كيف أدت أخطاء «النسخ واللصق» إلى طيران الحشرات، وتخفّي الأخطبوط، وبداية إدراك البشر؟

قبل سبعمئة مليون عام، ظهر كائن رائع للمرة الأولى. ورغم أنه قد لا يبدو مميزًا جدًا وفقًا لمعايير اليوم، إلا أن هذا الحيوان كان له مقدمة ومؤخرة، وذروة ومنطقة سفلى. كان ذلك تكيّفًا ثوريًا في ذلك الوقت، وقد وضع الأساس لخطة الجسم الأساسية التي سترثها في نهاية المطاف معظم الحيوانات المعقدة، بما في ذلك البشر.

عاش هذا الحيوان غير الملحوظ في البحار القديمة للأرض، ويُحتمل أنه كان يزحف في قاع البحر. كان هذا السلف المشترك الأخير لثنائيات التناظر، وهي مجموعة فرعية كبيرة من الحيوانات تشمل الفقاريات (الأسماك والبرمائيات والزواحف والطيور والثدييات) واللافقاريات (الحشرات والمفصليات والرخويات والديدان وشوكيات الجلد وغيرها الكثير).

يمكننا اليوم ربط أكثر من 7000 مجموعة من الجينات بآخر سلف مشترك لثنائيات التناظر، وفقًا لدراسة أجريت على 20 نوعًا مختلفًا من ثنائيات التناظر بما في ذلك البشر، وأسماك القرش، وذباب مايو، وعديدات الأرجل، والأخطبوطات. أُنجزت هذه الاكتشافات من قبل باحثين في مركز تنظيم الجينوم (CRG) في برشلونة ونُشرت في مجلة Nature Ecology & Evolution.

على نحو مذهل، وجدت الدراسة أن حوالي نصف جينات السلف هذه أعيد استخدامها من قبل الحيوانات في أجزاء معينة من الجسم، خاصة في الدماغ والأنسجة التكاثرية. تعدّ هذه النتائج مفاجئة لأن الجينات القديمة المحفوظة عادة ما تمتلك وظائف أساسية مهمة مطلوبة في العديد من أجزاء الجسم.

أجرى الباحثون فحصًا دقيقًا، ووجدوا أن سلسلة من صُدف أخطاء «النسخ واللصق» خلال تطور ثنائيات التناظر هي المسؤولة. كانت هناك لحظة مهمة في وقت مبكر من تاريخ الفقاريات، عندما ظهرت مجموعة من الجينات الخاصة بالأنسجة لأول مرة بالتزامن مع حدثي تضاعف كامل للجينوم.

يمكن للحيوانات الاحتفاظ بنسخة واحدة للوظائف الأساسية، بينما يمكن استخدام النسخة الثانية كمادة خام للابتكار التطوري. حدثت مثل هذه الأحداث، بدرجات قياسية مختلفة، بشكل مستمر عبر شجرة تطور ثنائيات التناظر.

تشبه جيناتنا مكتبة ضخمة من الوصفات التي يمكن تحضيرها بطرق مختلفة لإنشاء أو تغيير الأنسجة والأعضاء. تخيل أنك حصلت على نسختين من وصفة الباييلا عن طريق الخطأ. يمكنك الاحتفاظ بالوصفة الأصلية والاستمتاع بها بينما يقوم التطور بتعديل النسخة الإضافية بحيث تصبح ريزوتو بدلاً من ذلك.

الآن، تخيلوا أن كتاب الوصفات بأكمله قد نُسخ مرتين وتخيلوا الاحتمالات التي يفتحها ذلك أمام التطور. تقول مؤلفة البحث والباحثة في مركز تنظيم الجينوم (CRG) في برشلونة، فيديريكا مانتيكا: «إن إرث هذه الأحداث، التي وقعت قبل مئات الملايين من السنين، بقي موجودًا في معظم الحيوانات المعقدة اليوم».

وجد مؤلفو الدراسة العديد من الأمثلة على وظائف جديدة خاصة بالأنسجة أصبحت ممكنة بسبب تخصص جينات السلف هذه، فعلى سبيل المثال، انتهى الأمر بكل من جيني TESMIN وTOM، اللذان نشآ من نفس السلف، بلعب دور متخصص مستقل في الخصية في كل من الفقاريات والحشرات. تتجلى أهميتها في حقيقة أن المشاكل المتعلقة بهذه الجينات يمكن أن تعطل إنتاج الحيوانات المنوية، ما يؤثر على الخصوبة في كل من الفئران وذباب الفاكهة.

وضع تخصص جينات السلف بعض الأسس لتطور الجهاز العصبي المعقد، إذ وجد الباحثون في الفقاريات جينات مهمة لتكوين أغماد الميالين حول الخلايا العصبية، والتي تعد ضرورية لنقل إشارات الأعصاب بسرعة. حددوا أيضًا FGF17 عند البشر، والذي يُعتقد أنه يلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على الوظائف المعرفية حتى الشيخوخة.

بالنسبة للحشرات، أصبحت جينات معينة متخصصة في العضلات والبشرة لتكوين الهيكل الخارجي، ما ساهم في قدرتها على الطيران. تخصصت جينات أخرى في جلد الأخطبوطات في استشعار منبهات الضوء، ما ساهم في قدرتها على تغيير اللون والتمويه والتواصل مع الأخطبوطات الأخرى.

من خلال البحث في تطور الأنواع على مستوى الأنسجة، تظهر الدراسة أن التغيرات بطريقة استخدام الجينات في أجزاء مختلفة من الجسم لعبت دورًا كبيرًا في خلق سمات حيوانية جديدة وفريدة. بعبارة أخرى، يمكن أن تؤدي الجينات عندما تبدأ وظيفتها في أنسجة معينة، إلى تطوير صفات أو قدرات جسدية جديدة، ما يساهم في نهاية المطاف في تطور الحيوان.

«يعيد عملنا النظر في الأدوار والوظائف التي تلعبها الجينات. يوضح لنا أن الجينات الضرورية للبقاء والتي حوفظ عليها عبر ملايين السنين يمكنها أيضًا اكتساب وظائف جديدة بسهولة شديدة في التطور».

يختم المؤلف المشارك للورقة والباحث في مركز تنظيم الجينوم وأستاذ الأبحاث في ICREA، مانويل إيريميا، قائلًا: «يعكس ذلك عمل التوازن التطوري بين الحفاظ على الأدوار الحيوية واستكشاف مسارات جديدة».

 

الصورة: ذبابة ماي، واحدة من 20 نوعًا دُرسوا في البحث، الصورة: إيزابيل ألمودي.

 

ترجمة: علاء شاهين

المصدر: phys.org

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *