على هضم النشويات».

اكتشف الباحثون أنه قبل نحو 12 ألف عام، كان لدى البشر في جميع أنحاء أوروبا متوسط أربعة نسخ من جين الأميلاز اللعابي، بينما ارتفع هذا العدد إلى حوالي سبعة نسخ حاليًا. وزاد العدد الإجمالي لنسخ جيني الأميلاز البنكرياسي بمقدار نصف نسخة في المتوسط خلال هذا الوقت في أوروبا.

ميزة البقاء لوجود جينات أميلاز متعددة

بوجه عام، زاد انتشار الكروموسومات التي تحمل نسخًا متعددة من جينات الأميلاز (أي عدد نسخ أكبر مما لدى الشمبانزي والنياندرتال) سبع مرات خلال الـ12 ألف سنة الماضية، مما يشير إلى أن هذا التطور منح أسلافنا ميزة بقاء.

ووجد الباحثون أدلة على زيادة جينات الأميلاز في مجموعات زراعية أخرى حول العالم، وأن المنطقة التي تقع فيها جينات الأميلاز على الكروموسومات تتشابه في جميع هذه المجموعات، بغض النظر عن نوع النباتات النشوية التي استأنستها تلك الثقافات.

تشير هذه النتائج إلى أنه مع ظهور الزراعة بشكل مستقل في مناطق مختلفة حول العالم، تغير الجينوم البشري بسرعة بطرق متشابهة للتعامل مع زيادة الكربوهيدرات في النظام الغذائي.

وجد الباحثون أن معدل التطور الذي أدى إلى تغيرات في عدد نسخ جين الأميلاز كان أسرع بمقدار 10 آلاف مرة من معدل تغيرات الأزواج الأساسية المفردة في الحمض النووي البشري.

قال سودمانت: «لقد كان من المفترض منذ فترة طويلة أن عدد نسخ جينات الأميلاز قد زاد في أوروبا منذ بزوغ الزراعة، ولكن لم نتمكن من سلسلة هذه المنطقة بالكامل من قبل. إنها متكررة ومعقدة للغاية».

وتابع: «والآن تمكنا أخيرًا من فهم هذه المناطق المعقدة من الجينوم بشكل كامل، وتمكنا من خلال ذلك من التحقيق في تاريخ تطور المنطقة وتوقيته، والتنوع عبر السكان العالميين. ويمكننا بذلك البدء في التفكير في الارتباطات مع الأمراض البشرية».

أحد هذه الارتباطات المشكوك فيها هو مع تسوس الأسنان. أشارت دراسات سابقة إلى أن وجود عدد أكبر من نسخ جين «AMY1» يرتبط بزيادة التسوس، ربما لأن اللعاب يحول النشويات في الطعام الممضوغ إلى سكر بطريقة أفضل، مما يغذي البكتيريا التي تتسبب في تآكل الأسنان.

ويوفر هذا البحث طريقة لاستكشاف مناطق أخرى من الجينوم، مثل تلك التي تتعلق بالجهاز المناعي، وتصميم الجلد، وإنتاج المخاط التي تكررت بشكل سريع في التاريخ البشري الحديث.

قال غاريسون: «إحدى الأشياء المثيرة التي تمكنا من القيام بها هنا هي فحص الجينومات الحديثة والقديمة لتفكيك تاريخ التطور الهيكلي».

من مجتمعات الصيد إلى الزراعة

لطالما شك العلماء في أن قدرة البشر على هضم النشويات زادت بعد انتقال أسلافنا من حياة الصيد والجمع إلى نمط حياة زراعي مستقر. وأظهرت هذه الدراسة ارتباطًا بين هذا التحول ووجود نسخ أكثر من جينات الأميلاز لدى الناس من المجتمعات التي استأنست النباتات.

لكن منطقة الجينوم البشري التي تتواجد فيها هذه النسخ كانت صعبة الدراسة لأن تقنيات التسلسل التقليدية، التي تقطع الجينوم إلى قطع صغيرة ثم تعيد تجميعها، لم تتمكن من التمييز بين النسخ الجينية المختلفة. ولزيادة التعقيد، كانت بعض النسخ مقلوبة، أي تقرأ من السلسلة العكسية للحمض النووي.

أتاح التسلسل طويل القراءة للعلماء دراسة هذا الجزء من الجينوم بدقة، إذ تُقرأ سلاسل الحمض النووي الطويلة لتحديد المناطق المتكررة.

في وقت الدراسة، جمع «اتحاد مرجع الجينوم البشري» تسلسلات طويلة القراءة لـ94 جينومًا بشريًا أحادي الصبغة، والتي استخدمها الباحثون لدراسة تنوع المناطق التي تحتوي على جينات الأميلاز. ثم قيّم الفريق نفس المنطقة في 519 جينومًا أوروبيًا قديمًا.

قالت جوانا روشا، زميلة ما بعد الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا وأحد المؤلفين الرئيسيين للورقة، أن هذه البيانات ساعدت في تجنب التحيز الذي طالما رافق الدراسات المقارنة للجينوم والتي كانت تعتمد على جينوم بشري واحد كمقياس.

ترجمة: ولاء سليمان

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *